سؤال عن حزن أبي بكرٍ في الغارِ معَ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله)
استفسار: قُلتــم : (فالحزنُ كفعلٍ لا يخرجُ عَن أحدِ أمرين، فإمّا أن يكونَ في غضبِ اللهِ وسخطِه، وإمّا أن يكونَ في رِضا اللهِ وقبوله، ولا خيارَ ثالثَ بينَ الخيارين) والسؤالُ ماذا ينطبقُ على هذين الموقفين: 1- وَأَوحَينَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَن أَرضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِّ ((وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحزَنِي ۖ )) إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرسَلِينَ 2- فَنَادَاهَا مِن تَحتِهَا (أَلَّا تَحزَنِي) قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
جاءَ قولنا في معرضِ الحديثِ عن فضلِ أبي بكرٍ في الغارِ معَ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وقُلنا هناك: (أمّا قولهُ: (لاَ تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فهيَ ظاهرةٌ في أنَّ رسولَ اللهِ قد نهاهُ عن الحُزن، فـ(لا) حرفٌ يدلُّ على النهي، ولا يمكنُ أن ينهى رسولُ اللهِ عن فعلٍ فيهِ رضا اللهِ تعالى، فالحزنُ كفعلٍ لا يخرجُ عن أحدِ أمرين، فإمّا أن يكونَ في غضبِ الله وسخطِه، وإمّا أن يكونَ في رضا اللهِ وقبولِه، ولا خيارَ ثالثَ بينَ الخيارين، وبما أنَّ رسولَ اللهِ قد نهاهُ عن هذا الفعل، علِمنا أنَّ حُزنَه حتماً لم يكُن في سبيلِ اللهِ كما توهّمَ البعض، لأنَّ الرسولَ لا ينهى عبداً عن فعلٍ يرضي فيهِ ربّه) وهوَ استنتاجٌ صحيحٌ بحسبِ سياقِ الآية، فعندَما نهاهُ رسولُ اللهِ عن الحزنِ كانَ قد وقعَ منهُ الحُزنُ بالفعل، ووقوعُ الحُزنِ مِن صاحبِ الغارِ لا يخرجُ عَن كونهِ حُزناً يستوجبُ طاعةَ اللهِ ورضاه، وإمّا يستوجبُ معصيةَ اللهِ وسخطه، ولا يمكنُ افتراضُ أنَّ حُزنَه كانَ على أمرٍ مُباحٍ في نفسِه؛ لأنَّ ذلكَ غيرُ مُتصوّرٍ بحسبِ ذلكَ الموقف، وبذلكَ لا يتعارضُ ذلكَ معَ الآياتِ التي ذكرَها السّائل.
فأمّا قولهُ تعالى: (وَأَوحَينَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَن أَرضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرسَلِينَ)، منَ الواضحِ أنَّ الحُزنَ غيرُ مُتصوّرٍ قبلَ أن تُلقيهِ في البحرِ لكونِه نتيجةً طبيعيّةً له، أمّا بعدَ أن ألقَته في البحرِ فالآيةُ ظاهرةٌ في عدمِ وقوعِ الحُزنِ منها؛ لأنَّ اللهَ طمّنَها في نفسِ اللحظةِ التي أمرَها أن تُلقيه في البحر، أي قالَ لها ألقيهِ في البحرِ ولا تخافي ولا تحزني لأنّا رادّوهُ إليكِ وجاعلوهُ منَ المُرسلين، فنبّهَها اللهُ قبلَ وقوعِ الحُزنِ منها، وعليهِ لا يمكنُ بعدَ ذلكَ تصوّرُ صدورِ الحُزنِ مِنها.
