هل يستحوذ الشيطان على المعصوم (ع)؟

السؤال: يوشع (ع) وصي موسى (ع) ومعصوم، ومع هذا: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف٦٣]، فنسيانه للحوت ثابت في القرآن، والنسيان واستحواذ الشيطان مخالف للعصمة! الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}

: فريق اللجنة العلمية

الجواب

السائل المحترم / سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[أولاً] الإمامية يعتقدون بعصمة الأنبياء والأئمة (ع)، ولهُم في إثبات ذلك براهين عقلية ونقلية مفصَّلة في محلِّها.

ولهذا فأيُّ نصٍّ يبدو ظاهره مخالفاً لمُحكمات الأدلة، فهُم يوجِّهونه بشكل علمي يتناسب مع هذه الأدلة القطعية.

قال الصدوق في اعتقادات الإمامية: ب٣٦ ص٣٠٤،

«اعتقادنا في الأنبياء والرسُّل والأئمة والملائكة (صلوات الله عليهم): أنهم معصومون مطهَّرون من كلِّ دَنس، وأنهم لا يذنبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم. واعتقادنا فيهم: أنهم موصوفون بالكمال والتمام والعلم، من أوائل أمورهم إلى أواخرها، لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا عصيان ولا جهل».

[ثانياً] ١- على فرض أن فتى النبي موسى (ع) ـ في القرآن ـ هو يوشع بن نون (ع)، كما في بعض الروايات، منها:

ما رواه الكليني في الكافي: ج٨ ص١١٧ ح٩٢، بإسناده عن الإمام الباقر (ع)، في حديث طويل، قال: «وكان وصيُّ موسى (ع) يوشع بن نون (ع)، وهو فتاه الذي ذكره الله (عز وجل) في كتابه». ونحوه رواه الصدوق في الكمال: ب٢٢ ص٢٤٥ ح٢، والعياشي بالتفسير: ج٢ ص٣٣٠ ح٤٢.

وما رواه الصدوق في العلل: ج١ ب٥٤ ص٦٠ ح١، بإسناده عن الإمام الصادق (ع)، في حديث طويل، قال: «فمضى هو [النبي موسى (ع)] وفتاه يوشع بن نون (ع)، حتى انتهيا إلى ملتقى البحرين، فوجدَا هناك الخضر (ع)، يعبد الله (عز وجل)».

وما رواه الصدوق في العيون: ج٢ ص٥٧ ح١٩، والكمال: ص٣٢٩ ح٨، بإسناده عن الإمام الصادق (ع)، عن أمير المؤمنين (ع)، في حديث طويل، قال: «عين الحياة التي غسَل فيها يوشع بن نون (ع) السَّمكة، وهي العين التي شرب منها الخضر (ع)».

لأن الفخر الرازي في تفسيره: ج٢١ ص٤٧٨، ذكر ثلاثة أقوال في المسألة، أحدها: أنه يوشع (ع)، وثانيها: أنه أخو يوشع، وثالثها: أنه عبدٌ لموسى (ع).

٢- وعلى فرض أن يوشع بن بنون نبيٌّ (ع)، كما في بعض الروايات، منها:

ما رواه الصدوق في الكمال: ص٢٤٨ ح٢، بإسناده عن الإمام الباقر (ع)، في حديث طويل، قال: «ثم إن الله (تبارك وتعالى) أرسَل يوشع بن نون (ع) إلى بني إسرائيل من بعد موسى (ع)».

وهذا الرأي اختاره الصدوق في الكمال: ص٥٤.

على فرض هذين الأمرين: فالنسيان المنسوب إليه بالآية الكريمة، ممَّا لا يخدش في عصمته (ع)، لِمَا سيأتي بيانه.

٣- وأما على فرض عدم ثبوت نبوَّته (ع)، فالأمر واضح، ولا يرد الإشكال المذكور بالسؤال أصلاً.

