ما هوَ رأيُ البُخاريّ ومسلمٌ في الإمامة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
البخاريّ ومسلمٌ لم يكونا مِن علماءِ الكلامِ والعقائدِ حتّى نقفَ على رأيٍ واضحٍ يُنسبُ لهُما في موضوعِ الإمامةِ، وكلُّ ما يمكنُ فعله هو الكشفُ عن موقفِهما مِن خلالِ تعاملِهما معَ الأحاديثِ، فمنَ المُفترضِ بحسبِ المنهجِ العلميّ والموضوعيّ أن ينقلا كلَّ الأحاديثِ التي وصلَت إليهما بحسبِ ما يشترطانِ مِن شروطِ الصِحّة، وإذا لم يحدُث ذلكَ أو أنّهما حرّفا في الأحاديثِ بشكلٍ يتغيّرُ معهُ المعنى، علِمنا حينَها أنَّ الخلفيّةَ المذهبيّة والعقائديّة هيَ التي تقفُ خلفَ هذا الأمر، وبهذهِ الطّريقةِ يمكنُ الكشفُ عن موقفِهما في ما يخصُّ إمامةَ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، وهناكَ بحوثٌ وكتبٌ إهتمَّت بالتّحقيقِ في هذهِ المسائلِ، وكشفَت بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ ما يحملهُ البخاريُّ ومسلمٌ مِن موقفٍ سلبيّ تجاهَ إمامةِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، ويمكنُ للمُهتمِّ مراجعةُ كتابِ أضواءٌ على الصّحيحينِ للشّيخِ محمّد صادِق النّجمي وغيرِه منَ الكتب.
والسّؤالُ الذي يقودنا إلى معرفةِ موقفِهما منَ الإمامةِ هو: هَل عقيدتُهما الخاصّةُ كانَ لها دورٌ في نوعِ الأحاديثِ التي يرويانِها أم كانا يتحرّيانِ الدّقّةَ والموضوعيّةَ بعيداً عِن إعتقادِهم الخاص؟
وللإجابةِ على هذا السّؤالِ لابدَّ أن نلاحظَ بُعدينِ، البُعدُ الأوّلُ مدى إهتمامِهما بالرّوايةِ عنِ الأئمّةِ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، والبُعدُ الثّاني موقفُهما منَ الأحاديثِ التي فيها قدحٌ لمواقفِ الصّحابةِ هل ينقلانِها أو يصرفانِ النّظرَ عنها أم ينقلانِها معَ التّحريفِ؟ ومنَ المعلومِ أنَّ البحثَ المُفصّلَ في هذهِ العناوينِ لا يتناسبُ معَ المقامِ ولذا سوفَ نكتفي ببعضِ النّماذجِ ومَن يريدُ التّفصيلَ عليه الرّجوعُ إلى الكتبِ المُختصّة.
المُسلّمةُ البديهيّةُ التي يمكنُ الإنطلاقُ مِنها هيَ أنَّ البُخاريَّ ومسلم يتبنّيانِ مدرسةَ الخلفاءِ ويتعصّبانِ لها، ومنَ المعلومِ موقفُ هذهِ المدرسةِ المُناهضُ لمدرسةِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) وهذا لوحدِه كافٍ في تحديدِ موقفِهما منَ الإمامةِ، إلّا أنّهما لا يتبنّيانِ عقيدةَ مدرسةِ الخُلفاءِ فحسب وإنّما كانا يتعمّدانِ تحريفَ وتشويهَ بعضِ الأحاديثِ التي فيها قدحٌ للصّحابةِ، ممّا يعني أنّهما يتعصّبانِ لهذهِ المدرسةِ إلى درجةِ الغلوِّ ونكرانِ الحقائقِ، وفي المقابلِ كانا يتجنّبانِ الرّوايةَ عَن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) فالبُخاريّ مثلاً لم يروِ حتّى حديثاً واحداً عِن الإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام)، وهوَ الإمامُ الذي إزدحمُ العلماءُ على بابِه طلباً للحديثِ والرّوايةِ، حتى بلغَ مَن روى عنهُ ما يقاربُ أربعةَ آلافِ رجلٍ، وقد ذكرَهم أبو العبّاسِ بنُ عقدةَ الزّيديّ (المُتوفى سنةَ 333هـ) في كتابٍ لهُ عنِ الرّجالِ الذين رووا عن الصّادقِ، وقد ذكر النّجاشيّ أنَّ الحسنَ بنَ عليٍّ بنِ زيادٍ الوشّاءِ كانَ يقولُ: