هلِ الأهرامات هيَ قبلةُ المُسلمين؟
السّلامُ عليكم، في الآونةِ الأخيرةِ ظهرَت بعضُ الأطروحاتِ الفكريّةِ بأنَّ النّبيَّ محمّد صلّى اللهُ عليهِ وآله قد ظهرَ في مصرَ وأنَّ قبلةَ المُسلمينَ هيَ الأهراماتِ وأنَّ كتابَ اللهِ هوَ كتابُ النّبيُّ موسى عليهِ السّلام. والقرآنُ مُجرّدُ كتابٍ إستدلاليّ لهذا الكتابِ ويستدلّونَ على هذا الطّرحِ مِن خلالِ بعضِ الآياتِ القرآنيّةِ مثلَ: (وَأَوحَينَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَومِكُمَا بِمِصرَ بُيُوتًا وَاجعَلُوا بُيُوتَكُم قِبلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۗ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ) أي أنَّ أوّلَ قبلةٍ هيَ في مصر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
لم نقِف على مثلِ هذا الكلامِ ، وإن وُجدَ فهوَ لا يعدو أن يكونَ مُجرّدَ هرطقةٍ وكلامٍ بلا معنى، فالنّظرّيّاتُ التي تستحقُّ المُناقشةَ هيَ التي تقومُ على فرضيّاتٍ علميّةٍ تسندُها مجموعةُ شواهدَ وقرائن، أمّا مَن يتكلّمُ مِن وحي خيالِه وبغيرِ دليلٍ ولا برهانٍ لا يمكنُ الإستماعُ إليهِ فضلاً عَن مُناقشتِه، ومنَ الواضحِ أنَّ الذي يشكّكُ في التّاريخِ الإسلاميّ فاقدٌ لأبسطِ المُقوّماتِ المنهجيّةِ؛ لأنَّ تاريخَ الإسلامِ ليسَ بالتّاريخِ البعيدِ حتّى يقعَ الشّكُّ والتّردّدُ حولَ مفاصلِه الأساسيّةِ، كما أنَّ حضارةَ المُسلمينَ ليسَت مِن صنفِ الحضاراتِ التي إندثرَت وعفا عليها الزّمانُ، وإنّما هيَ حضارةٌ حيّةٌ وما زالَت مُستمرّةً منذُ البعثةِ وإلى اليوم، وما عليهِ المُسلمونَ اليومَ مِن واقعٍ دينيٍّ وثقافيٍّ وإجتماعيٍّ وحتّى لغويٍّ هوَ ثمرةُ ذلكَ التّواصلِ التّاريخيّ جيلاً عِن جيلٍ، ومنَ المُؤكّدِ أنّهُ لم تحظ شخصيّةٌ في التّاريخِ البشريّ باهتمامِ المؤرّخينَ كشخصيّةِ النّبيّ الأكرمِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) حيثُ تسابقوا في تدوينِ أبسطِ تفاصيلِ حياتِه الشّريفةِ، ناهيكَ عَن توثيقِ الأحداثِ الكُبرى أو المواقعِ الجُغرافيّةِ التي كانَت مسرحاً لحركتِه ومسيرتِه الرّساليّةِ، فهَل هناكَ عاقلٌ يتركُ كلَّ هذهِ الوثائقِ التّاريخيّةِ ليبتدعَ مِن وحي خيالِه تاريخاً آخرَ ومواقعَ جديدةً؟ بَل حتّى لو تركنا كلَّ هذهِ المصادرِ التّاريخيّةِ على جنبٍ فإنَّ ما في القرآنِ كافٍ لرسمِ المسار الجغرافيّ لحركةِ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) فمثلاً نصَّت آياتُه الشّريفةُ على مكّةَ كموقعٍ جغرافيّ لهُ أهمّيّتُه الخاصّةُ في الإسلامِ، قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيدِيَهُم عَنكُم وَأَيدِيَكُم عَنهُم بِبَطنِ مَكَّةَ مِن بَعدِ أَن أَظفَرَكُم عَلَيهِم ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرًا) وصرّحَت آيةٌ أخرى على أنَّ مكّةَ هيَ موضعُ بيتِه الحرامِ، قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلعَالَمِينَ) وتحدّثَت آياتٌ أخرى على أنَّ الكعبةَ هيَ بيتُ اللهِ الحرامِ، قالَ تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الكَعبَةَ البَيتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ) وصرّحَت آياتٌ أخرى بأنَّ البيتَ الحرامَ هوَ قبلةُ المُسلمينَ قالَ تعالى: (قَد نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبلَةً تَرضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجهَكَ شَطرَ المَسجِدِ الحَرَامِ ۚ وَحَيثُ مَا كُنتُم فَوَلُّوا وُجُوهَكُم شَطرَهُ)، وقالَ: (وَمِن حَيثُ خَرَجتَ فَوَلِّ وَجهَكَ شَطرَ المَسجِدِ الحَرَامِ)، كلُّ هذا التّسلسلِ في الآياتِ يكشفُ بشكلٍ قاطعٍ بأنَّ مكّةَ وبيتَ اللهِ الحرامَ هوَ المسرحُ الجغرافيُّ لكثيرٍ مِن تفاصيلِ الرّسالةِ، ولم يُهمِل القرآنُ أيضاً الإشارةَ إلى يثربَ التي كانَت تُمثّلُ الحاضرةَ الأولى للدّولةِ الإسلاميّةِ قالَ تعالى: (وَإِذ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنهُم يَا أَهلَ يَثرِبَ لَا مُقَامَ لَكُم فَارجِعُوا).
أمّا الآيةُ التي جاءَت في معرضِ السّؤالِ لا علاقةَ لها مِن بعيدٍ أو قريبٍ بكونِ النّبيّ مصريّاً أو أنَّ الأهراماتِ هيَ قبلةُ المُسلمينَ، فالبيوتُ التي أمرَ موسى وهارون (عليهم السّلام) بإنشائِها هيَ بيوتٌ لسكنِ بني إسرائيلَ وليسَت أهراماتٍ لدفنِ موتى الفراعنةِ، وإتّخاذُهم البيوتَ قبلةً يعني أن تكونَ بيوتُهم في قبالِ بعضِها البعضَ، على قولٍ، أو أن تكونَ بيوتُهم مُتّجهةً نحوَ بيتِ اللهِ الحرامِ على قولٍ ثانٍ، أو أن يُصلّوا في بيوتِهم حتّى يأمنوا منَ الأعداءِ على قولٍ ثالثٍ، ومهما إتّسعَت الإحتمالاتُ التّفسيريّةُ فإنّها لن تتّسعَ إلى درجةٍ تكونُ الآيةُ دليلاً على أنَّ موسى وهارونَ هُما مَن قام ببناء الأهراماتِ لتكونَ قبلةً للمُسلمين.
اترك تعليق