كما رَوَى الصفار في البصائر: ب٢٠ ص٣٨٦ ح٣، والكليني في الكافي: ج١ ص٢٦٩ ح٥، والعياشي في التفسير: ج٢ ص٣٤٠ ح٧٤، عن الإمامين الباقر والصادق (ع)، قالا: «صاحب موسى، وذو القرنين: كانا عالمَين، ولم يكونا نبيَّين».

بناءً على أن صاحب موسى (ع) هو يوشع (ع)، كما ورد تشخيصه في بعض الروايات، بحار الأنوار: ج٢٦ ص٦٩ ح٨، وج٤٠ ص١٤٢ ح٤٣.

وهذا الرأي اختاره المجلسي في المرآة: ج٤ ص٣٠٤.

[ثالثاً] النسيان في اللغة له عدة معانٍ، منها:

• الغفلة: بمعنى عدم تذكُّر المحفوظ.

• الترك: بمعنى إهمال الشيء الفلاني.

• السقط: بمعنى وقوع شيء من شيء.

كما في مقاييس اللغة لابن فارس: ج٥ ص٤٢١ مادة (ن س ي)، ومجمع البحرين للطريحي: ج٤ ص٣٠٧ مادة (ن س ي)، وتاج العروس للزبيدي: ج٤٠ ص٧٤ مادة (ن س ي).

الذي يليق بمقام الأنبياء (ع) الأمران الأخيران، فيوشع (ع): إما ترك الحوت، أو سقط منه، وما يجوز بحالٍ غفلته عنه!

كما ذكر ذلك جماعة من علمائنا:

١- كالشريف المرتضى في التنزيه: ص٢٥٧.

٢- والطبرسي في مجمع البيان: ج٦ ص٣٦٣.

٣- وابن شهرآشوب في المتشابه: ج٢ ص٤٥٦.

٤- والفيض الكاشاني في الصافي: ج٣ ص٢٤٩.

٥- والسيد شبَّر في الجوهر الثمين: ج٤ ص٦٨.

وهذان المعنيان وردَا في القرآن والسُّنة:

(أ) قال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف٥١].

(ب) وقال تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة٦٧].

(ج) وقال تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه١٢٦].

(د) وقال تعالى: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [الجاثية٣٤].

بمعنى: أن الله (تعالى) وملائكته (ع) وحُججه (ع) ينسون ـ أي: يَتركون، أو يُسقطون ـ بالقيامة مَن كانت هكذا صفته.

ولا يجوز نسبة النسيان ـ بمعنى: الغفلة ـ إلى الله (تعالى) وملائكته (ع) وحُججه (ع) ـ بحُكم برهان العقل والنقل ـ فإنه ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم٦٤].

رَوَى الصدوق في التوحيد: ب١٦ ص١٥٩ ح١، والعيون: ج٢ ب١١ ص١١٤ ح١٨، والمعاني: ص١٤ ح٥، بإسناده عن الإمام الرضا (ع)، وقد سُئِل عن قول الله (عز وجل): ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾؟ فقال: «إن الله (تبارك وتعالى) لا ينسى ولا يسهو، وإنما ينسى ويسهو المخلوق المحدَث. ألا تسمعه (عز وجل) يقول: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾؟! وإنما يُجازي مَن نسيه ونسي لقاء يومه، بأن يُنسيهم أنفسهم، كما قال (عز وجل): ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وقوله (عز وجل): ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾، أي: نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا».

ورَوَى الصدوق في التوحيد: ب٣٦ ص٢٥٩ ح٥، بإسناده عن أمير المؤمنين (ع) في حديث طويل، قال: «أما قوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾، إنما يعني: نسوا الله في دار الدنيا، لم يعلموا بطاعته، فنسيهم في الآخرة، أي: لم يجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيين من الخير. وكذلك تفسير قوله (عز وجل): ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾، يعني بالنسيان: أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه، الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين، حين آمنوا به وبرسله، وخافوه بالغيب. وأما قوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾، فإن ربنا (تبارك وتعالى علواً كبيراً) ليس بالذي ينسى ولا يغفل، بل هو الحفيظ العليم. وقد يقول العرب في باب النسيان: قد نسينا فلان فلا يذكرنا، أي: أنه لا يأمر لنا بخير ولا يذكرنا به».

