المجتمع الإنساني بين التوحيد والإلحاد
مقدمة:
ليس قصدنا استعراض المدارس الاجتماعية وبيان ما وقع بينها من فروقات، وإن كان ذلك ضروري لوضع البحث في سياقه الطبيعي، إلا أن ما يهمنا أكثر هو الوقوف على فلسفة الاجتماع الإنساني ودور كل من الدين واللادين في تحديد هوية المجتمع، ومن هنا لا اتحدث عن التدين كفعل إنساني تتمظهر من خلاله الذات بمظهر ديني، حتى لو ابعدني ذلك عن الربط الموضوعي لعلاقة الدين بالمجتمع، وذلك لكون هوية الاجتماع قائمة على السلوك الإنساني الامر الذي يجعل بحث الدين بدون التدين بحث نظري، إلا أن السر في ابتعادي عن التدين لكونه وظيفة من يهتم بتأسيس نظام اجتماعي يقوم على أسس دينية، وهي مهمة تحتاج إلي جهد تأسيسي ودراسة وصفية وتحليلية لكل أنماط التدين الاجتماعي والاشكال المؤسساتية التي يقترحها الدين للنظام الاجتماعي، وكل ذلك لا يخدم المقارنة الفلسفية بين التوحيد والإلحاد وما يقدمانه من بنية نظرية للمجتمع.
المجتمع بين الدين والإلحاد:
قد تنبه فلاسفة الاجتماع والمؤسسين الأوائل لدور الدين في الاجتماع الإنساني، فتعمقوا في دراسة التأثير المتبادل بين الدين والمجتمع كما هو الحال عند دوركايم، وقد كان أوجست كونت سابقاً لدوركايم في دراسة الاجتماع الديني بوصفه المرحلة البدائية الأولى للمجتمع، وهي المرحلة اللاهوتية التي تكون فيها الرؤى اللاهوتية حاكمة ومهيمنة على المجتمع، "حيث ينبني المجتمع على نظام يستمد وجوده من كائن إلهي متعال، ويستند النظام الاجتماعي على نظام فوق اجتماعي" .
وقد قارب كونت هذه المرحلة من منظوره الخاص للدين، الذي ينطلق في فهمه من زاوية اهتمام الناس به لا من زاويه كون الدين نظاماً عقلياً ومكوّناً اجتماعياً بالفعل، ولذا كان اهتمام كونت بالقوانين التجريبية لكونها تؤسس في نظره البديل للقوانين الفوقية، وهي المرحلة الأخيرة عند كونت التي تعبر عن الوضعية العلمية، ومع أيمانه العميق بوصول المجتمع الأوربي إلي هذه المرحلة، إلا أن مجرد الاعتراف بكون الدين يمثل الأساس الأول للنظام الاجتماعي للإنسان يكفي لأثبات التأثير الديني في المجتمع، "وبالتالي فالدين هو استراتيجيا اجتماعية لخلق الوفاق. فكل مجتمع، كشأن أي تنظيم، يبحث نقطة أتفاق حول قيم مشتركة، وحول رؤى جامعة عن العالم بمعنى ما. سعي كونت سيستأنف دوركايم التعميق في شرحه لاحقاً، أي أن الدين يلبي حاجات معرفية وسلوكية عميقة لدى الإنسان. وبذلك الشكل ساهم الدين في مستويات تطور سفلى للمجتمع في تثبيت الوفاق وسلاسة الاشتغال" .
ورغم ذلك فأن كونت يبشر بناهية الدين عندما يجرده العلم من سلطاته الاجتماعية، وأن التقدم العلمي سيفضي حتماً إلى نهايته، "صاغ كونت في المرحلة الأخيرة في اعماله الاجتماعية والفلسفية فكرة (دين البشرية) أساسه العلم كدين لائكي جديد، قادر على منح الناس قيماً اجتماعية جديدة ثابتة، (أنه الكائن الأكبر)، جوهر الإنسان. بالتالي فالكاهن الأكبر للبشرية هو رجل العلم، وعلم الاجتماع ايضاً" . وبهذا يجوز لنا أن نصف كونت بأنه المؤسس الأول لعلم الاجتماع والمؤسس لمرحلة جديدة يستغني فيها المجتمع عن الدين، ومن هنا نكون قد اقتربنا من نقطة الاشتباك بين الدين والإلحاد فيما يخص المجتمع.
يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك بخصوص الملحدين في المجتمع: "وأخيراً لا يمكن التسامح على الاطلاق مع الذين ينكرون وجود الله. فالوعد والعهد والقسم من حيث هي روابط المجتمع البشري ليس لها قيمة بالنسبة للملحد. فإنكار الله، حتى لو كان بالفكر فقط يفكك جميع الأشياء" وهنا يشير لوك إلى إشكالية قد يعاني منها الإلحاد في ما يخص الاجتماع الإنساني، وهي حوجه أي بناء اجتماعي إلي نظام قيمي يحكم علاقة الافراد، ومن هنا نبه لوك إلي خطورة الإلحاد بوصفه زعزعة لكل المسلمات الإنسانية التي قد تمثل أساساً للبناء الاجتماعي. والربط الموضوعي بين الإلحاد وبين هذه الفكرة قائم على كون الإلحاد لا ينطلق في مقاربته للحياة من أرضية واضحة قائمة على هدف يسعى المجتمع لإنجازه، بخلاف الدين الذي يوفر فلسفة ما لحياة الإنسان، والإلحاد غير قادر على إيجاد ربط موضوعي بين تصوراته الفلسفية وبين الاخلاق وقيمها المطلقة، برغم أن الإلحاد الجديد لم يسلم بذلك وجاهد من أجل إيجاد فلسفة أخلاقية نابعة من الإلحاد، وبعيداً عن نجاحه أو اخفاقه في ذلك إنما يكفينا تسليمه ولو في المبدأ بضرورة الاخلاق للاجتماع الإنساني.
فبالمقدار الذي يكون فيه الإلحاد أمام تحدي بأن يكون صالحاً كفلسفة اجتماعية، بذات المقدار تواجه الأديان صعوبات في اثبات وجودها كضرورة حتمية لهذه المجتمعات، وأكبر تحدي قد يواجه الدين في هذا الحقل هو المجتمعات الليبرالية التي هيمنت حديثاً على النظم الاجتماعية، وهذا ما نفصل في الحديث لاحقاً.
المجتمع الإنساني ضمن النسق التاريخي:
إذا رجعنا مرة أخرى للنسق التاريخي الذي تطور عبره علم الاجتماع، نجد من المراحل المهمة لهذا العلم هي مرحلة علم الاجتماع الوظيفي التي بدأ دوركايم التأصيل لها من خلال كتابه (الأشكال الأولية للحياة الدينية) والذي انتهى من اعداده 1912م قبل رحيله بخمسة سنوات. وقد تحدث بإسهاب عن كيفية عمل الدين في المجتمعات الإنسانية، مركزاً فيه على المجتمعات البدائية ذات الطابع الطوطمي مثل قبائل الهنود الحمر، وقد قدم لذلك ببحث نظري عن المقدس ليصل إلى انه ليس أمراً مفارقاً للسياق الاجتماعي بل هو امر عادي بطبعه إلا ان المجتمع هو الذي جعله مقدس "يصير الإنسان أو الحيوان أو الجماد، مشوباً بالقداسة في الوقت الذي يمر فيه داخل دائرة مغايرة لعالم الدناسة. فالمقدس هو اجتثاث جلي للأشياء من هذا العالم مقدراً لها أن تلعب وظائف غير مدنسة. المقدس هو شيء من العالم الدنيوي امحيت طبيعته الأولى وتغيرت ملامحه تحت رغبة البشر أنفسهم. فالناس هم منتجو المقدس، مثل آلهتهم، ثم يقدرون أن ذلك الشيء أو تلك الأشياء باتت مستقلة عن إرادتهم؛ يصير المعتاد خارقاً، وبالتالي يمكن للمعتاد نفسه أن يدعي تضمنه لمكون علوي لا يعلى عليه، وغير قابل للتجاوز" . وبعيداً عن مناقشة هذه الفكرة تفصيلاً حتى لا نخرج عن السياق، إلا أنه يبدو لي أن