هل وجود الصحراء دليل على فساد الخلقة؟
القولُ بـ"لو كانَ فيهما آلهةٌ إلّا الله لفسدتا" لا يصحُّ لأنّه يمكنُ نجاحُ مشروعٍ جماعي، بل ويمكنُ تفوّقُه على مشروعٍ فردي. مفهومِ الفسادِ هذا يمكنُ استخدامُه للطعنِ في التوحيد، فيمكنُ القولُ أنَّ الصحاري فاسدةٌ لأنَّ منَ الصعبِ العيشُ فيها وكونُها لا تُنبتُ محصولاً وهذا ينطبقُ على القُطبِ الجنوبيّ والشمالي… كما أنَّ هناكَ أموراً كثيرةً وجودُها يمكنُ استخدامُه كدليلٍ على وجودِ الفساد مثلَ الأمراضِ الوراثيّةِ والفيروساتِ والبكتيريا الضارّةِ والزلازلِ والفيضاناتِ والأعاصيرِ والحروبِ والطّغيانِ والعدوانِ التي تشيرُ لوجودِ خللٍ في أدمغةِ البشرِ وسلوكِهم، أمّا في بقيّةِ الكونِ وهوَ القسمُ الأكبرُ فيوجدُ الكثيرُ منَ الكواكبِ غير الأرض التي لا تصلحُ للحياةِ بالإضافةِ إلى أنَّ الكونَ مليءٌ بالإشعاعاتِ الضارّةِ والكويكباتِ والمُذنّباتِ التي ترتطمُ بالكواكب مِن وقتٍ إلى آخر والثقوبُ السوداء التي تلتهمُ كلَّ ما هوَ قريبٌ مِنها وكذلكَ الكونُ يتّجهُ إلى موتٍ حراري. نستنتجُ أنَّ الفسادَ موجودٌ إذن التوحيدُ باطلٌ. وجودُ نظامٍ مُوحّدٍ لا يدلُّ بالضرورةِ على وجودِ مُنظّمٍ واحدٍ فقط، فقد يكونُ نتيجةَ اجتماعِ المُهندسين على تصميمٍ واحد قبلَ بدءِ الخلقِ حيثُ تمَّ توحيدُ الجهود ودمجُ كلِّ الأفكار في مُنتَجٍ واحد.
الإجابة:
بالنّسبةِ للشقِّ الأوّلِ منَ السؤال فقد تعرّضنا له في إجابةٍ سابقةٍ تحتَ عنوان (لماذا لا يكونُ هناكَ أكثرُ مِن إله) حيثُ بينّا معنى قولِه تعالى: (لو كانَ فيهما آلهةٌ إلّا الله لفسدَتا) وردَدنا فيهِ على الإشكالاتِ التي يمكنُ أن تُساقَ حولَها، وعليهِ سنكتفي هُنا بالردِّ على مُقدّمةِ كلامِه والأمثلةِ التي جعلَها مصاديقَ لفسادِ الخلقة.
قالَ في مُقدّمةِ كلامِه: (لو كانَ فيهما آلهةٌ إلّا الله لفسدتا، لا يصحُّ لأنّه يمكنُ نجاحُ مشروعٍ جماعي، بل و يمكنُ تفوّقُه على مشروعٍ فردي) وهوَ بالتأكيدِ اعتراضٌ غريبٌ مِن نوعِه وليسَ له علاقةٌ بما في الآية.
فالمشاريعُ التي لا تكتملُ إلّا بتضافرِ الجهودِ تدلُّ بشكلٍ واضح على حاجةِ الجميعِ إلى بعضِهم البعض، بحيثُ لا يمكنُ لأيّ واحدٍ مِنهم الانفرادُ بقرارِه أو مُخالفةُ الخُطّةِ المُتّفقِ عليها بينَ أعضاءِ الفريق، وإلّا نتجَ عن ذلكَ الفسادُ الحتميّ للمشروع، والسببُ في ذلك طبيعةُ الإنسانِ الناقصِ والمُحتاجِ إلى غيره، فليسَ هناكَ إنسانٌ مُطلقُ الكمالِ أو إنسانٌ قادرٌ على كلِّ شيء.
وهذا بخلافِ ما جاءَت الآيةُ بصدِده، حيثُ تحدّثَت الآيةُ عن استحالةِ اشتراكِ مجموعةٍ منَ الآلهة في خلقِ الكون.
فصاحبُ الإشكالِ لم يُفرِّق بينَ اشتراكِ مجموعةٍ منَ البشر لا يستغني أحدُهم عن الآخر لإنجاحِ المشروع، وبينَ اشتراكِ مجموعةٍ منَ الآلهة كلُّ واحدٍ مِنهم غنيٌّ بنفسِه عن الآخر، فالإلهُ غيرُ ناقصٍ ولا يحتاجُ إلى غيرِه؛ بل هوَ مُطلقُ الكمالِ والقُدرةِ والعلمِ والإرادة..
