كيفَ للنبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله أن يمسكَ بعصمِ الكوافرِ ويخالفَ كتابَ الله؟
السّلامُ عليكم ورحمةُ الله،
هذا السّؤالُ مُقتنصٌ مِن مواقعِ التواصلِ الإجتماعي الذي يتناقشُ فيه المتحاورونَ منَ الشيعةِ الإماميّةِ وأهلِ السنّةِ في المسائلِ الخلافيّةِ والتي منها هذا السّؤالُ الإفتراضيُّ الذي يذهبُ إليهِ بعضُ أهلِ السنّة، فيطرحُه عليهم بهذهِ الصيغةِ: لو كانَت عائشةُ زوجُ النبيّ صلّى اللهُ عليه وآله كافرةً كما يدّعي الشيعةُ؛ فكيفَ بالنبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله أن يمسكَ بعصمتِها ويخالفَ قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصمِ الكوافر)؟، وجوابنا عن هذا السّؤالِ الإفتراضيّ ما يلي:
أوّلاً: إنّ الشيعةَ لم يحكموا على عائشةَ بالكفرِ، ولا يرضونَ بنسبةِ الكُفرِ إلى أحدٍ مِن صحابةِ رسولِ اللهِ «صلّى اللهُ عليه وآله».. إلّا إذا كانَ قد أعلنَ إرتدادَه كطليحةَ بنِ خويلد، ونظرائِه.. فلا معنى لهذا السّؤالِ منَ الأساس...
وثانياً: إنَّ ما وردَ مِن تعابيرَ قرآنيّةٍ ونبويّةٍ حولَ الارتدادِ على الأعقابِ يرادُ به عدمُ الإستمرارِ على خطِّ الطاعةِ، والتخلّفِ عن تنفيذِ الأوامر، والرّجوعِ إلى عادةِ الإهمالِ، وعدمِ تحمّلِ المسؤوليّاتِ، والامتناعِ عن القيامِ بالأعمالِ المنوطةِ بهم.. فهوَ كالكفرِ في قولِه تعالى: ﴿ ... وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ﴾. فإنَّ المُرادَ بالكُفرِ هُنا ليسَ الخروجَ منَ الدّين، بل المرادُ بهِ مجرّدُ عدمِ القيامِ بالواجبِ، لأنّهُ يشبهُ الكافرَ في هذهِ الجهةِ فقط..
وثالثاً: إنّ ما ذكرَه اللهُ تعالى في سورةِ التحريمِ عن إفشاءِ بعضِ النّساءِ سرَّ رسولِ الله «صلّى اللهُ عليه وآله»، وما ظهرَ منهنَّ مِن مواقفَ أوجبَت أن يقولَ اللهُ تعالى لنبيّه: ﴿إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَولَاهُ وَجِبرِيلُ وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ وَالمَلَائِكَةُ بَعدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبدِلَهُ أَزوَاجًا خَيرًا مِنكُنَّ مُسلِمَاتٍ مُؤمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبكَارًا ﴾.
فدلّنا بذلكَ: على أنَّ في سائرِ النّساءِ مَن هنَّ أفضلُ مِن تينِكَ المرأتينِ، وبيَّن لهما: أنَّ الأمورَ قد تنتهي بهما إلى هذهِ الأحوالِ الصّعبةِ، التي ربّما لم تكنُ تخطرُ لهُما على بال.
وفي مثالٍ قرآنيٍّ آخر، نلاحظُ: أنَّ مَن يتركُ الحجَّ وهوَ مستطيعٌ قد لا يلتفتُ إلى أنَّ الأمرَ قد يؤدّي بهِ إلى أن يصبحَ مِصداقاً لقولِه تعالى: ﴿ ... وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ﴾.
ومـمّا تقدّمَ نقول:
إذا قالَ الشيعةُ وأهلُ السنّةِ: إنّ آياتِ سورةِ التحريمِ قد نزلَت في عائشةَ وحفصةَ، فلا يعني ذلكَ: أن يكونوا قد حكموا بكفرِهما، لأنَّ مفادَ آياتِ سورةِ التحريم: أنّهما قد آذتا رسولَ الله «صلّى اللهُ عليه وآله»، ومَن يؤذي رسولَ الله «صلّى اللهُ عليه وآله» فحُكمُه كذا، وتنطبقُ عليهِ آيةُ كذا.. لأنَّ الكُفرَ مشروطٌ بأن تكونا ملتفتتينِ إلى لوازمِ فعلِهما، ولا شيءَ يدلُّ على أنّهما كانتا مُلتفتتينِ إلى لوازمِ ما صدرَ عنهما، إلّا أن يُقالَ: أنّهما لو لم تكونا ملتفتتين، لم يخاطبهما اللهُ بهذهِ الشدّةِ والحدّة، ونقولُ: إنَّ هذا يبقى مجرّدَ إستظهارٍ ظنّي، لأنَّ التشديدَ في الخطابِ قد يكونُ لمزيدٍ منَ التحذيرِ منَ الوقوع ِفي هذا الأمرِ الخطيرِ والحسّاسِ، فلا بدَّ مِن تتبّعِ سيرةِ حياتِهما، ليمكنَ الحكمُ عليهما بأنّهما كانتا مُصرّتينِ على مواقفِهما تجاهَ رسولِ الله «صلّى اللهُ عليه وآله» ؟!
