ما معنى قولِ رسولِ اللهِ (ص): الأرواحُ جنودٌ مُجنّدة فما تعارفَ منها ائتلف وما تناكرَ منها اختلف؟   

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 

البحثُ في هذا الحديثِ يقعُ في مقامين:  

  

المقامُ الأوّل: بيانُ سندِ الحديث:  

هذا الحديثُ منَ الأحاديثِ المشهورةِ في كتبِ الفريقين، ورويَ مُستفيضاً وبطرقٍ عديدةٍ في مصادرِنا الحديثيّة، وفيها ما هوَ المُعتبرُ سنداً، فقد رويَ عن النبي (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وأميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام)، والباقرِ والصادقِ (عليهما السلام).  

  

المقامُ الثاني: في بيانِ معنى الحديث:  

ذُكرَ لهذا الحديثِ عدّةُ وجوهٍ:  

الوجهُ الأوّل: أن يكونَ مرادُ الحديثِ هوَ الإشارةُ إلى التشاكلِ في الآراءِ والاعتقاداتِ، وأنّها تتعارفُ وتأتلفُ معَ مَن يوافقُها في الرأي، وتختلفُ مع مَن ينافرُها في الرأي.  

قالَ الشيخُ المُفيد: أنَّ الأرواحَ التي هيَ الجواهرُ البسائط تتناصرُ بالجنسِ وتتخاذلُ بالعوارضِ، فما تعارفَ منها باتّفاقِ الرأي والهوى ائتلفَ، وما تناكرَ منها بمباينةٍ في الرّأي والهوى اختلف، وهذا موجودٌ حسّاً ومشاهدةً. (المسائلُ السروية للمُفيد، ص53).   

وهذا بحسبِ مبناهُ مِن عدمِ تقدّمِ الأرواحِ على الأبدان.  

  

الوجهُ الثاني: أن يكونَ المرادُ هوَ الإشارةُ إلى التشاكلِ بحسبِ الطباعِ التي جُبلَت عليها، منَ الخيرِ والشرِّ والصلاحِ والفساد، فالخيّرُ يميلُ إلى الخيّرينَ، ويأتلفُ معهم، والشريرُ يميلُ إلى الأشرار، ويأتلفُ معهم، وهكذا.  

وذهبَ إلى هذا التفسيرِ بعضُ أبناءِ العامّة. (فتحُ الباري: 6 / 263).  

  

الوجهُ الثالث: أن يكونَ الحديثُ إشارةً إلى تعارفِ الأرواحِ في العوالمِ السابقةِ على عالمِ الأبدان، فما تعارفَ منَ الأرواحِ في تلكَ العوالم، تعارفَت وائتلفَت في هذا العالم، وما تناكرَت هناكَ، اختلفَت هُنا.  

روى الصدوقُ بسندٍ موثّقٍ عن أبي عبدِ اللهِ عليهِ السلام قالَ: إنَّ الأرواحَ جنودٌ مُجنّدة، فما تعارفَ منها في الميثاقِ أيتلفَ هاهنا، وما تناكرَ منها في الميثاقِ اختلفَ ههنا. (عللُ الشرائع للصّدوق: 2 / 426).  

وروى الصدوقُ بسندٍ مُعتبر إلى حبيب قال: حدّثني الثقة، عن أبي عبدِ الله (ع) قال: إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى أخذَ ميثاقَ العبادِ وهُم أظلّةٌ قبلَ الميلاد، فما تعارفَ منَ الأرواحِ أيتلفَ، وما تناكرَ منها اختلف. (عللُ الشرائعِ للصّدوق: 1 / 84). 

ويؤيده: منها ما روى الصفّارُ في البصائرِ بأسانيدَ عن أبي حمزةَ الثمالي عن أبي عبدِ الله عليه السّلام أنَّ رجلاً قالَ لأميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلام واللهِ إني لأحبُّك ثلاثَ مرّات فقالَ عليٌّ عليهِ السّلام واللهِ ما تحبُّني فغضبَ الرجلُ فقالَ كأنّكَ واللهِ تخبرُني ما في نفسي قالَ له عليٌّ عليهِ السلام ولكنَّ اللهَ خلقَ الأرواحَ قبلَ الأبدانِ بألفي عامٍ فلم أرَ روحَك فيها. (بصائرُ الدرجاتِ للصفّار، ص108).  

وروى بسندِه عن عمارةَ قالَ كنتُ جالساً عندَ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلام إذ أقبلَ رجلٌ فسلّمَ عليه ثمَّ قالَ يا أميرَ المؤمنين واللهِ إنّي لأحبُّكَ فسألَه ثمَّ قالَ له إنَّ الأرواحَ خُلقَت قبلَ الأبدانِ بألفي عامٍ ثمَّ أسكنَت الهواءَ فما تعارفَ منها ثمَّ أيتلفَ هيهنا وما تناكرَ منها ثمَّ اختلفَ هيهنا وإنَّ روحي أنكرَ روحَك. (بصائرُ الدّرجاتِ للصفّار، ص108).  