أدركتُ في هذا المسجدِ (الكوفة) تسعمائة شيخٍ؛ كلٌّ يقولُ حدّثني جعفرٌ بنُ محمّدٍ (رجالُ النّجاشيّ، ص39ـ40) ومنَ الصّعبِ إيجادُ ما يُبرّرُ موقفَهما مِن عدمِ الرّوايةِ عنِ الإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام) غيرَ كونِهما يتّخذانِ منهُ موقفاً عقائديّاً، وفي مقابلِ إحجامِهم عنِ الرّوايةِ عَن أئمّةِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) نجدُهم يروونَ عنِ النّواصبِ والمُجاهرينَ بالعداءِ لأهلِ البيتِ (عليهم السّلام) مثلَ عمرانَ بنِ حطّان مادحِ عبدِ الرّحمنِ بنِ ملجمٍ قاتلِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السّلام) ومروانَ بنِ الحكمِ الملعونِ على لسانِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله) وهوَ في صلبِ أبيهِ، وغيرُهم الكثيرُ منَ الخوارجِ والنّواصبِ؛ بل عندما يرويانِ شيئاً عَن طريقِ أهلِ البيتِ وهوَ نادرٌ جداً نجدُهما يرويانِ الأخبارَ الموضوعةَ التي تشينُ إليهم مثلما روى البخاريُّ ومسلمٌ عن الإمامِ زينِ العابدينَ (عليه السّلام) أنّهُ قالَ: إنَّ أميرَ المؤمنينَ عليّاً وفاطمةَ (عليهما السّلام) لم يكونا يستيقظانِ للصّلاةِ، وكانَ النّبيُّ يوقظهما! فقالَ عليٌّ لرسولِ الله ِ(ص) شيئاً فأجابَه النّبيُّ بآيةِ: (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكثَرَ شَيءٍ جَدَلاً) تقريعاً لعليّ) (صحيحُ البخاريّ ج2ص44 بابُ التّهجّدِ في الليلِ، صحيحُ مسلمٍ ج 2ص 187 بابُ إستحبابِ صلاةِ النّافلةِ) وكذا نسبا إليهِ حديثاً مزوّراً يذكرُ فيهِ قصّةَ شربِ حمزةَ للخمرِ وتعاطيهِ إيّاه (صحيحُ البُخاري 3، 80. صحيحُ مسلم 6، 85).
أمّا في البعدِ الآخرِ فيما يخصُّ الصّحابةَ نجدُهما يصرفانِ النّظرَ عَن كثيرٍ منَ الأخبارِ التي فيها إنتقاصٌ مِن قدرِهم، أو يرويانِها معَ شيءٍ منَ التّبديلِ والتّغييرِ حِفاظاً على صورةِ الصّحابةِ، وسوفَ نشيرُ هُنا إلى بعضِ النّماذجِ التي تثبتُ ذلكَ.
النّموذجُ الأوّلُ: لمّا أرادَ معاويةُ أن يأخذَ البيعةَ ليزيد كانَ عبدُ الرّحمنِ بنُ أبي بكرٍ مِن أشدِّ المُعارضينَ لبيعةِ يزيد، وكانَ مروانُ والياً مِن قبلِ معاويةَ على الحجازِ، فخطبَ مروانُ في مسجدِ الرّسولِ (ص) فقالَ: إنَّ أميرَ المؤمنينَ قد إختارَ لكُم، فلم يألُ، وقد إستخلفَ لإبنِه يزيد بعدَه، فقامَ عبدُ الرّحمنِ بنُ أبي بكر، فقالَ: كذبتَ واللهِ يا مروان وكذبَ معاوية، ما الخيارُ أردتماهُ لأمّةِ محمّدٍ، ولكنّكم تريدونَ أن تجعلوها هرقليّةً كلّما ماتَ هرقل قامَ هرقل.
فقالَ مروانُ: هذا الذي أنزلَ اللهُ فيه (والذي قالَ لوالديهِ أفٍّ لكُما) الآيةُ، فسمعَت عائشةُ مقالتَه مِن وراءِ الحجابِ، فقامَت مِن وراءِ الحجابِ وقالَت: يا مروانُ، يا مروان!ـ فأنصتَ النّاسُ، وأقبلَ مروانُ بوجهِه ـ، فقالت: أنتَ القائلُ لعبدِ الرّحمنِ أنّهُ نزلَ فيهِ القرآنُ، كذبتَ واللهِ ما هوَ بهِ ولكنّه فلانٌ بنُ فلان، ولكنّكَ فضضُ مَن لعنَه الله. وفي روايةٍ، فقالت: كذبَ واللهِ ما هوَ به. ولكنَّ رسولَ اللهِ (ص) لعنَ أبا مروان، ومروان في صلبِه فمروانُ فضضٌ مِن لعنةِ اللهِ عزّ وجلّ) (تاريخُ إبنِ الأثير ج3 ص149 في ذكرِ حوادثِ سنةِ 56 هـ).
