هل النظام الكوني عشوائي

‏أغلبُ مداراتِ الكواكبِ غيرُ مُستقرّة.. أشعّةُ جاما القاتلة تملأ الفضاء.. ثقوبٌ سوداء تبتلعُ كلَّ شيء.. اصطدامٌ حتميٌّ لمجرّتنا مع مجرّةِ أندروميدا.. كوكبُنا مُمتلىءٌ بالكوارثِ الطبيعيّة.. 99 % منَ الكائناتِ التي عاشَت عليه انقرضت.. أمراضٌ وأوبئةٌ وتشوّهاتٌ ولاديّة.. بعدَ كلِّ هذا يسألُكَ سفيهٌ "مَن الذى خلقَ هذا الكونَ الدقيق" ؟!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

منَ المؤكّدِ أنَّ هذهِ الرّؤيةَ المُتشائمةَ للكونِ لا تستندُ على نتائجِ البحوثِ الكونيّةِ والفلكيّة، كما أنّها لا تنطلقُ مِن واقعِ الإشفاقِ على الحياةِ الإنسانيّةِ على كوكبِ الأرض، وإنّما تنطلقُ مِن عقليّةٍ مظلمةٍ ونفسيّةٍ محبطةٍ ورؤيةٍ عدميّة.

فما هوَ معلومٌ منَ البحوثِ العلميّة أنَّ مداراتِ الكواكبِ تتبعُ قوانينَ الحركةِ والجاذبيّة، ففي القرنِ السابعِ عشر، قامَ العالمُ الإنجليزيّ إسحاق نيوتن بتطويرِ قانونِ الجاذبيّةِ الذي يشرحُ الحركةَ النظاميّةَ للأجرامِ المتحرّكةِ في الفضاء، ويُستخدمُ هذا القانونُ لتفسيرِ حركةِ الكواكبِ حولَ الشمسِ والتنبّؤ بحركتِها في المُستقبل.

كما أنَّ الملاحظاتِ والتجاربَ العلميّةَ الحديثةَ أكّدَت النتائجَ التي تدعمُ فكرةَ أنَّ مداراتِ الكواكبِ منتظمةٌ وتتبعُ قوانينَ محدّدة، فعلى سبيلِ المثال، تمَّ اكتشافُ العديدِ منَ الكواكبِ خارجَ نظامنا الشمسيّ وتمَّ ملاحظةُ أنَّ مداراتِها تتبعُ قوانينَ محدّدةً ومنتظمة.

وعليه فإنَّ معظمَ المداراتِ في النّظامِ الشمسيّ تتحرّكُ بشكلٍ مستقرٍّ ومنتظمٍ حتّى وإن أشارَ العلمُ لبعضِ الحالاتِ التي يظهرُ منها عدمُ الاستقرار، وذلكَ نتيجةً لوجودِ جاذبيّةٍ قويّة مِن قمرٍ أو كوكبٍ آخر، أو تأثيراتٍ خارجيّة مثل الاصطداماتِ مع النيازكِ أو الكواكبِ الصغيرة، حيثُ تشيرُ الأبحاثُ الحديثةُ إلى أنَّ بعضَ النظمِ النجميّةِ المتعدّدةِ يمكنُ أن تؤدّي إلى مداراتٍ غير مستقرّةٍ للكواكبِ الموجودةِ فيها، وذلكَ بسببِ التأثيراتِ الجاذبيّة بينَ النجومِ المُختلفةِ في النظام.

ولكن على الرّغمِ من ذلك، فإنَّ معظمَ المداراتِ الكونيّة تتحرّكُ بشكلٍ مستقرٍّ ومنتظم، ويعتبرُ هذا الاستقرارُ النسبيّ هو نتيجةَ توازنِ القوى المُختلفةِ في النّظام.

وعليهِ، فإنَّ الأدلّةَ العلميّةَ المتوفّرةَ تشيرُ إلى أنَّ المداراتِ الكونيّةَ عمومًا هي مستقرّةٌ ومنتظمة.