دوركايم قام برصد الرموز الدينية من زاوية تحتية، أي من خلال تعلق الناس بالرموز واطفاء المقدس عليها، ولذلك توقف عند حدود الطوطم فبدأت له صناعة إنسانية، ولم يلاحظها من الزاوية الفوقية التي تنظر للمقدس بوصفه حقيقة مطلقة يحتاج الناس قالباً من اجل التعامل معه إلى إنزاله في صور ورموز حسية، أو كما عبر سان كلود في مقدمته لكتاب مرسيا إلياد (المقدس والمدنس) بقوله: "يمكن للمقدس أن يظهر نفسه في حجارة أو أشجار.. أنه لا يتعلق بتمجيد حجر أو شجرة بذاتها. فالحجر المقدس والشجرة المقدسة لم يعبدا بصفتهما تلك: وإنهما ليسا موضع عبادة فعلاً لأنهما تجليان، ولأنهما يظهران شيئاً ما ليس هو لا حجر ولا شجرة، وإنما الكائن المطلق"
وبغض النظر عن كون الدين صناعة إنسانية أو سماوية، يؤكد دوركايم على أن الدين إطاراً تنظيمياً للمجتمع، الأمر الذي يكشف عن الاهتمام المبكر بالأديان في إطار الدراسات الاجتماعية.
وقد تطورت الوظيفية الاجتماعية فيما بعد دوركايم على يد تالكوت بارسونز، وعنده تقلص التركيز على الدين بحثاً عن الأنماط الوظيفية للمجتمع، وإن كانت القيم والمثل العليا ذات البعد المطلق قد حظيت بمحورية في الوظيفة الاجتماعية عند بارسونز، حيث خلص إلى أن النظام الاجتماعي تنظيم يحركه من الداخل تركيبة متشابكة من الحوافز والمعلومات، والطاقة والرقابة، والفوضى والنظام. ويختلف هذا النظام الداخلي أو حركة التفاعل الداخلي من البسيط أو البدائي الذي يغلب فيه التكيف المباشر مع الحاجات الجينية والبيولوجيا، إلى المركب في المجتمعات الأكثر رقياً حيث يطلب من الأفراد استبطان أنماط ثقافية وقيم أخلاقية. وهذه الحركة بكل مستوياتها البسيط منها والمركب بحاجة الي تقليص الخيارات الفردية على أساس أولوية المصالح التي تكفلها سلطة المؤسسات الاجتماعية، التي ترسخ في وعي الفرد قوانين رمزية عامة للأفعال. "يؤكد بارسون أن هذه الأنماط الرمزية ينبغي البحث عنها في نظام المعاني العليا، أي في نظام متسامي فعلاً، يلعب فيه الدين، والأديان التاريخية عموماً، وظيفة محورية منذ اللحظة التي يوفر فيها للنظام مصدر مشروعية عليا، لا تتوافر في أي نظام آخر. وتنحدر هذه القدرة من جانب العمل الديني، لضمان انسجام اجتماعي متطور، من أنها تشكل للأفراد عنصر قوة لنمطية الأفعال البشرية. يبدو وكأن بارسون يردد، بالقدر الذي يؤسس فيه الأفراد مبرراً سامياً لحياتهم داخل المجتمع، بقدر ما يكون سامياً أيضاً كم المعلومات التي توزع للمراقبة الفوضى الاجتماعية التي تنشأ داخل النظام الاجتماعي. فالدين هو قانون اجتماعي عالي الجودة، يستطيع ضبط كميات هائلة من المعلومات وتوحيدها في ما بينها، في حين تركها في حالة طليقة، فهو مدعاة إلي توليد إشكال، بوسويات مختلفة، ومن هد الطاقة، وعدم الإشباع، والأزمات، والصراعات، والانحرافات، وتعطيل أجزاء من النظام. وبذلك الشكل تصير للدين وظيفة رقابية عالية" .
