هل الشرُّ مخلوقٌ منَ اللهِ سُبحانَه و تعالى؟ يُرجى توضيحُ ذلكَ معَ الأدلّةِ
السّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته
نشيرُ في البدايةِ إلى ما يحتويهِ هذا السّؤالُ مِن تخوّفٍ وحذر، ويعودُ ذلكَ إلى وجودِ لوازمَ مرفوضةٍ سواءٌ كانَت الإجابةُ سلبيّةً أم إيجابيّة، فإذا قيلَ الشرُّ مخلوقٌ؛ قيلَ كيفَ يخلقُ اللهُ الشرَّ وهوَ مُطلقُ الخيرِ الذي لا شرَّ فيه؟ قالَ تعالى: (أَلَم تَرَوا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَأَسبَغَ عَلَيكُم نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيرِ عِلمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) وقد نفى اللهُ فعلَ القبيحِ عَن نفسِه حيثُ قال: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدنَا عَلَيهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُل إِنَّ اللَّهَ لَا يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعلَمُونَ).
وإن قيلَ أنَّ الشرَّ غيرُ مخلوقٍ؛ قيلَ بوجودِ ما هوَ خارجٌ عنَ خلقِ اللهِ وأمره، وهذا خلافُ قولِه تعالى: (اللهُ خالقُ كُل شيء) ومنَ الواضحِ أنَّ الشيءَ يُطلقُ على كلِّ ما لهُ تحقّقٌ خلافاً للمعدوم، والشرُّ شيءٌ عندَ جميعِ العُقلاء، ولو لم يكُن شيئاً لما صحَّ قولهُ تعالى: (ومن شرّ ما خلق) وقولهُ تعالى: (ومن شرّ الوسواس الخناس)، وقولُه تعالى: (وَأَنَّا لا نَدرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرضِ أَم أَرَادَ بِهِم رَبُّهُم رَشَداً).
وقد قادَت مشكلةُ الشرورِ وعلاقتُها بالخالقِ إلى وقوعِ الكثيرِ منَ الدياناتِ في الثنائيّةِ، مثلَ الزرادشتيّة الذينَ قالوا بأنَّ هناكَ إلهاً للخيرِ وإلهاً للشرّ، أو إلهاً للنورِ وإلهاً للظُلمة، وعليهِ فإنَّ الإجابةَ على هذا السؤالِ لا تكتملُ إلّا إذا تضمّنَت نفياً للّوازمِ الفاسدة، فالإجابةُ المثاليّةُ يجبُ أن تتضمّنَ عدمَ خروجِ الشرِّ عن خلقِ الله وسلطانِه وفي نفسِ الوقتِ يجبُ نفيُ نسبةِ الشرورِ الى اللهِ تعالى، ومِن هُنا كانَت اجتهاداتُ علماءِ الكلامِ والإلهيّاتِ تعملُ على رسمِ تصوّرٍ تنحلُّ بهِ هذه الإشكالاتُ، وسوفَ نعملُ على تبسيطِ الإجابةِ حتّى تكونَ واضحةً للجميع.
مالَ الرأيُ العامُّ في معالجةِ هذهِ الإشكاليّة إلى إنكارِ وجودِ الشرورِ، باعتبارِ أنّها ليسَت شيئاً ملموساً أو لها وجودٌ شاخص، وما نراهُ في عالمِ الموجوداتِ هوَ الخير؛ لأنَّ الوجودَ بما هوَ وجودٌ خيرٌ محض، و الشرورُ ليسَت موجوداتٍ واقعيّةً أصيلةً حتّى تحتاجَ إلى خالقٍ ومبدأ مُستقلّ، ولا يعني هذا إنكارَ واقعيّةِ الشرورِ في الحياة - فوجودُها منَ البديهيّاتِ المُتسالمِ عليها عندَ الجميع - وإنّما يعني عدمَ حاجتِها لخلقٍ مُستقلٍّ، حيثُ يكفي في وجودِ الشرورِ عدمُ الوجودِ أو تضاربُ المصالحِ بينَ الموجودات، فالشرورُ في لسانِ العُرفِ تُطلقُ على ما يكونُ نقصاً وعدماً، فالمرضُ مثلاً أصبحَ شرّاً لعدمِ العافية، والموتُ شرٌّ لعدمِ الحياة، والعمى شرٌّ لعدمِ البصر، والفقرُ شرٌّ لعدمِ المال، أمّا العافيةُ والحياةُ والبصرُ والمال فهيَ خيرٌ لكونِها موجودةً، وعليهِ فإنَّ الشرَّ بهذا المعنى ليسَ موجوداً مُستقلّاً يتعلّقُ بهِ خلقُ الخالق، وإنّما يكفي فيهِ عدمُ الإيجادِ أو إيجادُه ناقِصاً، وعندَها تتغيّرُ صيغةُ السؤالِ فلا يقالُ لماذا خلقَ اللهُ الشرَّ؟ وإنّما يقالُ لماذا لم يُخلق كذا أو لماذا خُلقَ كذا ناقصاً؟ وحينَها يكونُ البحثُ عن حِكمةِ ذلكَ وفلسفتِه، وسواءٌ توصّلنا للحِكمةِ أو لم نتوصَّل لا يعني أبداً أنَّ هناكَ شروراً مخلوقةً بذاتِها ولذاتِها، وهذا هوَ مقصودُ قولِ الفلاسفة: (إنّ الشرورَ ليسَت مجعولةً بالذاتِ وإنّما هيَ مجعولةٌ بالعرَض)، وبالتالي ما نراهُ مِن شرورٍ يعودُ إلى كونِ المخلوقِ بما هوَ مخلوقٌ مِن طبعِه النقصانُ والحاجة، والكمالُ فقط هو لمالكِ الوجودِ ومُعطيهِ سبحانَه وتعالى.
