لماذا ذكرَ أميرُ المؤمنينَ (ع) لحظةَ تلقّيهِ الضربةَ هذهِ العبارةَ لا غيرَها: فزتُ وربِّ الكعبة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فزتُ وربِّ الكعبةِ، هيَ الكلمةُ التي ختمَ بها أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) مسيرةَ حياتِه الدنيويّة، حيثُ بدأت بانشقاقِ جدارِ الكعبةِ وختمَت بانشقاقِ رأسِه الشريف في محرابِ الصلاة، وما بينَهما كانَت حياتُه مِصداقاً لقولِه تعالى: (قُل إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ)، فلم يرفَّ لأميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) جفنٌ ولم تغمَض له عينٌ إلّا في سبيلِ اللهِ تعالى، فكانَت جميعُ سكناتِه وحركاتِه تجسيداً لإرادةِ اللهِ تعالى، فهوَ الذي كانَ يخشى أن تفوتَه طاعةٌ أو أن تتسلّلَ إلى أفعالِه سيّئةٌ، حيثُ كانَ يقولُ: (آهٍ إن أنا قرأتُ في الصحفِ سيّئةً أنا ناسيها، وأنتَ مُحصيها، فتقولُ: خذوه، فيا لهُ مِن مأخوذٍ لا تُنجيهِ عشيرتُه، ولا تنفعُه قبيلتُه ولا يرحمُه الملأُ إذا أذنَ فيهِ بالنداء). وقد شهدَت مولاتُنا الزهراءُ (عليها السلام) بعظيمِ منزلتِه وعلوِّ درجتِه في خُطبتِها الفدكيّة حيثُ قالت: (.. كُلّما أوقدوا نارًا للحربِ أطفأها اللهُ، أو نجمَ قرنٌ للشيطان، أو فغرَت فاغرةٌ منَ المُشركين، قذفَ أخاهُ في لهواتِها، فلا ينكفِئُ حتّى يطأَ صماخَها بأخمصِه، ويخمدَ لهبَها بسيفِه، مكدودًا بذاتِ الله، مُجتهدًا في أمرِ الله، قريبًا مِن رسولِ اللهِ، سيّدًا في أولياءِ الله، مُشمِّرًا ناصحًا، مُجِدًّا كادحًا، وأنتم في رفاهيةٍ منَ العيشِ وادعونَ فاكهونَ آمنونَ، تتربّصونَ بنا الدوائرَ، وتتوكّفونَ الأخبارَ وتنكصونَ عندَ النزالِ، وتفِرّونَ منَ القتال). فبصبرِه على الحقِّ كانَ هوَ الشاهد على كلِّ مَن سقطَ في الطريق، وبثباتِه على الهُدى كانَ هوَ الحُجّة على كلِّ مَن انحرفَ عن المسير، فكانَ بذلكَ الفاروق الذي يُفرّقُ بينَ الحقِّ والباطل، والميزان الذي يميّزُ المؤمنَ عن المُنافق، فمَن سارَ على نهجِه وتمسّكَ بهديه نجى ومَن تخلّفَ عنه ضلَّ وهوى، فعن رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أنّه قالَ: يا ابنَ سمرة، إذا اختلفَت الأهواءُ، وتفرّقَت الآراءُ، فعليكَ بعليٍّ بنِ أبي طالب، فإنّهُ إمامُ أمّتي، وخليفتي عليهم مِن بعدي، وهوَ الفاروقُ الذي يُميّزُ بينَ الحقِّ والباطل) وقد امتحنَ اللهُ هذهِ الأمّةَ وابتلاها بالتسليمِ لإمامتِه، فسقطَ منهُم الكثيرُ ولم يثبُت على العهدِ إلّا القليل، فعانى أميرُ المؤمنينَ مِن غدرِ الأمّةِ وخذلانِها، إلّا أنّه لم يداهِنهم في حقٍّ ولم يجارهم على باطلٍ، وإنّما فضّلَ مرارةَ الصبرِ على الحقِّ، حيثُ قالَ: (وَطَفِقتُ أَرتَئِي بَينَ أَن أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَو أَصبِرَ عَلَى طَخيَةٍ عَميَاءَ، يَهرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكدَحُ فِيهَا مُؤمِنٌ حَتَّى يَلقَى رَبَّهُ! فَرَأَيتُ أَنَّ الصَّبرَ عَلَى هَاتَا أَحجَى، فَصَبَرتُ وَفي العَينِ قَذًى، وَفي الحَلقِ شَجاً، أَرَى تُرَاثي نَهباً). وقالَ (عليهِ السلام) في خُطبتِه عندَ مسيرِه للبصرةِ: (إنَّ اللهَ لمّا قبضَ نبيّه، استأثرَت علينا قريشٌ بالأمر، ودفعتنَا عن حقٍ نحنُ أحقُّ به منَ الناسِ كافّةَ، فرأيتُ أنَّ الصّبرَ على ذلكَ أفضلُ مِن تفريقِ كلمةِ المُسلمين، وسَفكِ دمائِهم، والناسُ حديثوا عهدٍ بالإسلام، والدينُ يُمخَضُ مَخضَ الوطب، يُفسِدُه أدنى وَهن، ويعكسُه أقلُّ خُلف، فوليَّ الأمرَ قومٌ لم يألوا في أمرِهم اجتهاداً، ثمَّ انتقلوا إلى دارِ الجزاء، واللهُ وليُّ تمحيصِ سيّئاتِهم، والعفوِ عن هفواتِهم...) فكانَ حريٌّ بهِ أن يقول: (فزتُ وربِّ الكعبة) وهوَ يودّعُ هذهِ الدّنيا بعدَ صبرٍ طويلٍ وجهادٍ مرير، فكيفَ لا يفوزُ وقد أدّى أمانتَه وصانَ عهدَه؟ وقد كانَ أميراً للمؤمنينَ الذينَ وعدَهم اللهُ في كتابِه بالفوزِ العظيم، حيثُ قالَ تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الـمُؤمِنِينَ وَالـمُؤمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدنٍ وَرِضوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ) فقد حازَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) على رضوانِ اللهِ الأكبرِ فاستحقَّ بذلكَ الفوزَ العظيم. فمعَ كلِّ تلكَ المحنِ التي مرَّت عليهِ كانَ همُّه الوحيدُ في سلامةِ دينِه، فعندَما أخبرَه رسولُ اللهِ بمقتلِه قائلاً له: كأنّي بكَ وأنتَ تُصلّي لربِّك، وقد انبعثَ أشقى الأوّلينَ والآخرينَ شقيقُ عاقرِ ناقةِ صالح فيضربُك ضربةً على مفرقِ رأسِك، ويشقُّه نِصفين ويخضّبُ لحيتَك مِن دمِ رأسِك. فقالَ له أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام): يا رسولَ اللهِ وذلكَ في سلامةٍ مِن ديني؟ فقالَ (ص): في سلامةِ دينِك؛ ثمَّ قالَ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): يا عليّ مَن قتلَك فقَد قتلني، ومَن أبغضَك فقد أبغضَني، ومَن سبَّك فقد سبَّني، لأنّكَ مِنّي كنفسي، وروحُك مِن روحي وطينتُك مِن طينَتي، وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خلقَني وإيّاكَ واصطفاني وإيّاك، واختارَني للنبوّةِ واختارَك للإمامةِ، فمَن أنكرَ إمامتَك فقد أنكرَ نبوّتي، يا عليُّ أنتَ وصيّي وأبو ولدي وزوجُ ابنتي وخليفتي على أمّتي في حياتي وبعدَ موتي، أمرُك أمري، ونهيُك نهيي، أقسمُ بالذي بعثَني بالنبوّةِ وجعلني خيرَ البريّةِ أنّكَ لحُجّةُ اللهِ على خلقِه وأمينهُ على سرِّه وخليفتُه على عبادِه.
اترك تعليق