ففي اوج السجال الاجتماعي بشأن العلمانية في نهاية الستينات أكد بارسونز على الدور الوظيفي للدين بالنسبة للمجتمعات "وبإيجاز يتعذر موت الدين، لما له من دور وظيفي أساسي، بحسب بارسون، في تلبية احتياجات توازن النظام"
ويمكننا تلخيص أهمية الدين في الاجتماع الإنساني بما توصل له الباحثان الدكتور سابينو أكوافيفا (ويعد من الرعيل المؤسس لمدرسة علم الاجتماع في ايطاليا) ودكتور إنزو باتشي (أستاذ علم الاجتماع بجامعة بادوفيا بإيطاليا ورئس الجمعية العالمية لعلم الاجتماع الديني) بما جاء في كتابهما (علم الاجتماع الديني الإشكالات والسياقات)، الذي استعينا به في هذا العنوان، وهو قولهما: "يشدّ الملخص التاريخي للمباحث النظرية الأكثر أهمية في علم الاجتماع الديني، من الكلاسيكية حتى السائدة في الراهن، خيطٌ رابطٌ، هو إبراز عمق تعقّد ومحورية موضوع الدين"
استحالة المجتمع الإلحادي.. مصادرة الإرادة الحرة للإنسان:
وفي الطرف الآخر من المقارنة وهي إمكانية أن يؤسس الإلحاد قاعدة صلبة للاجتماع الإنساني.
لا بد أن نبحث أولاً: على المستوى العملي، وهو إمكانية وجود مجتمع مثّل الإلحاد فيه خارطة العلاقات الاجتماعية.
والمستوى الثاني: البحث النظري والفلسفي، وهو بحث ثبوتي يتعلق بأصل الإمكانية النظرية، ولذا يهتم هذا المستوى فقط بمحاكمة المبادئ الفلسفية للإلحاد بحثاً عن إيجاد رابط بينها وبين النظام الاجتماعي.
بالنسبة للمستوى الأول: تصدمنا الحقيقة التاريخية الجازمة بعدم وجود مجتمع إنساني في طول التاريخ البشري قامت أركانه على الإلحاد.
أما المستوى الثاني: فلم يزل الإلحاد الجديد والذي يطرح نفسه بديلاً عن الاديان عاجزاً عن تقديم تصور يقوم فيه المجتمع على قيم خاصة بالإلحاد، أي بمعنى أن يكون إنكار الإله فكرة مؤسسة لقيم أخلاقية قادرة على إيجاد روابط اجتماعية، أما قيام مجتمع على أفكار تستبعد مساهمة الدين فهذا ما يجب طرحه ضمن عنوان آخر ولا علاقة له بالإلحاد، وفي هذا المورد نسجل ملاحظة ضرورية وهي أن ما يتبناه الإلحاد من قيم ليبرالية، وما يدعو له من تأسيس مجتمع حر ومنفتح، ليست إلا خدعة كغيرها من الخدع الأخرى التي يمارسها الإلحاد، وذلك لسببين أساسيين.
الأول: قيم الليبرالية أعم من أن تكون حكراً للإلحاد، فأكثرية من يتبناها ويدافع عنها في كل العالم مؤمنين وليس ملحدين، ولا يرون وجود منافاة بين الإيمان بالله وبين الإيمان بها.
الثاني: أن قيم الليبرالية ليست نتاجاً للفكر الإلحادي، بل من المستحيل أن تخرج من رحم الإلحاد لا بوصفها مولوداً شرعياً ولا مولوداً غير شرعي، كما أن الإلحاد غير صالح لمجرد الاحتضان والتبني لليبرالية؛ وذلك بأن مفهوم وماهية الليبرالية قائم على حرية الإرادة الإنسانية، وفلسفة الإلحاد قائمة على مصادرة الإرادة الحرة للإنسان، وقد صرح بذلك أرباب الإلحاد الجدد أمثال سام هارس وقد خصص لذلك كتابه (الإرادة الحرة) ليصرح فيه وبكل وضوح بأن الإرادة الحرة وهم، وهو استنتاج منطقي لما تفرضه معادلات التطور في المادة، والإنسان ليس شيئاً خارج عن هذه المعادلة، لكونه ليس أكثر من حلقة تقع على مسار هذا التطور. يقولك سام هرس: "اختياراتي مهمة، وهناك طرق لاتخاذ قرارات أكثر حكمة، لكني لا أستطيع أن أختار ما أريد اختياره. وإذا ظهر أنني قادر على ذلك كالعودة مثلاً للوراء لاتخاذ أحد قراراتي فإنني لا أختار ما أختار أن اختاره، أنه تسلسل يفضي بنا دوماً للظلام"
وعليه فالإنسان في التصور الإلحادي نتاج تطور طبيعي معقد، لا يمتلك فيه الإنسان إرادة التغيير أو الاختيار، والسلوك ليس شيئاً آخر خارج عن معادلة الطبيعة والمادة، والاحساس بالحرية الذي يجده الإنسان في نفسه يرجع إلى طبيعة الجهل بالأسباب كما يعبر مايكل شرمر في كتابه (علم الخير والشر) بقوله: "حجم تعقيدات العوامل والمحددات التي تتسبب في إحداث اختياراتنا، تقودنا إلى الشعور وكأننا نمارس أفعالنا بحرية ككائنات متسببة في أفعالها دون أن تكون مسببة، مع أننا في الحقيقة محدودي الأفعال سببياً. وبما أنه ليس بالإمكان تحديد قائمة كاملة بالأسباب التي تحدد الفعل الإنساني، فإن الشعور بالحرية ينشأ بسبب جهلنا بالأسباب. إلي هذا الحد فإنه بإمكاننا أن نعمل وكأن لدينا حرية فعلاً"
الحتمية المادية المهيمنة على كل الوجود لا يستطيع أن يخرج الإنسان من قبضتها لكونه واحداً منها، والمخرج الوحيد الذي يفتح الطريق أمام انعتاق الإنسان من هيمنة المادة هو الله الذي اودع في الإنسان روح الإرادة والعلم والعقل، فكرمه بذلك عن بقية خلقه، والذي يرفض هذا النسق من التفكير لابد أن يقع في الحتمية لا محالة، ومهما تستر دعاة الإلحاد عن هذه الحتمية بالدعوة للحرية لا يكون مجدياً حتى وإن علا صوتهم، فالضجيج والصخب لا يستر ما لا يمكن ستره.
وإشكالية الفيلسوف الإلحادي عندما يتحدث في الفلسفة ينسى مشروعه السياسي والاجتماعي، وعندما يأتي للعمل السياسي والاجتماعي ينسى ما قاله في التأسيس والتنظير الفلسفي، فكيف يجوز لهم تبني مشروع حضاري للإنسان وهم يقولون في الفلسفة بكون الإرادة الحرة وهم أو الإنسان عبارة عن دمية تحركها مؤثرات كيميائية؟ كما يصرح هيرس بقوله: "إننا مجرد دمى بيوكيميائية تسيرها قوى تتجاوز التحكم الواعي" .
ويشرح البروفيسور التطوري بجامعة شيكاغو القضية بقوله: "إن المخ وأعضاء الجسم هم الأوعية التي تتخذ القرارات وهي عبارة عن جزيئات، وترتيب ونظام هذه الجزيئات محددٌ سلفاً عن طريق الجينات والبيئة المحيطة، وإن قراراتنا مبنية على نبضات كهربية نابعة من هذه الجزيئات ومواد كيميائية تنتقل من خليه عصبية إلي أخرى، وإن هذه النبضات والكيماويات لابد أن تتبع القوانين الفيزيائية، وبالتالي فاختياراتنا لابد أن تطيع هذه القوانين"
أما أوين جونز أستاذ القانون وعلوم البيولوجيا بجامعة (فاندربيلت) وأحد مؤلفي كتاب (القانون وعلم الأعصاب) فيرى أن الإنسان مجبور في اختياراته سواء شاء أو أبى وأن أفعال الإنسان لابد أن تصدر عن سبب، وبالتالي فالكلام عن حرية الإرادة وأنها غير محكومةٍ أو مجبورٍ بالعوامل الفيزيائية والاجتماعية والبيئية والاقتصادية وغيرها، ولهذا فلابد أن نقبل بالحتمية والسببية" .