وهناكَ شرورٌ ناتجةٌ عن تضاربِ المصالحِ بينَ المخلوقاتِ، فهيَ في نفسِها خيرٌ ولكنّها بالنسبةِ لغيرِها شرٌّ، فمثلاً إذا نظرنا للعقربِ السامّةِ بما هيَ بعيداً عن علاقةِ ذلكَ بالإنسان، لما تمكنّا منَ الحُكمِ عليها بأنّها شرٌّ، فهيَ خلقُ اللهِ وتعيشُ في أرضِ الله ووجودُها بالنسبةِ لها خيرٌ لا شرَّ فيه، أمّا إذا نظرنا لِما تسبّبُه مِن مخاطرَ للإنسانِ فإنّنا نحكمُ بكونِها شرّاً، وحينَها يكونُ الشرُّ أمراً نسبيّاً وليسَ حقيقيّاً، فوصفُ الشيءِ بالشرِّ إمّا أن يكونَ في نفسِه وإمّا أن يكونَ لغيره، ومنَ الواضحِ أنَّ كلَّ المخلوقاتِ التي تسبّبُ ضرراً للإنسانِ لا يصحُّ وصفُها بالشرِّ في نفسِها وبنفسِها، وإن صحَّت تلكَ الصفةُ فهيَ بمُقارنتِها بموجودٍ آخر وهوَ الإنسان، وحينَها يتحوّلُ البحثُ مِن لماذا خلقَ اللهُ الشرَّ؟ إلى البحثِ عن الحِكمةِ مِن وجودِ مخلوقاتٍ يتضرّرُ مِن وجودِها الإنسان؟ وهنا قد تبرزُ كثيرٌ منَ البحوثِ العلميّةِ التي تشرحُ الترابطَ الدقيقَ بينَ جميعِ المخلوقاتِ، وإنّها فيما بينَها تشكّلُ هدفاً بعيداً وهوَ سلامةُ البيئةِ وضمانُ استمرارِ الحياةِ فيها، فالمصلحةُ الكُليّةُ مُقدّمةٌ على المصلحةِ الشخصيّةِ والآنيّة، وقد زوّدَ اللهُ الإنسانَ بالعقلِ الذي يمكّنُه مِن تفادي تلكَ المضار، ولذا عملَ الإنسانُ في طولِ تاريخِه على حفظِ نفسِه مِن كثيرٍ منَ المخاطر، وقد تطوّرَ العلمُ اليومَ بالشكلِ الذي حفظَ الإنسانَ مِن كثيرٍ منَ الأمراضِ والآفات، وحتّى لو لم نقتنِع بهذا الطرحِ لا يمكنُ أن يقودَنا إلى القولِ بوجودِ شرورٍ مخلوقةٍ، فما هوَ موجودٌ مِن مخلوقاتٍ هوَ خيرٌ في نفسِه وإن كانَ شرّاً لغيره، والمخلوقاتُ كلّها تقعُ في عرضٍ واحدٍ لكونِها خلقاً للهِ تعالى، ولا يمكنُ وضعُ اليدِ على شيءٍ منها ونقولُ أنَّ ذلكَ الشيءَ ليسَ إلّا شرّاً.
وفي الخُلاصةِ جازَ لنا أن نقولَ أنَّ الشرَّ غيرُ مخلوقٍ لكونِه ليسَ وجوداً مستقلّاً بذاتِه، كما يجوزُ القولُ بأنّهُ مخلوقٌ لكونِه نتاجَ نظامِ الكونِ والوجودِ الذي خلقَه اللهُ تعالى، فهوَ مخلوقٌ عارضٌ على وجودِ المخلوقات، فكلُّ ما في الوجودِ هوَ خلقُ اللهِ وفعلهُ بما فيهِ مِن تكاملٍ أو تعارض، وفي نفسِ الوقتِ لا يجوزُ نسبةُ الشرِّ إلى الله، لأنَّ اللهَ لم يصدُر عنه إلّا الخلقُ والإيجاد، وكلُّ ما هوَ موجودٌ فهوَ خيرٌ لا شكَّ فيه، أمّا حرمانُ شيءٍ منَ الوجودِ في ذاتِه أو في كمالاتِه الوجوديّةِ، لا يعدُّ شرّاً لأنَّ صاحبَ الوجودِ ومالكَه هوَ الأعلمُ بحِكمتِه في ذلك، ولا يحقُّ للمخلوقِ القاصرِ في علمِه وإدراكِه أن يشترطَ عليهِ شيئاً في فعله، فاللهُ هو الذي يُعطي الوجودَ لمَن يشاءُ ويمنعُه عمّن يشاءُ سبحانَه وتعالى.
اترك تعليق