ما هي مراحل تزكية النفس و هل تختلف بين المذهبين ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : لفهمِ مراحلِ التزكيةِ لا بدَّ أوّلاً مِن بيانِ أهميّةِ التزكيةِ وضرورتِها، ومعرفةُ ذلكَ يتوقّفُ على إجابةِ سؤالين، الأوّلُ: ما هيَ طبيعةُ الإنسان؟ والثاني: ما هوَ الهدفُ مِن وجودِه؟ والعلاقةُ بينَ السؤالينِ هيَ ذاتُها العلاقةُ بينَ المُقدّمةِ والنتيجةِ، فمَن يسعى لتحقيقِ هدفٍ مُعيّنٍ لابدَّ أن يمتلكَ المُقدّماتِ المُناسبة لذلكَ الهدف، فلا يمكنُ فهمُ الأهدافِ الوجوديّةِ للإنسان ما لم نفهَم الطبيعةَ التكوينيّةَ له، وذلكَ لضرورةِ التناسبِ بينَ طبيعةِ الإنسانِ وبينَ الغاياتِ التي خُلقَ مِن أجلها، فمنَ المُستحيلِ أن يرسمَ القرآنُ أهدافاً للإنسانِ لا تتماشى مع الجانبِ الطبيعيّ لشخصيّتِه؛ لأنَّ ذلكَ تكليفٌ بما لا يطاقُ وقد نفى القرآنُ ذلكَ عن نفسِه حيثُ قال: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلَّا وُسعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَت وَعَلَيهَا مَا اكتَسَبَت) وقال: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) ويتّضحُ مِن ذلكَ أنَّ الهدفَ مِن وجودِ الإنسانِ جاءَ مُنسجِماً تماماً معَ ما عليهِ الإنسانُ مِن طبيعةٍ ومؤهّلات. والذي يؤكّدُ ذلكَ هوَ أنَّ القرآنَ ربطَ فوزَ الإنسانِ وفلاحَه بتزكيةِ النفس، حيثُ قال: (قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا) ممّا يعني أنَّ الطريقَ الموصلَ لفلاحِ الإنسانِ محصورٌ في التزكية، ولكي يُصبحَ ذلكَ أمراً واقعيّاً لابدَّ أن تكونَ النفسُ بطبعِها تحمِلُ ميلاً مُعاكِساً لاتّجاهِ الفلاح، وحينَها تكونُ تزكيةُ النفسِ بمقاومةِ هذا الميلِ هيَ الخيارُ الوحيدُ لتحقيقِ ذلكَ الفلاح، ومِن هُنا نجدُ أنَّ الآيات التي سبقَت هذهِ الآيةَ كشفَت بوضوحٍ عن تلكَ الطبيعة، حيثُ قالَ تعالى: (وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا (8) قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا ) أي أنَّ اللهَ خلقَ النفسَ وسوّاها بالشكلِ الذي تكونُ فيه قابلةً للفجورِ والتقوى، ومسؤوليّةُ الإنسانِ حينَها تنحصرُ في توطينِ التقوى وإزالةِ الفجورِ عنها، وهذا الفعلُ في الاصطلاحِ القُرآني يُسمّى بالتزكية. وبذلكَ يتّضحُ أنَّ الإنسانَ في منطقِ القرآنِ ليسَ مخلوقاً ملائكيّاً كما أنّه ليسَ حيواناً بهيميّاً، بل هو مركّبٌ يمتلكُ مقوّماتِ الكمالِ كما يمتلكُ مقوّماتِ النقص، فهوَ ليسَ عقلاً مُجرّداً بلا شهوة، وليسَ شهوةً مُجرّدةً بلا عقلٍ، وإنّما كائنٌ مُركّبٌ مِن مادّةٍ وروح، ومِن عقلٍ وشهوة، ومِن خيرٍ وشرّ، فبالرّوحِ والعقلِ يسمو على المادّة، وبالأهواءِ والشهواتِ يركنُ إلى الأرض، والإنسانُ هوَ الذي يختارُ بإرادتِه بينَ أن يكونَ إنساناً وبينَ أن يكونَ حيواناً، قالَ تعالى: (وَلَو شِئنَا لَرَفَعنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخلَدَ إِلَى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِن تَحمِل عَلَيهِ يَلهَث أَو تَترُكهُ يَلهَث..)