وعندَما أرادَ البُخاريّ نقلَ هذهِ الواقعةِ لم يرُق لهُ أن ينقلَها بكلِّ هذهِ التّفاصيلِ التي تكشفُ عَن عُمقِ الخلافِ بينَ الصّحابةِ، فنقلها بهذا الشّكلِ: (كانَ مروانُ على الحجازِ، إستعملَه معاويةُ، فخطبَ فجعلَ يذكرُ يزيد بنَ معاوية لكي يبايعَ له بعدَ أبيه، فقالَ عبدُ الرّحمنِ بنُ أبي بكرٍ (شيئاً) فقالَ: خذوهُ فدخلَ بيتَ عائشةَ فلم يقدروا عليهِ، فقالَ مروان: إنَّ هذا الذي أنزلَ اللهُ فيهِ (والذي قالَ لوالديهِ أفٍّ لكُما) فقالت عائشةُ مِن وراءِ الحجابِ: ما أنزلَ اللهُ فيهِ شيئاً منَ القرآنِ، إلّا أنَّ اللهَ أنزلَ عُذري) (البخاريّ ج3 ص126 باب، والذي قالَ لوالديهِ مِن تفسيرِ سورةِ الأحقاف)
فحذفَ قولَ عبدِ الرّحمنِ وأبدله بقولِ: قالَ (شيئاً) كما أبدلَ قولَ عائشةَ، كلُّ هذا محافظةً على صورةِ معاويةَ ومروان. وقد أوردَ هذه الحادثةَ إبنُ حجرٍ في فتحِ الباري مُفصّلاً، ممّا يؤكّدُ تدخّلَ الخلفيّةِ العقائديّةِ للبُخاريّ في تحريفِ الحديثِ حفاظاً على صورةِ الصّحابة.
النّموذجُ الثّاني: في هذا النّموذجِ نجدُ أنَّ مسلماً روى حديثاً فيهِ أنَّ عمرَ أفتى بعدمِ الصّلاةِ في حالِ الجنابةِ، حيثُ روى مسلمٌ عَن شعبةَ قالَ: حدّثني الحكمُ عَن ذرٍّ عَن سعيدٍ بنِ عبدِ الرّحمنِ عَن أبيه: أنَّ رجلاً أتى عمرَ فقالَ: إنّي أجنبتُ فلم أجِد ماءً. فقالَ: لا تصلّي. فقالَ عمّارُ: أما تذكرُ يا أميرَ المؤمنين إذ أنا وأنتَ في سريّةٍ فأجنبنا فلم نجِد ماءً فأمّا أنتَ فلم تُصلِّ وأمّا أنا فتمعّكتُ في التّرابِ وصلّيتُ، فقالَ النّبيّ (ص) إنّما يكفيكَ أن تضربَ بيديكَ الأرضَ ثمَّ تنفخَ ثمَّ تمسحَ بهما وجهَك وكفّيكَ!. فقالَ عُمر: إتّقِ اللهَ يا عمّار، فقالَ: إن شئتَ لم أحدِّث بهِ) (صحيحُ مسلمٍ بابُ التّيمّمِ رقمُ الحديث 368)
بما أنَّ الحديثَ ظاهرٌ في عدمِ معرفةِ عُمر بأبسطِ الأحكامِ الشرعيّةِ الضّروريّةِ التي يعرفُها كلُّ مسلمٍ (التّيمّم) والتي صرّحَ بها القرآنُ وعلّمَهم رسولُ اللهِ (ص) كيفيّتَها، وقد حدثَ هذا الموقفُ في عهدِ خلافتِه أي أنّه لم يكُن حديثَ عهدٍ بالإسلامِ، والغريبُ أنَّ عُمرَ أصرَّ على موقفِه حتّى بعدَ أن أخبرَه عمّارُ بحُكمِ التّيمّمِ حيثُ قالَ لهُ إتّقِ اللهِ يا عمّار، فقالَ عمّار إن شئتَ لم أحدِّث بهِ، فماذا كانَ يصنعُ هوَ إذا أجنبَ ولم يجِد ماءً؟ هل كانَ لا يُصلّي كما أفتى لمَن سأله؟ ثمَّ أنظُر إلى البُخاريّ الذي لم يرُق لهُ أن يروي هذهِ الفتوى التي لم يُفتِها حتّى جُهلاءُ السّوقِ، فأخرجَ في صحيحِه بنفسِ السّندِ وبنفسِ المتنِ غيرَ أنّه أسقطَ الفتوى. فقالَ: (جاءَ رجلٌ إلى عُمرَ بنِ الخطّابِ فقالَ: إنّي أجنبتُ فلم أُصِب الماءَ، فقالَ عمّارٌ بنُ ياسر لعُمرَ بنِ الخطّاب: أما تذكرُ..) (البُخاريّ كتابُ التّيمّمِ رقمُ الحديث 338)
