هل اللهُ تعالى منَ المفاهيمِ البديهيّة؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  معرفةُ اللهِ ليسَت مِن سنخِ المعارفِ المفهوميّةِ حتّى نتردّدَ في كونِها بديهيّةً أو نظريّة، وإنّما هيَ معرفةٌ مِن سنخٍ آخر كما بيّنا في كثيرٍ منَ الإجاباتِ السابقة، فالمعرفةُ المفهوميّةُ معرفةٌ تصوريّةٌ في الأساس، حيثُ يقومُ الذهنُ بتكوينِ مفاهيمَ ماهويّة مِن خلالِ الصورِ التي ينتزعُها منَ الخارجِ عبرَ الحواس، وتسمّى هذهِ المفاهيمُ بالمعقولاتِ الأوليّة، لأنّها أوّلُ مفهومٍ كلّي ينتزعُه الذهنُ منَ الصورِ الجزئيّةِ للأشياء، فمثلاً الإنسانُ يرى في الخارجِ أحجاراً وأشجاراً فينتزعُ منها مفهومَ الحجريّةِ والشجريّة، وهيَ مفاهيمُ كُليّةٌ تنطبقُ على كلِّ فردٍ مِن أفرادِ الأحجارِ والأشجار، فالإنسانُ عبرَ حواسِّه ينتزعُ صوراً جُزئيّةً للأشياء، ومِن ثمَّ يقومُ الذهنُ بتكوينِ مفاهيمَ كُليّةٍ مِن تلكَ الصورِ الجُزئيّة، فمثلاً (الإنسانُ) كمفهومٍ كلّيٍّ ينطبقُ على عددٍ منَ المصاديقِ الخارجيّةِ فنقولُ: زيدٌ إنسانٌ وبكرٌ إنسانٌ وهكذا يشملُ جميعَ الأفرادِ في الخارج، وكما هوَ واضحٌ أنَّ المفاهيمَ الماهويّةَ أو المعقولاتِ الأوليّةَ لا يمكنُ تصوّرُها في حقِّ الخالقِ سُبحانَه وتعالى.  أمّا النوعُ الآخرُ منَ المفاهيم والتي تُسمّى بالمعقولاتِ الثانية، وهيَ المفاهيمُ التي ينتزعُها الذهنُ منَ المفاهيمِ الأوليّة، وتلكَ المفاهيمُ إمّا أن تكونَ موجودةً في الذهنِ فقط دونَ الخارجِ وتُسمّى مفاهيمَ ثانيةً منطقيّةً، مثلَ مفهومِ الجنسِ والنوعِ والفصل، وإمّا أن يكونَ عروضُها في الذهنِ والاتّصافِ بها في الخارجِ فتُسمّى مفاهيمَ ثانيةً فلسفيّة، مثلَ مفهومِ العلّةِ والمعلولِ، فمثلاً مفهومُ الأبوّةِ والبنوّةِ مفهومٌ ذهنيٌّ ولا وجودَ له في الخارج، وفي نفسِ الوقتِ هيَ وصفٌ لموضوعٍ موجودٍ في الخارج، فنقولُ زيدٌ أبٌ  أو ابن، ومِن خلالِ ذلكَ يتّضحُ أنَّ معرفةَ اللهِ ضمنَ التصوّرِ الفلسفيّ إنّما تكونُ مِن خلالِ المفاهيمِ الثانيةِ الفلسفيّةِ فيقالُ اللهُ علّةُ الوجودِ أو أنَّ اللهَ واجبُ الوجود، وعليهِ فمَن يقبلُ هذه المعرفةَ في حقِّ اللهِ تعالى لابدَّ أن يقولَ أنَّ معرفتَه نظريّةٌ وليسَت بديهيّة.  أمّا إذا رجَعنا للقرآنِ الكريم وللرواياتِ الشريفةِ سنجدُ مساراً آخرَ لمعرفةِ اللهِ تعالى، فجميعُ نصوصِها ظاهرةٌ في عدمِ اعترافِها بأيّ معرفةٍ تصوريّةٍ أو مفهوميّةٍ للهِ تعالى، فاللهُ ليسَ شيئاً كالأشياءِ حتّى يكونَ معقولاً أوليّاً أو معقولاً ثانويّاً، وإنّما معرفتُه تعالى معرفةٌ فطريّةٌ وجدانيّة، فلا يحتاجُ الغافلُ إلى أكثر منَ التذكيرِ والتنبيهِ بواقعِ تلكَ المعرفةِ الفطريّة.   وعليهِ فإنَّ اللهَ فطرَ العبادَ على معرفتِه، وهيَ معرفةٌ بسيطةٌ تُخرجُ اللهَ منَ الحدّين: حدِّ التعطيلِ والتشبيه، قالَ اللهُ تعالى: ﴿فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ﴾، فالآيةُ الكريمةُ تأمرُ بإقامةِ الوجهِ حنيفاً مُخلِصاً، بخلعِ الأنداد ونفي الأوثانِ والتوحيدِ الخالص، بمعنى الرجوعِ إلى واقعِ الفطرة، وقالَ تعالى: ﴿قالَت رُسُلُهُم أَ فِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالأَرضِ﴾، حيثُ تدلُّ هذهِ الآيةُ على أنَّ الشكَّ والارتيابَ في