كذلك يرى بول بلوم أستاذ علم النفس وعلم الإدراك بجامعة يال ومؤلف كتاب (مجرد أطفال: أصول الخير والشر): "إننا مجرد كائنات ذات طبيعة فيزيائية وأن طبائعنا تحدد من نحن وماذا نفعل، وأن أفعالنا كلها محددة سلفاً بقوانين الفيزياء وبأحوال الكون قبل أن نولد بفترة طويلة، ونحن لم نختر أياً من هذا وبالتالي فلا وجود للإرادة الحرة"
هذا النمط من التفكير الذي يسلب إرادة الإنسان له أثار مدمرة على الحياة، ويمكننا إلفات النظر إلى بعضها في نقاط.
أولاً: إنكار الله والإيمان بالطبيعة والمادة كقوة متحكمة في مصير الإنسان، يؤدي إلى جمود مطبق وكامل للإنسان والمجتمع في قبال الحياة، فالذي ينظر للحياة بهذا المنظار الحتمي لا يمكن أن يكون مساهماً بأي شكل من الأشكال في بناء الحياة، طالما يتحرك كل شيء بما فيه فكر الإنسان وخياراته ضمن قانون رسم سلفاً، وهكذا لا يرى الإنسان الحياة ضمن هذا المنظار إلا لوحة جامدة، وإن كانت في ظاهرها متحركة.
وهذا النوع من التفكير مخالف لوجدان الإنسان وفطرته، فالذي يعتقد أن تطور الحياة يسير بقانون داخلي، لا يكون أمامه إلا الاستسلام والخضوع للحوادث الطارئة والظروف القاهرة، شاء ذلك أم أبى، لأنه ليس له حول في تغيير ما يجري حوله، وليس لفعله تأثير بأي شكل من الأشكال، بل ليس فعله الذي يفعله إلا فعلاً لتلك الماكينة الضخمة.
ولا شك أن هذا الفكر إذا خيم على عقول البعض، وتمسكوا به، حتى لو كان على خلاف فطرتهم، فسيحول حياتهم حتماً الي جحيم يكون الانتحار في قبالها نعمة، فعندما يكون الإنسان مجرد جثة تحركها أقدار المادة وتعصف بها ظروف الحياة يمنة ويسرة، فتجعل الفقير فقيراً والغني غنياً والمريض مريضاً والتعيس تعيساً.. دون أن يكون له أملاً في تغير حاله لا يمكنه تحمل مثل هذا الوجود البغيض.
أما النظرية الإسلامية، فهي تؤكد على مسؤولية الإنسان، وحريته في كل تصرفاته، فهو الذي يصنع مصيره بمسيره، فإن كان شرّاً أو خيراً فبما كسبت يداه، وهو بما كسب رهين: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، وأنه مهما تكاثرت على الإنسان الذنوب، فإن له أملاً في التخلص منها عبر التوجه إلى الله سبحانه وتعالى والإنابة إليه. ومهما تراكمت عليه الهموم فإنه قادر على تغيرها.
ثانياً: إن الحتمية المادية هي إعدام لإنسانية الإنسان وتحطيم لشخصيته، وإنزاله منزلة البهيمة المربوطة همها علفها، تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها، فحقيقة الإنسان وجوهر وجوده في كونه مخلوقاً مريداً له حق اختيار نمط حياته، في حين أن الحتمية ومصادرة إرادة الإنسان هي تجميدٌ لكل طاقاته الخلاقة والمبدعة، وبالتالي تحطيم هويته وإنسانيته.