النّموذجُ الثّالث: أخرجَ إبنُ حجرٍ في فتحِ الباري في شرحِ صحيحِ البُخاري ج17 ص31 حديثاً: (إنَّ رجلاً سألَ عمرَ بنَ الخطّابِ عَن قولِه: (وفاكهةً وأباً) ما الأبُّ؟! قالَ عُمر: (نُهينا عنِ التّعمّقِ والتّكلّفِ). قالَ إبنُ حجرٍ: أنّه جاءَ في روايةٍ أخرى عَن ثابتٍ عَن أنس أنَّ عُمر قرأ: (وفاكهةً وأبّاً) فقالَ ما الأبُّ؟!، ثمَّ قالَ: (ما كُلّفنا) أو قالَ: (ما أمِرنا بهذا).
ثمَّ أنظُر ماذا فعلَ التّعصّبُ بالبُخاريّ فهوَ يعملُ قُصارى جهدِه لينزّهَ عُمر والخلفاءَ عَن كلِّ ما يقدحُ في علمِهم ومعرفتِهم بكتابِ اللهِ، فكيفَ غابَ عن عُمر معنى الأبِّ وهيَ واضحةٌ بنصِّ الآيةِ نفسِها، ولذا عمدَ البُخاريّ على تحريفِ الحديثِ بقولِه عَن أنس قالَ: (كُنّا عندَ عُمر فقالَ: نُهينا عنِ التّكلّفِ) (صحيحُ البُخاري ج9 كتابُ الإعتصامِ بابُ حديث رقم 7293)، ولم يُبيّن الموقفَ الذي جاءَ فيهِ قولُ عُمر، ولم يُشِر إلى مَن سألَه عَن معنى (أبّاً) في قولِه تعالى (وفاكهةً وأبّاً) لأنَّ ذلكَ سوفَ يثبتُ عدمَ معرفةِ عُمر بمعاني آياتِ القرآنِ وما هوَ واضحٌ منها بالضّرورةِ.
إنَّ هذا الحديثَ كغيرِه مِن عشراتِ الأحاديثِ التي كانَت لا تنسجمُ معَ مُعتقداتِ البُخاريّ فاعتمدَ هذهِ الطّريقةَ مِن إسقاطٍ وتبديلٍ وحذفٍ، وما لم يتمكّن منَ التّلاعبِ بهِ صرفَ النّظرَ عَن روايتِه، كما فعلَ بحديثِ الثّقلينِ (كتاب اللهِ وعترتي..) الذي أخرجَه مسلمٌ والحاكمُ على شرطِ البُخاري، وغيرِه منَ الأحاديثِ الصّحيحةِ التي لم يستطِع البُخاريّ توجيهَها وتحريفَها، فتجنّبَ تدوينَها في كتابه.
النّموذجُ الرّابعُ: وإليكَ هذهِ الحادثةَ التي يظهرُ لكَ مِن خلالِها إلى أيّ مدى يتعمّدُ البُخاريّ تحريفَ الحقائقِ، فقد روى علماءُ السّنّةِ وحفّاظهم مثلَ التّرمذيّ في صحيحِه، والحاكمِ في مستدركِه وأحمدَ بنِ حنبلٍ في مُسندِه، والنّسائيّ في خصائصِه والطّبريّ في تفسيرِه، وجلالِ الدّينِ السّيوطيّ في تفسيرِه (الدّرُّ المنثورُ)، والمُتّقي الهندي في كنزِ العُمّالِ، وإبنِ الأثيرِ في تاريخِه وغيرِهم كثيرينَ، رَووا: أنَّ رسولَ اللهِ (ص) بعثَ أبا بكرٍ وأمرَه بأن يُنادي بهذهِ الكلماتِ وهيَ براءةٌ منَ اللهِ ورسولِه..)، ثمَّ أتبعَهم عليّاً (ع) وأمرَه بأن يُنادي بها هو.