وجودِه سبحانِه ممّا لا يمكنُ ولا ينبغي لعاقلٍ ارتكابُه؛ ذلكَ لأنَّ اللهَ صبغَ الإنسانَ بصبغتِه وفطرَه على معرفتِه، فصاروا عارفينَ به عرفاناً بسيطاً، لا يعرفونَ أنّهم يعرفون، فلا يستغنونَ عن تذكرةِ المُذكّرين، وتنبيهِ العارفين، فمعَ كونِ المعرفةِ ثابتةً في واقعِ الفطرة، إلّا أنّها محجوبةٌ بحُجبِ الغفلةِ والهوى، فلا تستقيمُ إلّا بالتنبيهِ والتذكير، وهذا ما أكّدَت عليه رواياتُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، فعَن زُرارة قالَ: سألتُ أبا عبدِ الله (عليهِ السلام) عن قولِ الله: ﴿فِطرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها﴾ قالَ: فُطروا على التوحيد). وقالَ: سألتُ أبا جعفرٍ (عليهِ السلام) عن قولِ الله: ﴿حُنَفاءَ للهِ غَيرَ مُشرِكِينَ بِهِ﴾ ما الحنفيّةُ؟، قالَ: هيَ الفطرةُ التي فُطرَ الناسُ عليها، فطرَ اللهُ الخلقَ على معرفتِه). وقالَ: سألتُ أبا جعفرٍ (عليهِ السلام) عن قولِ اللهِ عزَّ وجل: ﴿فِطرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها﴾ قالَ: فطرَهم على معرفةِ أنّه ربُّهم، ولولا ذلكَ لم يعلموا إذا سُئلوا مَن ربُّهم ولا مَن رازقُهم) ..، وغيرُها منَ النصوص.  ومعرفةُ اللهِ تقتضي تنزيهَهِ مِن أن يكونَ مُتصوَّراً أو متوهَّماً، يقولُ الإمامُ الباقرُ (عليهِ السلام): (كلّما ميّزتموهُ بأوهامِكم في أدقِّ معانيه مخلوقٌ مثلُكم مردودٌ عليكم).ومِن هُنا كانَت معرفةُ اللهِ صُنعَ اللهِ في الإنسان والوصولُ إليها يتمُّ عبرَ التذكيرِ والتنبيه، قالَ: قلتُ لأبي عبدِ الله (عليهِ السلام): هل جعلَ في الناسِ أداةً ينالونَ بها المعرفة؟ قالَ: لا، قلتُ: فهل كُلِّفوا المعرفة؟ قالَ: لا، إنَّ على اللهِ البيان، لا يُكلّفُ اللهُ العبادَ إلّا وسعَها، ولا يُكلّف نفساً إلّا ما آتاها)، وقد أكّدَ الإمامُ عليهِ السلام إلى أنَّ تكليفَهم بالمعرفةِ تكليفٌ بالمحال، لقولِه تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفساً إِلاَّ وُسعَها﴾، و﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفساً إِلاَّ ما آتاها﴾.وعن الصّادقِ (عليهِ السلام) قالَ: (ليسَ للهِ على الخلقِ أن يعرفوا قبلَ أن يُعرِّفَهم، وللخلقِ على اللهِ أن يُعرِّفَهم، وللهِ على الخلقِ إذا عرَّفَهم أن يَقبَلوا).  فمنهجُ القرآنِ لتحقيقِ المعرفةِ باللهِ قائمٌ على تنبيهِ الغافلينَ وتذكيرِ الناسين، ولذا نجدُ أكثرَ آياتِ الذكرِ الحكيمِ تؤكّدُ على هذا المعنى، فالقرآنُ لا يُبرهنُ على أمرٍ مجهولٍ يريدُ إثباتَه كأيّ فرضيّةٍ أو نظريّة، وإنّما يُذكِّرُ ويدعو الناسَ إلى ربِّهم الظاهرِ بذاتِه، قالَ تعالى: ﴿وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُم بِهِ﴾، وقالَ: ﴿وَلَقَد عَلِمتُمُ النَّشأَةَ الأُولى فَلَولا تَذَكَّرُونَ﴾، بل إنَّ كلَّ آياتِ القرآنِ قائمةٌ على التذكيرِ قالَ تعالى: ﴿فَذَكِّر إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّستَ عَلَيهِم بِمُصَيطِرٍ﴾، وقالَ: ﴿إِن هُوَ إِلاَّ ذِكرٌ وَقُرآنٌ مُبِينٌ﴾، وقالَ: ﴿إِن هُوَ إِلاَّ ذِكرى لِلعالَمِينَ﴾، وقالَ: ﴿طه * ما أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقى * إِلاَّ تَذكِرَةً لِمَن يَخشى﴾.  