أمّا قولهُ تعالى: (فَنَادَاهَا مِن تَحتِهَا أَلَّا تَحزَنِي قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا) فمنَ المؤكّدِ أنَّ الحُزنَ صدرَ عن مريمَ (عليها السّلام) وذلكَ ما تؤكّدُه الآيةُ التي جاءَت قبلَ هذهِ الآيةِ وهيَ قولهُ تعالى: (فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَىٰ جِذعِ النَّخلَةِ قَالَت يَا لَيتَنِي مِتُّ قَبلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسيًا مَّنسِيًّا)، ومنَ الطبيعيّ أن يصدرَ عنها ذلكَ الحُزن، لأنَّ ما حدثَ لها أمرٌ خارقٌ للعادةِ ولا يمكنُ أن يُصدّقَ بنو إسرائيل ببراءتِها، فجاءَتها التطميناتُ مِن نفسِ المولودِ المُباركِ بأن لا تحزن، وعليهِ فالدافعُ للنهي ليسَ معصيةً ارتكبَتها، وإنّما كانَ الدافعُ هوَ الرحمةُ والإشفاقُ على حالِها، وهوَ شبيهٌ بتسليةِ اللهِ لرسولِه عندَما يحزنُ مِن قولِ الظالمين، قالَ تعالى: (قَد نَعلَمُ إِنَّهُ لَيَحزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُم لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجحَدُونَ) فمنَ المؤكّدِ أنَّ حُزنَ رسولِ اللهِ مشروعٌ وفي رضا اللهِ ومعَ ذلكَ يقومُ اللهُ بتسليتِه، وينطبقُ الأمرُ على ضيقِ الصدرِ كما في قولِه تعالى: (وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) فضيقُ صدرِ النبيّ معَ أنّهُ في مرضاةِ اللهِ إلّا أنَّ اللهَ يأمرُه بالتسبيحِ حتّى يُخفّفَ عنه، وكذلكَ قولُه تعالى: (فَلَا يَحزُنكَ قَولُهُم ۘ إِنَّا نَعلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعلِنُونَ) فمعَ أنَّ الآيةَ فيها نهيٌ عن الحُزنِ إلّا أنَّ المقامَ هو مقامُ تخفيفٍ عن النبيّ وتسليةٍ له، وليسَ مقامَ نهيٍ عن معصيةٍ ارتكبَها، وكلُّ ذلكَ بخلافِ ما يقتضيهِ الأمرُ في الآيةِ المُتعلّقةِ بحادثةِ الغار، فإنَّ الآيةَ ليسَ فيها ما يحملُنا على أنَّ حُزنَه كانَ في رضا اللهِ حتّى نحملَ نهيَ الرسولِ لهُ على الشفقةِ والرحمةِ بحالِه، والدليلُ على ذلكَ هوَ عدمُ شمولِه بالسكينةِ معَ أنّهُ كانَ أولى بها طالما كانَ حُزنُه على رسولِ اللهِ وفي رضا اللهِ تعالى، وقد قُلنا في الإجابةِ السابقةِ ما يلفتُ الانتباهَ لهذا الأمرِ، حيثُ قُلنا: (فلماذا عندَما نزلَ النصرُ منَ اللهِ لم ينزِل عليهما ونزلَ على الرسولِ وحدَه؟ حيثُ قال: (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَم تَرَوهَا) فإنزالُ السكينةِ على رسولِ اللهِ دونَ صاحبِه دليلٌ واضحٌ على عدمِ استحقاقِه لها، وإلّا ما هوَ المُبرّرُ مِن حرمانِه منها، طالما هوَ معهُ في الإيمانِ وشريكهُ في الغايةِ والهدف؟ ومنَ المعلومِ أنَّ السكينةَ ليسَت خاصّةً بالأنبياءِ وإنّما تنزلُ أيضاً على المؤمنينَ، قالَ تعالى: (ثمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّم تَرَوهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ) فعندَما كانَ المؤمنونَ على نفسِ توجّهِ رسولِ اللهِ شملتَهم السكينةُ حتّى وإن كانوا مُتفرّقينَ في ميدانِ القتال، أمّا عندَما كانَ صاحبُ الغارِ على غيرِ توجّهِ الرسولِ لم تشمَله السكينةُ حتّى وإن لم تفصِله عن رسولِ اللهِ أيُّ مسافةٍ مكانيّة).
اترك تعليق