فقامَ عليٌّ (ع) في أيّامِ التّشريقِ فنادى: إنَّ اللهَ برئ منَ المُشركينَ ورسوله، فسيحوا في الأرضِ أربعةَ أشهرٍ، ولا يحجّنَّ بعدَ العامِ مُشركٌ ولا يطوفنَّ بالبيتِ عريان، ورجعَ أبو بكرٍ فقالَ: يا رسولَ اللهِ نزلَ فيَّ شيءٌ؟ قالَ: لا ولكنَّ جبرائيلَ جاءني فقالَ لا يؤدّي عنكَ إلّا أنتَ أو رجلٌ منك).
وهُنا وقعَ البُخاريّ في معضلةٍ، فهذهِ الرّوايةُ تخالفُ تماماً مذهبَه وعقيدتَه، فهيَ تثبتُ فضيلةً لعليّ (ع) وما أعظمَها مِن فضيلةٍ، وفي المقابلِ تنتقصُ أو لا تثبتُ شيئاً لأبي بكرٍ، فكيفَ لهُ أن يحوّرَ هذهِ الرّوايةَ إلى مصلحتِه وعقيدتِه، فيثبتَ بها منقبةً لأبي بكرٍ ولا شيءَ لعليّ.
أنظر كيفَ تفتّقَت عبقريّةُ البُخاريّ وكيفَ تمكّنَ مِن قلبِ المُعادلةِ رأساً على عقب، حيثُ أخرجَ في صحيحِه في كتابِ تفسيرِ القرآنِ، بابَ قولِه (فسيحوا في الأرضِ أربعةَ أشهرٍ). قالَ: أخبرني حُميدُ بنُ عبدِ الرّحمِن أنَّ أبا هريرةَ قالَ: بَعَثَنِي أبو بَكرٍ في تِلكَ الحَجَّةِ في مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُم يَومَ النَّحرِ يُؤَذِّنُونَ بمِنًى، أن لا يَحُجَّ بَعدَ العَامِ مُشرِكٌ ولَا يَطُوفَ بالبَيتِ عُريَانٌ، قالَ حُمَيدُ بنُ عبدِ الرَّحمَنِ: ثُمَّ أردَفَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَلِيِّ بنِ أبِي طَالِب، وأَمَرَهُ أن يُؤَذِّنَ ببَرَاءَةَ، قالَ أبو هُرَيرَةَ: فأذَّنَ معنَا عَلِيٌّ يَومَ النَّحرِ في أهلِ مِنًى ببَرَاءَةَ، وأَن لا يَحُجَّ بَعدَ العَامِ مُشرِكٌ، ولَا يَطُوفَ بالبَيتِ عُريَان.) (صحيحُ البخاري ج5 رقمُ الحديثِ 4655)
أنظر إلى هذا التّشويهِ والتّحريفِ، وكيفَ قضى البُخاري على فضيلةٍ لعليّ بنِ أبي طالب (ع) وكيفَ أثبتَ لأبي بكرٍ منقبةً لم يحلم بها بعدَ أن عزلَهُ اللهُ بوحيٍ مِن عندِه، فقالَ جبرائيلُ للرّسولِ (ص): لا يؤدّي عنكَ إلّا أنتَ أو رجلٌ منكَ. ثمَّ أنظر، كيفَ جعلَ أبا بكرٍ هوَ الآمرَ والمُرسلَ للوفودِ وجعلَ الإمامَ عليّاً شريكاً لأبي هريرةَ في الآذانِ، فسبحانَ مُقلّبِ الأحوالِ مِن حالٍ إلى حال.
النّموذجُ الخامسُ: إشتركَ مسلمٌ في صحيحِه معَ أبنِ هاشمٍ والطّبريّ في حذفِ جزءٍ مِن حديثٍ يشينُ منزلةَ أبي بكرٍ وعمر.