وهذا ما يكشف لنا عن عظمة الإنسان في القرآن، عندما يؤكد أن إرادة الإنسان واختياره لا تغير حياته فحسب، وإنما تغير الكون، فأي مكانة أشرف من أن يمنح الإنسان ملكوت السماوات والأرض؟ وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾، أي أن المقياس الأول لمستوى حركة البشر، ونوعية مصيرهم هو عملهم في الحياة، وليس هناك من تقدير إلهي جامد يحدد مصائرهم.
ثالثاً: إن الذي ينطلق في الحياة بوحي الإيمان بالله يكون متحرراً من كل قيد، متجاوزاً لكل حتمية، وكلما ازداد الإنسان وعياً بهذه العلاقة التي تربطه بالله، كلما ازداد عزماً، ونشاطاً واستقامة، وكلما ازداد تحدياً لكل ما يمكن أن يكون عقبة في طريقه.
فحياة الإنسان مليئة بالعقبات، التي تحيط بواقعه الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، لا يتجاوزها الإنسان إلا إذا كان مشبعاً بالأمل في الله، معتقداً في قدرته على كل شيء، فتنموا في الإنسان روح المثابرة والإصرار، ومن هنا يدفع الإسلام الإنسان لتجاوز الحتميات التي توحي بها العلوم البشرية المنطلقة في تصورتها من المادة مثل:
أ/ كثيرة هي العوامل التي تساعد في صناعة شخصية الإنسان، مثل عامل الوراثة، والتربية، والأسرة، والمحيط الذي نما فيه ..، كلها عوامل لها ظلالها الواضحة على شخصية الإنسان، إلا أنه قادر على التحرر منها رغم شدة تأثيراها وحضورها الواضح على حياته، فليس هناك ظروف حتمية وقدر لازم تفرضه الوراثة أو التربية كما يوحي علما البيولوجيا والأعصاب بحتمية مصير الإنسان الذي هو عليه.
ب/ يشكل المجتمع عامل ضغط هائل على الإنسان، يحيط به إحاطة السوار بالمعصم، فلا يكاد ينفك يقلده في عاداته وثقافته وكل شؤون حياته، وقد تطرفت بعض النظريات الاجتماعية بالقول أن ما يملكه الإنسان من وعي وطريقة تفكير، إنما هو من صناعة المجتمع، وليس للإنسان شأن فردي بعيداً عما يقرره المجتمع، إنما هي حتمية مطلقة واتّباع أعمى، ولا يمكن مقاومة هذه الثقافة إلا ببصيرة الإيمان بالله الذي لا يكون معه حتميات؛ لأنه لا قوة ولا ولاية ولا ملكوت إلا لله سبحانه، فإذا توكل العبد على خالقه، وكفر بكل ما هو باطل في مجتمعه، يفتح الله له آفاق السماوات والأرض، ألم تر أن إبراهيم (ع) عندما كفر بواقعه، كيف أراه الله ملكوت السماوات والأرض؟، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، وهكذا يتحرر الإنسان من كل الحتميات، الاجتماعية التاريخية والاقتصادية و..
وهكذا يتحول الإيمان بالله إلى وقودٍ للتكامل في ضمير البشر، ونبراسٍ للتطلع والتقدم والحركة والحيوية والتطور، بل هو الأمل في الملك والهيمنة، والمثل والأخلاق، والنمو والرفعة، والشأن والقدرة، والعزة والكرامة.. وبكلمة: الإيمان هو أمل لقاء الحي القيوم والقرب منه، والعيش في ظل رحمته في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ لأن الله معرفة في القلب وإشراقة في الروح.
وهذا المقدار كافي لفك الارتباط بين الإلحاد وحرية الإنسان، وبذلك نكون قد وصلنا إلى أن الإلحاد لا يمكنه أن يحمل تصور اجتماعي للإنسان؛ وذلك لأنه لا يؤسس لأي نظم أخلاقية، كما لا يمكنه أن يتبنى المجتمع الليبرالي لأنه يؤمن بأن الإنسان ليس له حرية، وهذا بخلاف الدين الذي يرتكز على نظام أخلاقي قائم على قيم مطلقة، وفي نفس الوقت يقوم على منح الإنسان تمام الحرية والاختيار.
اترك تعليق