وهكذا الحالُ بالنسبةِ لقولِه تعالى في النّهي عن الدّخولِ إلى بيتِ رسولِ الله «صلّى اللهُ عليه وآله ، وإطالةِ الجلوسِ عندَه: ﴿ ... وَلَا مُستَأنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُم كَانَ يُؤذِي النَّبِيَّ فَيَستَحيِي مِنكُم ... ﴾. فإنَّ مَن كانَ يفعلُ ذلكَ قد لا يكونُ مُلتفِتاً إلى أنَّ ذلكَ كانَ يؤذي النبيَّ «صلّى اللهُ عليه وآله»، وإنَّ اللهَ قد لعنَ مَن يؤذي النبيَّ في الدّنيا والآخرة وإنَّ له عذاباً أليماً.
ثمَّ إنَّ أساسَ المشكلةِ هي: أنَّ إخوانَنا مِن أهلِ السنّةِ يروونَ لنا رواياتٍ في أصحِّ كتبِهم كالبخاريّ ومسلمٍ وغيرِهما، فإذا طالبناهم بمضامينِها، وألزمناهم بما يُلزمون بهِ لم يقبلوا بذلكَ منّا، بل تراهُم يتّهموننا بأنّنا نكفِّر هذا، أو نسبُّ ذاك، أو نتجنّى على هذا أو ذاك.. فمثلاً يروي لنا أهلُ السنّة: أنَّ مَن يخرُج على إمامِ زمانِه، أو مَن نكثَ بيعتَه فقَد كفر، أو ماتَ ميتةً جاهليّة، فحكمُه كذا، فإذا قُلنا لهم: إنَّ عائشةَ، وطلحةَ والزّبير، قد خرجوا على إمامِ زمانِهم، ونكثوا بيعتَه، كما أنَّ معاويةَ قد بغى على الإمامِ، فلا بدَّ مِن حلِّ هذا الإشكال،
قالوا لنا: أنتم تكفِّرونَ الصّحابةَ، أو تكفِّرونَ زوجاتِ الرّسول «صلّى اللهُ عليهِ وآله ، أو تسبّونَهم، وإذا قُلنا لهم: إنَّ الذينَ قتلَهم خالدٌ ـ فيما يُزعمُ أنّها حروبُ الردَّة ـ لم يزيدوا على أن طلبوا أن يوزّعوا زكاةَ أموالِهم على فقرائِهم، أو لأنّهم أرادوا أن يبايعوا عليّاً «عليهِ السّلام»، وهذا لا يكفي للحُكمِ عليهم بالردَّةِ والكفر، ثمَّ قتلِهم صبراً.
بل يقالُ: إنَّ خالداً قتلَ مالكاً بنَ نويرةَ بسببِ جمالِ زوجةِ مالك، واعتدى عليها في نفسِ الليلةِ التي قتلَ فيها زوجَها، فكيفَ نحلُّ هذا الإشكالَ، وكيفَ نتعاملُ مع خالدٍ وبماذا نحكمُ عليه؟ والحالُ، أنَّ صريحَ القرآنِ يقولُ: ﴿ وَمَن يَقتُل مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾.
نعم، إنّنا إذا قلنا لهم ذلكَ، قالوا لنا: أنتم تطعنونَ في الصّحابةِ، وتنتقصونَ مِن قدرِهم!
فهل تحلُّ هذه الأجوبةُ أمثالَ هذه الإشكالاتِ؟ فلا بدَّ - إذن - من إجاباتٍ مُقنعةٍ في هذا المقامِ يقبلُ بها العقلاءُ وأهلُ العلم ، فحينَها تُوضعُ النقاطُ فوقَ الحروفِ، فيحيى مَن حييَّ عن بيّنةٍ ويهلك مَن هلكَ عن بيّنةٍ. ودمتُم سالمين.
اترك تعليق