وعليهِ: فإنَّ الآيةَ تتحدّثُ عن فسادِ الخلقة إذا كانَ هناكَ أكثرُ مِن إله، وهذا ما لا يمكنُ تصوّرُه إلّا بفسادِ عالمِ الخلق، والسببُ في ذلك أنَّ كلَّ إلهٍ كاملٍ في قُدرتِه وعلمِه وإرادتِه، ومَن كانَ هذه صِفتُه لا يمكنُ أن يعملَ معَ غيرِه إلّا إذا أصبحَ مُقيّدَ العلمِ والقُدرةِ والإرادة وهذا خلافُ كونِه إلهاً، وفي غيرِ هذهِ الحالة يصبحُ كلُّ إلهٍ مُستغنياً بنفسِه فلا يتقيّدُ أحدُهم بإرادةِ وقُدرةِ وعلمِ الإلهِ الآخر، وفي ذلكَ الفسادُ الحتميُّ لعالمِ الخلق كما هوَ واضحٌ بالبديهةِ العقليّة.
والأمرُ الآخر الذي غابَ على صاحبِ الإشكال هوَ معنى الفسادِ في الآيةِ حيثُ حصرَ معنى الفسادِ في الفائدةِ أو الضررِ الذي يلحقُ بالإنسان.
فمثلاً:
إذا كانَ هناكَ زلازلُ أو فيضاناتٌ أو أعاصيرُ أو فايروسات تسبّبُ الأمراض.. ففي نظرِه كلُّ ذلكَ فسادٌ في عالمِ الخِلقة، وبمعنىً آخر يجبُ أن لا يصيبَ الإنسانَ مكروهٌ في هذهِ الحياة.
وهوَ بذلكَ يفترضُ لنا كوناً آخر وإنساناً آخر وفلسفةً أخرى للوجودِ غيرَ ما أرادَه الخالقُ وأجرى عليهِ سُنّتَه، فكلُّ تلكَ الأمثلةِ لا تتعارضُ معَ ما أرادَه الله للإنسانِ في هذا الكون حتّى يكونَ ذلكَ فساداً، فقد قالَ تعالى مُصرّحاً بفلسفةِ تلكَ الابتلاءات : (وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِّنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِّنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، وقالَ: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لَا يُفتَنُونَ).
وعليهِ: فإنَّ ما يتصوّرهُ فساداً هوَ مِن صميمِ فلسفةِ هذه الحياة، وبمعنىً آخر كلُّ شيءٍ مقصودٌ ولا تكتملُ فلسفةُ الخِلقة إلّا به.
ومنَ العجيبِ فعلاً قولهُ: (مفهومُ الفسادِ هذا يمكنُ استخدامُه للطعنِ في التوحيد، فيمكنُ القولُ إنَّ الصحاريَ فاسدةٌ لأنَّ منَ الصعبِ العيشَ فيها وكونُها لا تنبتُ محصولاً وهذا ينطبقُ على القُطبِ الجنوبيّ والشمالي)!!
كما يقالُ: إنْ عشتَ أراكَ الدّهرُ عجباً حيثُ لم نسمَع مِن قبلُ مَن يقولُ إنَّ وجودَ الصحاري دليلٌ على فسادِ الخِلقة، والأعجبُ أنّه استدلَّ على فسادِها بدليلين الأوّلُ: عدمُ تمكّنِ الإنسانِ منَ العيشِ فيها. والثاني: كونُ المحاصيلِ لا تنبتُ فيها!!
فإن كانَ هذا دليلاً على فسادِها فهل يصحُّ أن يكونَ دليلاً أيضاً على فسادِ البحارِ والمُحيطات التي لا يعيشُ فيها أحدٌ ولا تنبتُ فيها المحاصيل؟
فقد يحتارُ الإنسانُ كثيراً في كيفيّةِ مُناقشةِ هذه العقول التي تُفكّرُ بهذهِ الطريقةِ الغريبة!
ولذا اكتفي بالقولِ إنَّ عدمَ تمكّنِ الإنسانِ إلى الآن منَ الاستفادةِ القُصوى منَ الصحاري لا يعني أنَّ وجودَها مساوٍ لعدمِها أو أنَّ وجودَها دليلٌ على فسادِ عالمِ الخلقة.
فمثلاً هناكَ بحوثٌ حولَ كيفيّةِ تحويلِ الصحراءِ الكُبرى لمحطّاتِ طاقةٍ شمسيّة تكفي كاملَ الكُرةِ الأرضيّة.
وفي المُحصّلةِ: إنَّ الفسادَ في الآيةِ يعني الفناءَ واستحالةَ بقاءِ الكونِ واستمرارِه، وهذا ما سيحدثُ بالفعل إذا كانَ فيه أكثرُ مِن إله، ولا علاقةَ للفسادِ بالفائدةِ أو الضّررِ الذي يصيبُ الإنسانَ مِن بعضِ الظواهرِ الطبيعيّةِ أو الاجتماعيّة.
اترك تعليق