بعدما نقلَ إبنُ هشامَ أخبارَ غزوةِ بدرٍ وتعرّضَ رسولِ اللهِ (ص) وأصحابه لقافلةِ قريشٍ التّجاريّةِ، ذكرَ إستشارةَ رسولِ اللهِ (ص) لأصحابِه وقالَ: (وأتاهُ الخبرُ عَن قريشٍ بمسيرِهم ليمنعوا عيرَهم، فاستشارَ النّاسَ وأخبرَهم عَن قريشٍ: فقامَ أبو بكرٍ الصّدّيقِ، فقالَ وأحسنَ ثمَّ قامَ عُمرُ بنُ الخطّابِ، فقالَ وأحسنَ، ثمَّ قامَ المقدادُ بنُ عمرو فقالَ: يا رسولَ اللهِ إمضِ لِما أراكَ اللهُ فنحنُ معكَ، واللهِ لا نقولُ لكَ كما قالَت بنو إسرائيلَ لموسى: إذهب أنتَ وربّكَ فقاتِلا إنّا ها هُنا قاعدونَ، ولكِن إذهَب أنتَ وربُّك فقاتِلا إنّا معكُما مقاتلونَ، فوالذي بعثكَ بالحقِّ لو سرتَ بنا إلى ربّكَ الغماد لجالدنا معكَ مِن دونِه حتّى تبلغَه. فقالَ لهُ رسولُ اللهِ (ص) خيراً ودعا له).
فيا تُرى ماذا كانَ قولُ أبي بكرٍ وعُمر لرسولِ الله؟! وإذا كانَ قولاً حسناً فلماذا لم يذكره! ولماذا ذكرَ قولَ المقدادِ مِن دونِ قوليهما؟!
ونرجعُ إلى مسلمٍ لكي نرى هَل فعلَ كما فعلَ صاحبُه، روى مسلمٌ: (أنَّ رسولَ اللهِ (ص)، شاورَ أصحابَه حينَ بلغَه إقبالُ أبي سفيانَ قالَ: فتكلّم أبو بكرٍ فأعرضَ عنهُ ثمَّ تكلّمَ عُمر فأعرضَ عنهُ.. ثمَّ ذكرَ بقيّةَ الحديثِ) (صحيحُ مُسلمٍ كتابُ الجهادِ، بابُ غزوةِ بدر)
وأيضاً لم يذكُر مسلمٌ ما قالَه أبو بكرٍ وعُمر ولكنَّه كانَ أكثرَ صِدقاً مِن إبنِ هشامٍ والطّبريّ، فقالَ: (أعرضَ رسولُ اللهِ) ولم يقُل (وأحسنَ). رُغمَ أنَّ ما فعلَه جنايةٌ في حقِّ الحديثِ. فمنَ المُفترضُ أن يذكرَ قولَهُما، ممّا يدلُّ على أنَّ في الأمرِ نكايةً، فلماذا أعرضَ رسولُ اللهِ عن قولِهما إذا كانَ حسناً؟!
يتّضحُ لنا منَ الخبرينِ بعدَما حصلَ فيهما التّزويرُ الواضحُ أنَّ هناكَ أمراً لا يليقُ بالشّيخينِ لم يذكروه، إلّا أنَّ تمامَ الخبرِ يذكرُه الواقديّ في كتابِ المغازي وإمتاعِ الأسماعِ للمقريزي. بعدَما ذكرَ الخبرَ: فقالَ عُمر: يا رسولِ الله،ِ إنّها واللهِ قريشٌ وعزّها واللهِ ما ذلَّت مُذ عزَّت واللهِ ما آمنَت مُذ كفرَت واللهِ لا تُسلّم عزّها أبداً، ولتقاتلنّكَ فتأهَّب لذلكَ أهبتَه وأعدَّ لذلكَ عدّته.
ومِن هنا نعرفُ سببَ إعراضِ رسولِ اللهِ (ص) عَن قوله، فهذا الكلامُ الذي قالَه عُمر لا يليقُ بصاحبِ رسولِ اللهِ فكيفَ يدّعي أنَّ لقريشٍ عزّاً؟ وهَل كانَ رسولُ اللهِ (ص) يقصدُ ذِلّتها؟ وكيفَ يعملُ على تخويفِ رسولِ اللهِ ومَن معه؟
وهكذا دائماً يخلطُ البُخاريّ ومسلمٌ الحقَّ بالباطلِ، ويبدّلانِ الأحاديثَ التي يشعرانِ مِنها توهيناً وتنقيصاً لأبي بكرٍ وعُمر أو بقيّةِ الصّحابةِ، كلُّ ذلكَ يكشفُ لنا عَن موقفِهم مِن مدرسةِ الإمامةِ وتعصّبِهم الواضحِ لمدرسةِ الخلفاء.
اترك تعليق