وروى بسندِه عن إبراهيمَ بنِ أبي البلادِ عن أبيهِ عن بعضِ أصحابِ أميرِ المؤمنينَ قالَ دخلَ عبدُ الرّحمنِ بنُ ملجم لعنَه اللهُ على أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلام في وفدِ مصرَ الذي أوفدَهم محمّدٌ بنُ أبي بكر (ره) ومعَه كتابُ الوفدِ قالَ فلمّا مرَّ باسمِ عبدِ الرّحمنِ بنِ ملجم قالَ أنتَ عبدُ الرحمنِ لعنَ اللهُ عبدَ الرحمنِ قالَ نعم يا أميرَ المؤمنين أما واللهِ يا أميرَ المؤمنين إنّي لأحبُّكَ قالَ كذبتَ واللهِ ما تحبّني ثلاثاً قالَ يا أميرَ المؤمنين أحلِفُ ثلاثةَ أيمانٍ أنّي أحبُّك وأنتَ تحلفُ ثلاثةَ أيمانٍ أنّي لا أحبُّك قالَ ويلَك أو ويحَك إنَّ اللهَ خلقَ الأرواحَ قبلَ الأبدانِ بألفي عامٍ فاسكنَها الهواءَ فما تعارفَ منها هنالكَ أيتلفَ في الدنيا وما تناكرَ منها اختلفَ في الدّنيا وإنَّ روحي لا تعرفُ روحَك قالَ فلمّا ولّى قالَ إذا سرَّكم أن تنظروا إلى قاتِلي فانظروا إلى هذا قالَ بعضُ القومِ أولا تقتلُه أو قالَ تقتلُه فقالَ مَن أعجبُ مِن هذا تأمروني أن أقتُلَ قاتلي (لع). (بصائرُ الدّرجاتِ للصفّار، ص108).  

وروى الصدوقُ بسندِه عن حبيبٍ، عمَّن رواه، عن أبي عبدِ الله (ع) قال: ما تقولُ في الأرواحِ أنّها جنودٌ مُجنّدة، فما تعارفَ منها إئتلفَ وما تناكرَ منها اختلف، قالَ: فقلتُ: إنّا نقولُ ذلك، قالَ: فإنّهُ كذلكَ، أنَّ اللهَ عزَّ وجل أخذَ منَ العبادِ ميثاقَهم وهُم أظلّةٌ قبلَ الميلادِ وهوَ قوله عزَّ وجل: ( وإذ أخذَ ربُّكَ مِن بني آدمَ مِن ظهورِهم ذرّيّتَهم وأشهدَهم على أنفسِهم ) إلى آخرِ الآية. قالَ: فمَن أقرّ لهُ

يومئذٍ جاءَت ألفتُه هاهُنا ، ومَن أنكرَه يومئذٍ جاءَ خلافُه ها هُنا. (عللُ الشرائعِ للصّدوق: 1 / 84),  

علّقَ المجلسيُّ: بيان: جاءَت ألفتُه أي ألفتُه معَ أئمّتِه ومعرفتُه لهم، أو ألفةُ المؤمنينَ بعضَهم ببعضٍ مِن جهةِ اتّفاقِهم في المذهبِ. ويحتملُ أن يكونَ التعارفُ معرفةَ الشيعةِ لأئمّتِهم، والائتلافُ ألفةَ المؤمنينَ بعضُهم ببعضٍ لموافقتِهم في المذهب. (بحارُ الأنوار: 5 / 241).

ويظهرُ مِن بعضِ الرواياتِ أنّ لها مفهوماً أوسعَ منَ التعارفِ والتناكرِ الحاصلِ في عالمِ الذرِّ والميثاق، وأنّ هناكَ تعارفاً وتناكراً عندَ تلاقي الأرواحِ في عالمِ الدّنيا أيضاً، حيثُ روى الصّدوقُ بسندِه عَن معاويةَ بنِ عمّار، عن أبي جعفرٍ (ع)، قالَ: إنَّ العبادَ إذا ناموا خرجَت أرواحُهم إلى السماءِ، فما رأت الرّوحُ في السّماءِ فهوَ الحقُّ، وما رأت في الهواءِ فهوَ الأضغاثُ، ألا وإنَّ الأرواحَ جنودٌ مُجنّدةٌ فما تعارفَ منها ائتلفَ، وما تناكرَ منها اختلف، فإذا كانَت الروحُ في السّماءِ تعارفَت وتباغضَت، فإذا تعارفَت في السماءِ تعارفَت في الأرضِ، وإذا تباغضَت في السماءِ تباغضَت في الأرض. (أمالي الصّدوق، ص209).  

  

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.