كما لا يمكنُ اعتبارُ وجودِ الإشعاعاتِ الكونيّةِ المختلفة، مثلَ الإشعاعاتِ السينيّةِ والإشعاعاتِ الجاما والإشعاعاتِ الميكرويّة وغيرِها، دليلاً على عشوائيّةِ الكون؛ لأنّها نتاجُ عملياتٍ طبيعيّةٍ في الكون، مثل الانفجاراتِ النجميّةِ والانفجاراتِ النوويّة، ومعَ ذلكَ تُوزّعُ هذه الإشعاعاتُ بطريقةٍ منتظمةٍ ومحدّدةٍ في الفضاء.

ومنَ الجديرٍ بالذّكرِ أنَّ إشعاعاتِ الجاما القاتلةَ التي يشيرُ الشخصُ إليها تنتجُ من مصادرَ معيّنةٍ ومحدّدة، مثلَ الانفجاراتِ النوويّة في الفضاءِ البعيد، وهيَ تتركّزُ في مناطقَ محدّدةٍ في الكون، وتتفاعلُ مع الموادِّ الموجودة في المنطقةِ المجاورة لها. وبالتالي، فإنَّ وجودَ إشعاعاتِ الجاما القاتلة لا يعني تأثيرَها على الحياةِ في الأرض أو أنَّ هناكَ عشوائيّةً وعدمَ نظامٍ في الكون.

وبالنتيجة: فإنَّ الكونَ يتّسمُ بالتنظيمِ والنظامِ الرّائع في جميعِ مستوياتِه، مِن حركةِ المجرّاتِ والنجومِ إلى حركةِ الكواكبِ والأجسامِ الصغيرة، وكلُّ ذلكَ محكومٌ بقوانينَ طبيعيّةٍ صارمة، وهذهِ التركيبةُ المُنتظمةُ والنظامُ المُحكم في الكونِ يشيرُ إلى وجودِ حِكمةٍ عظيمةٍ تقفُ خلفه.

أمّا الثقوبُ السوداء التي بدَت له وكأنّها ظاهرةٌ عشوائيّة، فإنّها تتشكّلُ عندَما تنتهي حياةُ النجومِ الضخمةِ بانفجاراتٍ هائلةٍ تسمّى الانفجارات النوويّة النهائيّة، وتنتجُ منها كتلٌ ضخمةٌ منَ المادّة تنهارُ على نفسِها لتشكّلَ الثقوبَ السوداء، وعلى الرغمِ مِن أنَّ الثقوبَ السوداءَ يمكنُ أن تبتلعَ كلَّ شيءٍ يقعُ في مداها الجاذبّي، إلّا أنّها تتبعُ قوانينَ طبيعيّةً صارمةً تحدّدُ تأثيرَها على الكون.

وعلاوةً على ذلك، فإنَّ تواجدَ الثقوبِ السوداءِ لا يعني بالضرورةِ وجودَ عشوائيّةٍ في الكون، فالثقوبُ السوداء تشكّلُ جزءًا مِن تركيبةِ الكون، وتتبعُ قوانينَ طبيعيّةً صارمةً مثلَ باقي الأجسامِ في الكون.

وبالإضافةِ إلى ذلك، فإنَّ وجودَ الثقوبِ السوداء يساعدُ في الحفاظِ على توازنِ الكون، حيثُ تساهمُ في إبطاءِ حركةِ النجومِ والمجرّات في المناطقِ المحيطةِ بها وتحدُّ منَ التداخلِ بينَها، وبالتالي، فإنَّ وجودَ الثقوبِ السوداءِ في الكونِ يساعدُ في الحفاظِ على توازنِ النظامِ الكوني بشكلٍ عام.