ويأتي في هذا السياقِ التفكّرُ في آياتِ الكونِ والنفسِ قالَ تعالى: ﴿سَنُرِيهِم آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَم يَكفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَي‏ءٍ شَهِيدٌ﴾. ولا يُفهمُ الأمرُ بالتدبّرِ في آياتِ الكونِ على أنّهُ أمرٌ بالتفكّرِ في ذاتِ الله أو أنَّ التفكّرَ هوَ الذي يُحقّقُ معرفةً لم تكُن موجودةً مِن قبلُ في الفطرة، فآياتُ الكونِ ليسَت مُعرِّفات وكاشفات عن حقيقةٍ مجهولةٍ، وإنّما هي بمثابةِ مُنبّهٍ ومذكّرٍ بتلكَ المعرفةِ التي فطرَ اللهُ العبادَ عليها، وهيَ مقامُ تعريفِ اللهِ تعالى نفسَه للعبادِ، فعندَما يتأمّلُ الإنسانُ في مظاهرِ الخلق، يستنطقُ فطرتَه التي حجبَتها الغفلةُ، فيرى اللهَ ظاهراً بذاتِه ومُعرِّفاً عن نفسِه، كما يجدُ الإنسانُ تلكَ المعرفةَ واضحةً عندَ الشدائدِ والمحن، فحينئذٍ تنقشعُ كلُّ تلكَ الحُجبِ ليرى الإنسانُ ربَّه.  فالمصاعبُ والكوارثُ التي تصيبُ الإنسانَ تذكّرُه باللهِ تعالى وترجعُه إلى فطرتِه، قالَ رجلٌ للصّادقِ عليهِ السلام: يا بنَ رسولِ الله، دُلَّني على اللهِ ما هو؟ فقد أكثرَ عليَّ المُجادلونَ وحيَّروني، فقالَ له: يا عبدَ الله، هل ركبتَ سفينةً قط؟ قالَ: نعم، قال: فهل كُسِرَ بكَ حيثُ لا سفينةُ تُنجيكَ، ولا سباحةُ تُغنيك؟ قالَ: نعم، قالَ: فهل تعلَّقَ قلبُك- هنالكَ- أنَّ شيئاً منَ الأشياء، قادرٌ على أن يُخلّصَك مِن ورطتِك؟ فقالَ: نعم، قالَ الصّادقُ عليهِ السلام: فذلكَ الشيءُ هوَ اللهُ القادرُ على الإنجاءِ حيثُ لا مُنجي، وعلى الإغاثةِ حيثُ لا مُغيث)، ففي لحظةِ الشدّةِ والضيقِ يتجلّى اللهُ في قلوبِ المُضطرّين، قالَ تعالى: (إِذَا غَشِيَهُم مَّوجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُم إِلَى البَرِّ فَمِنهُم مُّقتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور). وقالَ تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحرِ ضَلَّ مَن تَدعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُم إِلَى البَرِّ أَعرَضتُم ۚ وَكَانَ الإِنسَانُ كَفُورًا)، فلو لم تكُن المعرفةُ حقيقةً فطريّةً جُبلَ عليها الإنسان، كيفَ يستذكرُ الكافرُ ربَّه عندَما يشارفُ على الهلاكِ؟   وعليهِ فإنَّ دورَ العقلِ في معرفةِ الله هوَ الإقرارُ والإيمانُ والتصديق، بما عرَفَ منَ الحقِّ المُبين، وهيَ فريضةٌ ذاتيّةٌ يستقلُّ بها العقلُ الضروري، وهوَ ملاكُ التكليف؛ لأنَّ بها تتمُّ حُجّةُ اللهِ على العباد، ويتحقّقُ الثوابُ والعقاب، فإذا امتثلَ الإنسانُ إلى أوامرِ الله، واجتنبَ وساوسَ الشيطان، يفتحُ اللهُ لهُ أبوابَ رحمتِه ويزيدُه في معرفتِه، أمّا الكافرُ الجاحدُ فيطبعُ اللهُ على قلبِه، ويخذلهُ ويوكلهُ إلى نفسِه.  وفي المُحصلّةِ فإنَّ معرفةَ اللهِ ليسَت أمراً نظريّاً ليتمَّ إدراكُه عبرَ الصورِ والمفاهيمِ الذهنيّة، ولذلكَ لا يمكنُ القولُ إنَّ معرفتَه تعالى مفهوماً بديهيّاً؛ لأنّه ليسَ صورةً ذهنيّةً يدركُها الذهنُ بمُجرّدِ انطباعِها عليه، وفي نفسِ الوقتِ يمكنُنا أن نقولَ إنَّ فطريّةَ معرفتِه تعني ظهورَه في قلبِ الإنسان إذا انقشعَت عنه حُجبُ الغفلة، فبمُجرّدِ أن يتذكّرَ الإنسانُ سواءً بآياتِ الكتابِ أو بآياتِ الكونِ أو بمصاعبِ الحياةِ فإنّه يكونُ عارِفاً باللهِ مِن غيرِ تصوّرٍ أو توهّم.