لماذا لم تتمَّ مُعاقبةُ خالد بنِ الوليد على ما فعلَه في بني جُذيمةَ بنِ عامر مِن كنانة سنةَ ( ٨ هج ) حيثُ قتلَ مِنهم مقتلةً للثأرِ بقتلِ عمّه الفاكهِ بنِ المُغيرة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : تطرّقَ لذلكَ العلّامةُ جعفر مرتضى العامليّ في كتابِه الصحيحُ مِن سيرةِ النبيّ الأعظم، فبعدَ نقلِه للحادثةِ بكلِّ تفاصيلِها وبجميعِ ما قيلَ فيها مِن صفحةِ 245 إلى صفحةِ 292، توقّفَ عن هذا السّؤالِ حيثُ قال: لماذا لم يُعاقِب النبيُّ خالداً؟!: يقولُ: ولا يشكُّ أيُّ مُطّلعٍ مُنصفٍ في أنَّ رسولَ اللهِ «صلّى اللهُ عليهِ وآله» قد غضبَ ممّا جناهُ خالد، ولم يكتفِ بالإعراضِ، بل شفعَ ذلكَ بتكرارِ البراءةِ إلى اللهِ مِن فعلِه ثلاثَ مرّات. ثمَّ هوَ قد واجههُ باللومِ على ما بدرَ منه تجاهَ عبدِ الرحمنِ بنِ عوف الذي اعترضَ عليه بسببِ ما صدرَ منه. غيرَ أن ثمّةَ سؤالاً يبقى بحاجةٍ إلى جواب.. وهوَ: لماذا لم يأخُذ النبيُّ «صلّى اللهُ عليهِ وآله» خالداً بجريمتِه، ما دامَ أنّه قد كانَ منَ المؤكّد: أنّه إنّما قتلَ جماعةً منَ المُسلمين، وأنّه لم يكُن صادِقاً حينَما ادَّعى عليهم الكُفر.. وأنّه قد كذبَ على رسولِ الله «صلّى اللهُ عليهِ وآله» بادِّعائه: أنّه «صلّى اللهُ عليهِ وآله» هو الذي أمرَه بقتلِهم؟! ولعلَّ الصّوابَ أن يتضمّنَ الجوابُ ما يلي: إنّنا لا نريدُ أن نقولَ: إنَّ قتلَ خالدٍ يحبطُ مسعى النبيّ «صلّى اللهُ عليهِ وآله» لاستقطابِ مُستضعفي المنطقةِ، مِن حيثُ إنَّ ذلكَ سيثيرُ أمامَ الدعوةِ الإسلاميّةِ ألفَ مُشكلةٍ ومُشكلة، حينَ تتحرّكُ زعاماتُ قريش في إعلامٍ مسموم، يرمي إلى إثارةِ الشبهاتِ في حقّانيّةِ هذا الدين، وفي صحّةِ قراراتِ النبيّ الكريم «صلّى اللهُ عليهِ وآله».. ولكنّنا نريدُ أن نكتفي بالقولِ: بأنَّ ادِّعاءَ خالد: أنَّ بني جذيمةَ كانوا كفّاراً حينَ قتلهم، قد كانَ بهدفِ إيجادِ الشبهةِ في أن يكونَ قد اشتبهَ عليهِ الأمر، فظنَّ كُفرَهم، فقتلَهم. وهوَ وإن كانَ مُخطِئاً في ذلكَ بلا ريب، إلّا أنَّ خطأه هذا لا يُبرّرُ الاقتصاصَ لهم منه. بل هوَ يوجبُ أن يعطيهم إمامُ المُسلمين، وهوَ رسولُ الله «صلّى اللهُ عليهِ وآله» الديّة مِن بيتِ المال. وقد بادرَ «صلّى اللهُ عليهِ وآله» إلى دفعِ الديّةِ لهم، وتعويضِهم عن كلِّ ما فقدوه. والقرائنُ والدلالاتُ وإن كانَت مُتضافرةً على تكذيبِ هذهِ المزعمة. ولكنّها مزعمةٌ تكفي لدفعِ غائلةِ الاقتصاصِ مِن خالد، فإنَّ الحدودَ تُدرأ بالشبهات. وقد أشَرنا مرّاتٍ عديدةً إلى: أنَّ النبيّ «صلّى اللهُ عليهِ وآله» لا يتعاملُ معَ الناسِ على أساسِ علمِ الشاهديّة، أو العلمِ الخاصِّ الذي يمنحُه اللهُ تعالى إيّاه، وإنّما يتعاملُ معَهم وفقَ ما تؤدّي إليهِ الوسائلُ العاديّةُ المتوفّرةُ لديهم، فهوَ يقضي بينَ الناسِ بالأيمانِ والبيّناتِ، وبما يوجبُه الإقرارُ، وما يراهُ بعينِه، ويسمعُه بأذنِه.. وتوضيحٌ آخر نضيفُه هُنا، وهوَ: أنَّ خالداً، وإن كانَ منهيّاً عن القتالِ، لأنَّ سريّتَه سريّةُ دعوةٍ لا سريّةُ قتالٍ. وقد أخطأ في قتالِه لبني جذيمةَ بلا ريب. ولكن هناكَ أمرانِ يفرضانِ تعامُلاً خاصّاً، يتناسبُ معَ مُقتضياتِهما وهُما: أوّلاً: أنَّ المُسلمَ لا يُقتَلُ بالكافر.. فادِّعاءُ كُفرِهم يجعلُ خالداً الذي قتلَهم عمداً في مأمنٍ منَ القصاص. أي أنَّ هؤلاءِ، وإن كانوا مُسلمينَ في واقعِ الأمر، ولكنَّ خالداً يدَّعي: أنّه إنّما قتلَهم لظنِّه فيهم الكُفر.. وهذهِ شُبهةٌ توجبُ دفعَ القصاص، كما قُلنا. ثانياً: إنّه لا يجوزُ الإقدامُ على أيّ تصرّفٍ يثيرُ الشبهةَ في صحّةِ ودقّةِ وصوابيّةِ التصرّفات، التي تصدرُ عن رسولِ الله «صلّى اللهُ عليهِ وآله».. فلا يجوزُ له أن يفعلَ ما يوجبُ شكّهم في نبوّتِه، أو اتّهامَه في عصمتِه.. ولعلَّ ذلكَ هو بعضُ فوائدِ عدمِ السماحِ له بأن يتعاملَ معَ الناسِ بعلمِ الشاهديّة.
اترك تعليق