أمّا الكلامُ عن الاصطدامِ الحتميّ لمجرّتنا مع مجرّةِ أندروميدا، فهناكَ بعضُ الإشاراتِ العلميّة التي تشيرُ إلى أنَّ مجرّتنا دربُ التبانة Milky Way ومجرّة أندروميدا Andromeda ستتحرّكانِ نحوَ بعضِهما البعض وتتصادمانِ في وقتٍ ما في المُستقبل. وعلى الرّغمِ من أنَّ هذا الاصطدامَ سيكونُ ضخمًا وقد يؤدّي إلى تشوّهٍ وتغييرٍ كبير في شكلِ المجرّتين، إلّا أنّه لن يؤثّرَ بشكلٍ كبير على كوكبِ الأرض أو على النظامِ الشمسيّ بأكملِه، كما أنَّ الأبحاثَ الحاليّة تشيرُ إلى أنَّ هذا الاصطدامَ الحتميّ لن يحدثَ قبلَ حوالي 4 مليارات سنةٍ منَ الآن.

أمّا الكوارثُ الطبيعيّة فهيَ جزءٌ مِن هذا النظامِ الكونيّ، ومن مسؤوليّاتِ الإنسانِ التكيّفُ معها والعملُ على تجنّبِ مخاطرِها.

فمعَ أنَّ الأرضَ بشكلٍ خاصّ والكونَ بشكلٍ عامّ وضعَ بالشكلِ الذي يناسبُ حياةَ الإنسانِ إلّا أنَّ ذلكَ لا يعني أن يعيشَ الإنسانُ من دونِ تحدٍّ وصراعٍ مع الطبيعةِ وتسخيرِها لمصلحتِه.

ومنَ الخطأ النظرُ إلى الكوارثِ الطبيعيّةِ بوصفِها معوقاتٍ تعيقُ الحياةَ الإنسانيّة، فلا طبيعةُ الكوارثِ ولا طبيعةُ الإنسانِ ولا طبيعةُ الحياةِ وتاريخُها المُمتدُّ يقبلُ مثلَ هذا الاستنتاج.

فالنظرةُ العلميّة تقتضي القيامَ بإحصائيّاتٍ للكوارثِ الطبيعيّة لفهمٍ الأثرِ الفعليّ لها على الحياةِ الإنسانيّة، بدلَ إرسالِ الأحكامِ العاطفيّة التي لا تعبّرُ إلّا عن نفسيّاتٍ عدميّة.

فعلى الرغمِ مِن أنَّ الكوارثَ الطبيعيّة قد تسبّبُ دمارًا كبيرًا وخسائرَ في الأرواحِ والمُمتلكات، إلّا أنَّ الإنسانَ قادرٌ على التعاملِ مع هذهِ الظواهرِ والتكيّف معها، وقد طوّرَ الإنسانُ بالفعل العديدَ منَ التقنيّاتِ والاستراتيجيّات التي تساعدُ في التعاملِ معَ الكوارثِ الطبيعيّة، وتقليلِ الأضرارِ التي يمكنُ أن تسبّبَها، بل يمكنُ أن يقالَ إنَّ الكوارثَ الطبيعيّة قد تجلبُ معها فُرصًا للتعلّمِ والتحسين، حيثُ يمكنُ للإنسان تطويرُ مهاراتٍ جديدةٍ وتعزيزُ الإدارةِ البيئيّة والاستجابةِ للكوارث.

وبشكلٍ عام، يمكنُ القولُ إنَّ الكوارثَ الطبيعيّةَ لا تجعلُ الحياةَ على كوكبِ الأرضِ مستحيلةً، وإنّما تتطلّبُ من الإنسانِ الإدارةَ الجيّدةَ والتعاونَ للتكيّفِ مع هذهِ الظروفِ والحفاظِ على بيئةٍ حيويّةٍ ومُستدامة.

وفي المُحصّلةِ: ليسَ على المُلحدِ أن يفرضَ نظرتَه العدميّةَ على الآخرين، فالإنسانُ المؤمنُ بالله ما زالَ مندهشاً بعظمةِ الخلقِ وعظمةِ الخالق، وهوَ بذلك أكثرُ أملاً بحياةٍ سعيدةٍ ومطمئنّةٍ في هذهِ الدنيا كما أنّه يأملُ في حياةٍ أكثرَ سعادةً في الآخرة.