، حيثُ عبّرَت الآيةُ عن اتّباعِ الهوى بالخلودِ إلى الأرض، وبذلكَ يتّضحُ أنَّ الهوى ليسَ شيئاً آخرَ غيرَ حبِّ الدّنيا والركونِ إليها، وتبعاً لذلكَ تكونُ التزكيةُ هيَ كبحُ جماحِ النفسِ نحوَ الدنيا، وعليهِ فإنَّ خياراتِ الإنسانِ في الحياةِ محصورةٌ بينَ هذينِ الخيّارين، فإمّا أن يكونَ حالهُ كحالِ الكلبِ يلهثُ وراءَ شهواتِه ورغباتِه، وإمّا أن يترفّعَ عنها ويتسامى بروحِه وعقلِه.وبما أنَّ الحِكمةَ مِن خلقِ الإنسانِ هيَ الاختبارُ والامتحان، فلابدَّ أن يُخلقَ بالكيفيّةِ التي تمكّنُه منَ الاختيارِ بينَ الخيرِ والشرِّ، وبذلكَ نفهمُ لماذا ألهمَ اللهُ الإنسانَ الفجورَ والتقوى في نفسِ الوقت؟ أي أنَّ اللهَ وضعَ فيهِ مقوّماتِ الكمالِ والنقصِ وجعلَه مسؤولاً عن اختيارِ ما فيهِ كماله، وقوله تعالى: (قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا) يدلُّ على أنَّ الفجورَ هوَ الطبيعةُ الأصليّةُ للنفسِ الإنسانيّة، وتغييرُ تلكَ الطبيعةِ يكونُ عبرَ تزكيّةِ النفسِ وترويضِها على التقوى، أمّا مَن حافظَ عليها وأبقى على طبيعتِها سيكونُ مصيرُه الخيبةُ والخسران كما قالَ تعالى: (وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا)، وبذلكَ يكونُ النقصانُ منَ الطبيعةِ الذاتيّةِ للإنسانِ والكمالُ أمرٌ عارضٌ يُحقّقُه الإنسانُ باختيارِه وإرادتِه، فالإنسانُ بذاتِه لا يكونُ عالِماً بل جاهلاً، ولا يكونُ قويّاً بل ضعيفاً، ولا يكونُ عزيزاً بل وضيعاً، ولا يكونُ كريماً بل بخيلاً، وهكذا كلُّ صفاتِ الكمالِ يكتسبُها الإنسانُ بسعيه وإرادتِه، فالإنسانُ بذاتِه ظلومٌ جهولٌ، وقد أكّدَ القرآنُ ذلكَ في قولِه تعالى: (إِنَّا عَرضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) ويبدو أنَّ الأمانةَ التي حملَها الإنسانُ هيَ الإرادةُ التي تجعلهُ مسؤولاً عن خياراتِه في الحياةِ، فمُجرّدُ القولِ بالطبيعةِ الظلمانيّةِ للنفسِ لا يعني أنَّ اللهَ أجبرَه على أن يكونَ ظلوماً جهولاً، لأنَّ اللهَ وضعَ فيه أيضاً أدواتِ الكمالِ منَ العقلِ والإرادةِ ليكونَ مسؤولاً عن استبدالِ الظلمِ بالعدلِ والجهلِ بالعلم، قالَ تعالى: (إِنَّا هَدَينَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) ، ومُضافاً إلى ذلكَ بعثَ اللهُ له الأنبياءَ والرّسلَ حتّى يرشدوهُ إلى الهُدى ويمنعوه عن الضلالِ، فأمرَهم اللهُ بالخيرِ ورغّبَهم فيه ووعدهم بالثوابِ العظيمِ على فعلِه، ونهاهُم عن الشرِّ وحذّرَهم منه ووعدهم بالعقابِ على فعله.وممّا سبقَ يتّضحُ أن لا سبيلَ لفلاحِ الإنسانِ في الدّنيا إلّا بتزكيةِ النفسِ وترويضِها على الهُدى، فالمُعادلةُ القرآنيّةُ تقومُ على تحقيقِ أمرٍ واحدٍ للحصولِ على نتيجةٍ واحدة، قالَ تعالى: (وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَىٰ)، فالوصولُ للجنّةِ طريقُه واحدٌ وهوَ تزكيةُ النفسِ منَ الأهواء، وفي مُقابلِ ذلكَ هناكَ طريقٌ واحد أيضاً مُوصلٌ للنّار، قالَ تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنيَا (38) فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأوَىٰ)، ومعَ أنَّ هذه المُعادلةَ تقومُ على وصفٍ بسيطٍ إلّا أنّها تحتاجُ إلى جهادٍ كبيرٍ وعناءٍ شديد، فتزكيةُ النفسِ تعني تخليصَ النفسِ منَ الأهواءِ والشهواتِ وهذا أمرٌ جدُّ عسير، كما أنَّ التزكيةَ ليسَت مُجرّدَ سلوكٍ أخلاقيٍّ وإنّما تعني أيضاً التخلّقَ بأخلاقِ الله وتجسيدَ كلِّ قيمِ الحقِّ والفضيلة، فالتزكيةُ في حقيقتِها هيَ الانتقالُ بالإنسانِ من طورِ الحيوانِ إلى طورِ الإنسانِ الملائكيّ، فلا يكونُ المؤمنُ وهوَ مؤمنٌ جاهلاً أو مُتكبّراً أو حسوداً وإنّما يكونُ عالِماً عاقِلاً حكيماً عزيزاً وإلى غيرِ ذلكَ حتّى تصحَّ نسبتُه للهِ تعالى. وبذلكَ يتّضحُ أنَّ التزكيةَ ليسَت مُجرّدَ قرارٍ يتّخذُه الإنسانُ وإنّما هيَ مشروعُ عملٍ، وليسَت أمراً محدوداً بزمنٍ وإنّما هيَ برنامجُ حياة، فلا يمكنُ أن يصلَ الإنسانُ إلى محطّةٍ يستريحُ فيها مِن تزكيةِ نفسِه ومراقبتِها، وإنّما يعيشُ هذا الصراعَ بينَ الحقِّ والباطلِ وبينَ الهُدى والضلالِ إلى سكراتِ موتِه، وعندَما سُئلَ الإمامُ الصّادقُ (عليهِ السلام): (فمتى يجدُ عبدٌ الرّاحة؟ فقالَ (عليهِ السلام): عندَ أوّلِ يومٍ يصيرُ في الجنّةِ).ومِن هُنا فإنَّ المرحلةَ الأولى منَ التزكيةِ هيَ فهمُ هذهِ المُعادلة، وبقيّةُ المراحلِ جميعُها هيَ أمرٌ واحدٌ فقط وهوَ مُخالفةُ الهوى، أمّا الأدواتُ الإجرائيّةُ فهيَ مُختلفةٌ مِن إنسانٍ إلى آخر ومِن ظرفٍ إلى آخر، ومعَ ذلكَ هناكَ نصائحُ عامّة في كيفيّةِ ترويضِ النفسِ وتربيتِها تحدّثَ عنها علماءُ الأخلاقِ والسلوك، أمّا أصلُ التزكيةِ فهيَ ليسَت شيئاً آخرَ غيرَ مراقبةِ النفسِ وردعِها عن الهوى، ولذلكَ لم نجِد في رواياتِ الأئمّةِ المعصومينَ (عليهم السّلام) غيرَ التذكيرِ بحِكمةِ وجودِ الإنسانِ وضرورةِ مُخالفةِ الهوى، فعن الإمامِ الصّادقِ (عليهِ السلام): (احذروا أهواءَكم كما تحذرونَ أعداءَكم، فليسَ شيءٌ أعدى للرّجالِ مِن اتّباعِ أهوائِهم، وحصائدِ ألسنتِهم)، وعنهُ (عليهِ السلام): (لا تدعِ النفسَ وهواها، فإنَّ هواها [في] رداها، وتركُ النفسِ وما تهوى أذاها، وكفُّ النفسِ عمّا تهوى دواها). وعن الإمامِ عليّ (عليهِ السلام) قالَ: (إنَّ أفضلَ الناسِ عندَ اللهِ مَن أحيى عقله، وأماتَ شهوتَه، وأتعبَ نفسَه لصلاحِ آخرتِه)، وقالَ (عليهِ السلام): (اقمعوا هذه النفوسَ، فإنّها طلعةٌ إن تطيعوها تُزغ بكُم إلى شرِّ غايةٍ)، وعنه (عليهِ السلام): (رحمَ اللهُ إمرئً نزعَ عن شهوتِه، وقمعَ هوى نفسِه، فإنَّ هذه النفسَ أبعدُ شيءٍ منزعاً، وإنّها لا تزالُ تنزعُ إلى معصيةٍ في هوى)، وقالَ: (حفظُ العقلِ بمُخالفةِ الهوى والعزوفِ عن الدّنيا)، (مُخالفةُ الهوى شفاءُ العقل)، (رأسُ العقلِ مجاهدةُ الهوى)، (رأسُ الدينِ مُخالفةُ الهوى) (ملاكُ الدينِ مُخالفةُ الهوى)، (خالِف الهوى تسلَم)، (خالِف نفسَك تستقِم). وممّا يدلّلُ على أنَّ اللهَ أقامَ الحُجّةَ على العبادِ هو أنَّ الإنسانَ قادرٌ على التفريقِ بينَ الأمرِ النابعِ منَ الهوى والشهواتِ وبينَ الأمرِ النابعِ منَ الحقِّ والهدى، فحتّى لو ادّعى الإنسانُ خلافَ ذلكَ إلّا أنَّ بينَه وبينَ نفسِه يعلمُ بحالِه، قالَ تعالى: (بَلِ الإِنسَانُ عَلَىٰ نَفسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَو أَلقَىٰ مَعَاذِيرَهُ). وضمنَ هذا التصوّرِ يتّضحُ عدمُ وجودٍ فرقٍ في هذهِ الطبيعةِ الإنسانيّةِ بينَ الشيعيّ والسنّيّ، بل لا فرقَ بينَ جميعِ البشر، فالكلُّ محكومٌ بهذهِ المُعادلة.
اترك تعليق