وليراجَع بالمسألة تفسير الميزان للطباطبائي: ج٨ ص١٣٤، وج٩ ص٣٤٦، وج١٨ ص١٨٠، وج١٩ ص٢١٩.

[رابعاً] أما ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾، فليس من استحواذ الشيطان على النبي (ع) في شيء، لأن الشيطان لا سبيل له على الأنبياء والأئمة (ع)، كما ثبت عقلاً ونقلاً.

(أ) قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر٣٩-٤٠].

(ب) وقال تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص٨٢-٨٣].

قال الطبرسي في مجمع البيان: ج٨ ص٣٧٩، «﴿قَالَ﴾ إبليس: ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾، أي: أقسِم بقدرتك التي تقهر بها جميع خلقك. ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾، يعني: بني آدم كلهم ﴿أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾، أي: أدعوهم إلى الغَي، وأزيِّن لهم القبائح، إلا عبادك الذين استخلصتهم وآثرتهم وعصمتهم، فلا سبيل لي عليهم».

وقال الطباطبائي في الميزان: ج١٧ ص٢٢٧، «أقسَم بعزَّته، ليغوينَّهم أجمعين، واستثنى منهم المخلَصين، وهُم الذين أخلصهم الله لنفسه، فلا نصيب فيهم لإبليس ولا لغيره».

ولعل المراد: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾، أي: أوقعتُه، أو فقدتُه. ﴿وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾، أي: أسقطني الشيطان إياه.

بمعنى: أن الشيطان تدخَّل في فقدان النبيَّيْن (ع) للحوت، حتى يَمنعهما أو يُعيقهما من لقاء الخضر (ع). وهذا الذي حصل فعلاً، فإنهما تأخَّرا عن لقائه يوماً وليلة ـ على ما في بعض الروايات ـ فألقى الله (تعالى) عليهما الجوع، ليرجعا إلى الصخرة التي فقَدا عندها الحوت، فهنالك الخضر (ع)، حيث العلاَمة عليه هي: رجوع الحياة للحوت الميِّت!

وهذا المعنى قال به جمعٌ من المفسِّرين الشيعة والسُّنة، وهو معنى منسجم مع اللغة والروايات، وليس به مشكلة.

وهو مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج٥٢].

فالشيطان يترصَّد بجميع الأنبياء والأئمة (ع)، وحيث أنه لا سبيل له عليهم شخصياً، فإنه يحاول بكل جهده أن يُفشل مشاريعهم الرسالية، ويخرِّب ما يتمنَّون حصوله على أرض الواقع، من هداية العباد، وإصلاح البلاد.

والقرآن صريح في بيان أذيَّة الشيطان للأنبياء (ع) بأساليب متنوعة، ليدمِّر مشاريعهم. قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص٤١].

قال الطباطبائي في الميزان: ج١٧ ص٢٠٩، «إن الذي يخصُّ الأنبياء وأهل العصمة (ع) أنهم ـ لمكان عصمتهم ـ في أمْنٍ من تأثير الشيطان في نفوسهم بالوسوسة. وأما تأثيره في أبدانهم، وسائر ما يُنسب إليهم، بإيذاء أو إتعاب أو نحو ذلك ـ من غير إضلالٍ ـ فلا دليل يدلُّ على امتناعه. وقد حكى الله (سبحانه) عن فتى موسى ـ وهو يوشع النبي (ع) ـ ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾».

النتيجة: مع فرض أن فتى موسى (ع) هو يوشع (ع)، ومع فرض أنه معصوم، فالآية الكريمة ما تدلُّ على نسيانه، ولا تدلُّ إلى استحواذ الشيطان عليه. لو دلَّت لشيء من هذا، فهي قابلة للتوجيه العلمي، لأنه ثبت بالبرهان عصمة كل الأنبياء والأئمة (ع)، فلا يعارَض اليقيني بالظني.