أفضلية السيدة مريم (ع) على نساء عالمها

في المنشور تقولون بأفضلية الزهراء على نساء العالمين لكن ماذا تفعلون بهذه الآية « وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى‏ نِساءِ الْعالَمِينَ» أليس الله يقول صراحة بأنه فضل مريم على جميع النساء في العالم؟

: - اللجنة العلمية

الجواب المفصل:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}

اختلف المفسّرون في معنى قوله: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}، وعمدتها قولان:

الأول: الاصطفاء على جميع النساء بولادة النبي عيسى (عليه السلام)، فإنّه لم يولد مولود من غير أب إلا عيسى (عليه السلام).

ويستشهد لهذا القول: أنّ ظاهر ما جاء بعدها من الآيات هو تميّز السيّدة مريم (عليها السلام) عن غيرها من النساء بولادة النبي عيسى (عليه السلام) من دون فحل، وهذا هو الذي اختصّت به دون سائر النساء، وقد جاء ذكر هذه الخصوصيّة فيها بعد ذكر اصطفائها على نساء العالمين في خطاب الملائكة، يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة آل عمران: 42ـ47].

وذهب إلى هذا القول: الزجّاج، والجبائيّ، والسمرقنديّ، والنسفيّ، والزمخشريّ، وابن عبد السلام، والقرطبيّ، وغيرهم.

وهذه بعض كلماتهم:

قال السمرقنديّ في [تفسيره ج1 ص237]: « {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} يعني بولادة عيسى بغير أب. وقال بعضهم: (اصطفاكِ) يعني فضّلك على نساء العالمين يعني عالمي زمانها ».

وقال النسفي في [مدارك التنزيل ج1 ص153]: «{وَاصْطَفَاكِ} آخراً {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} بأن وهب لك عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء ».

وقال الزمخشري في [تفسير الكشاف ج1 ص429]: «{وَاصْطَفَاكِ} آخراً {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} بأن وهب لك عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء ». وقال أيضاً: « فإن قلت: لم قيل عيسى ابن مريم والخطاب لمريم؟ قلت: لأن الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فأعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه، وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين ».

وقال العز بن عبدالسلام في [تفسيره ج1 ص261ـ262]: « {وَاصْطَفَاكِ} تأكيد للاصطفاء، أو الأول للعبادة والثاني لولادة المسيح عليه الصلاة والسلام ».

وقال القرطبيّ في [الجامع لأحكام القرآن ج4 ص82]: « {وَاصْطَفَاكِ} لولادة عيسى {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} يعني عالمي زمانها، عن الحسن وابن جريج وغيرهما. وقيل: {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} أجمع إلى يوم الصور، وهو الصحيح على ما نبيّنه، وهو قول الزجّاج وغيره.. ».

وقال أبو السعود العمادي في [تفسيره ج2 ص35]: « {وَاصْطَفَاكِ} آخراً {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} بأن وهب لك عيسى (عليه الصلاة والسلام) من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء »، ثم قال: « وانما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب فلا ينسب الا إلى أمه، وبذلك فضلت على نساء العالمين ».

الثاني: الاصطفاء على نساء عالمي زمانها.

ويستشهد لهذا القول بأمرين:

1ـ تكرّر الاستعمال القرآنيّ للفظ (العالمين) ونحوه في المعاصرين، كما في قوله تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [سورة الأعراف: 144]، وقوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام: 86]، وقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة البقرة: 47، 122]، وقوله: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة الجاثية: 16]، وقوله: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف: 138ـ140]، وغيرها من الآيات الكريمة. ومن الواضح أنّه لا يُراد تفضيل المذكورين على سائر العالمين من الأولين والآخرين، فإنّ نبيّنا الخاتم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) أفضل من سائر الأنبياء (عليهم السلام)، بل أفضل الخلق أجمعين، فالتفضيل المذكور في الآيات الكريمة على العالمين وعلى الناس إنّما هو على أهل زمانهم لا على سائر الأزمنة.

2ـ الأحاديث الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في أنّ السيدة مريم (عليها السلام) سيدة نساء عالمها..

منها: ما رواه البخاريّ في [الصحيح ج4 ص138]، ومسلم في [الصحيح ج7 ص132]، وأحمد بن حنبل في [المسند ج1 ص84]، والترمذي في [السنن ج5 ص366] وغيرهم بالإسناد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: « خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة »، ومعناه أنّ كل واحدة منهما خير نساء الأرض في زمانها وعصرها، كما صرّح النووي في [شرح صحيح مسلم ج15 ص198]، والعيني في [عمدة القاري ج16 ص24]، وابن حجر العسقلاني في [فتح الباري ج6 ص339]، بل قال الأخير في [ج7 ص101]: « جزم كثير من الشراح أن المراد نساء زمانها ».

ومنها: ما رواه ابن شاهين في [فضائل سيدة النساء ص25]، وابن عبد البر في [الاستيعاب ج4 ص1895]، وابن عساكر في [تاريخ دمشق ج42 ص134]، وابن المغازلي في [مناقب علي ص292] وغيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: « مريم سيد نساء عالَمِها.. ».

ومنها: ما رواه ابن عساكر في [تاريخ دمشق ج70 ص107]، والمحب الطبري في [ذخائر العقبى ص44]، والزرندي الحنفي في [نظم درر السمطين ص178] وغيرهم عن ابن عباس عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: « أربع نسوة سادات عالمهن: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، وأفضلهن عالماً فاطمة ».

ومنها: ما رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده ـ كما في [بغية الباحث ص297] ـ عن النبي (صلى الله عليه وآله): « مريم خير نساء عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها ».

ومنها: قال السبكي ـ على ما حكاه الصالحي في [سبل الهدى والرشاد ج11 ص162] ـ: « وفي الصحيح من حديث علي (رضي الله تعالى عنه) مرفوعاً: خير نساء أهل زمانها مريم بنت عمران، خير نساء زمانها خديجة بنت خويلد ». وكأنه أنه متحد مع حديث « خير نسائها » المتقدّم.

وغيرها من الأحاديث الواردة في أنّ السيدة مريم (عليها السلام) أفضل نساء أهل زمانها، لا مطلقاً، وقد قال الشوكانيّ في [فتح القدير ج1 ص340]: « وفي المعنى أحاديث كثيرة، وكلها تفيد أن مريم (عليها السلام) سيدة نساء عالمها، لا نساء جميع العالم ».

وهذا القول ـ أي الاصطفاء على نساء عالمي زمانها ـ في معنى الآية الكريمة هو قول: ابن عبّاس، والحسن، والسديّ، وابن جريج، والطبريّ، والثعلبيّ، والواحديّ، والشوكانيّ، والجلالين، وغيرهم. بل قال ابن الأنباري: « هذا قول الأكثرين »، وقال الآلوسيّ: « هو المشهور عن أئمّة أهل البيت ». وهذه بعض كلمات علماء أهل السنة:

قال السديّ ـ كما في [تفسير ابن أبي حاتم ج2 ص647] ـ: « {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} قال: على نساء ذلك الزمان الذي هم فيه ».

وقال ابن جريج ـ كما في [جامع البيان للطبريّ ج3 ص359] ،: « {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} قال: ذلك للعالمين يومئذٍ ».

وقال المفسّر الطبريّ في [جامع البيان ج3 ص357]: « {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} يعني: اختاركِ على نساء العالمين في زمانك بطاعتك إيّاه ».

وقال الثعلبيّ في [الكشف والبيان ج3 ص67]: « {وَاصْطَفَاكِ} بالتحرير في المسجد {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} عالمي زمانها، ولا يحرر غيرها ».

وقال الواحدي النيسابوريّ في [الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج1 ص210]: «{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} على عالمي زمانك ».

وقال ابن الجوزي في [زاد المسير ج1 ص329]: « قال ابن عباس والحسن وابن جريج: اصطفاها على عالمي زمانها. قال ابن الأنباري: وهذا قول الأكثرين ».

وقال ابن كثير في [تفسيره ج4 ص154]: « وهذا كقوله تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} أي أهل زمانه ذلك كقوله عز وجل لمريم (عليها السلام): {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} أي في زمنها، فإن خديجة (رضي الله عنها) إما أفضل منها أو مساوية لها في الفضل، وكذا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ».

وقال الفيروزآبادي في [تنوير المقياس من تفسير ابن عباس ص47]: « {وَاصْطَفَاكِ}: اختارك {عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}: عالمي زمانك بولادة عيسى ».

وقال المحلي والسيوطي في [تفسير الجلالين ص72]: « {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} أي أهل زمانك ».

وقال الشوكاني في [فتح القدير ج1 ص338]: « {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} قيل هذا الاصطفاء الآخر غير الاصطفاء الأول، فالأول هو حيث تقبلها بقبول حسن، والآخر لولادة عيسى. والمراد بـ(العالمين) هنا قيل: نساء عالم زمانها، وهو الحق. وقيل: نساء جميع العالم إلى يوم القيامة، واختاره الزجاج ».

وقال الدكتور وهبة الزحيلي في [التفسير الوسيط ج1 ص193]: « وفضلك على نساء العالمين في زمانك ».

أقول: لا يخفى أنّ هذين القولين في معنى قوله تعالى: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} لا يدلّان على أفضليّة السيّدة مريم (عليها السلام) مطلقاً على نساء العالمين من الأولين والآخرين..

أما القول الأول ـ وهو اصطفاؤها بولادة النبي عيسى (عليه السلام) ـ فهو اصطفاء خاصّ في جهة خاصّة، وهي ولادة النبي عيسى (عليه السلام) من غير زوج، وليس اصطفاءً مطلقاً عامّاً ليكون دالاً على أفضليّتها على السيّدة الزهراء (عليها السلام)، فالآية لا تدلّ على اصطفائها مطلقاً على سائر نساء العالمين، بل تدل على تميزها على نساء العالمين بخصوصية ولادة النبي عيسى (عليه السلام)، فلا تدل على تفضيلها بسائر الخصوصيات والكمالات.

أما القول الثاني ـ وهو اصطفاؤها على نساء عالمها ـ فهو اصطفاء عام في زمان خاصّ، أي تفضيلها ـ بما تمتلكه من المواهب والكمالات ـ على خصوص نساء زمانها، ومن الواضح أنّه لا يشمل السيّدة الزهراء (عليها السلام)؛ لاختلاف زمانيهما.

إذن: قوله تعالى: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} لا يدلّ على أفضليّة السيّدة مريم (عليها السلام) على نساء العالمين من الأولين والآخرين، وإنما يدل على اختصاصها بمزية دون سائر النساء وهو ولادة النبي عيسى (عليه السلام)، أو على تفضيلها على نساء أهل زمانها، فلا تدلّ على تفضيلها على الصديقة الكبرى السيدة الزهراء (عليها السلام) كما هو واضح.