كيف يعطي الله أهمّ صفاته لابليس الذي تحداه وتحدى مخلوقاته؟
الله والشيطان: كلّ منهما موجود في كلّ مكان كلّ منهما حُر ولا يخضع لقوانين كلّ منهما لا يمرض ولا ينام كلّ منهما يمتلك أعواناً تحت إمرته كلّ منهما يعرف مشهد النهاية للحياة - أليس من العجيب أن يعطي الله أهمّ صفاته لمن تحداه وتحدى مخلوقاته؟ نِدّيّة لا تليق بخالق ومخلوق، إله الخير وإله الشر منطقي أكثر.
الجواب:
حتى لو أهملنا الكاتبَ وقصدَهُ من هذا الكلام فإنّ العبارات بنفسها كاشفةٌ عن جهلٍ واضح في مقام معرفة الله تعالى، فالمقارنةُ بين الله والشيطان ليست باطلة فحسب وإنما مستحيلةٌ ذاتاً ومنطقاً، فلكي تصحّ المقارنة بين شيئين لا بدّ أن يقع كلاهما في حدود التصوّر الذهني، وهذا مستحيل في مقام معرفة الله تعالى، فالله أقدسُ من أن تنالَهُ العقولُ أو تدركَه خطراتُ الظنون؛ وذلك لأنّ العقل مخلوقٌ محدود، فكيف له أن يحيط علماً بالخالق؟ ففي الرواية قال: قلت لأبي عبد الله (ع): هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال: لا، قلت: فهل كُلِّفوا المعرفة؟ قال: لا، إنّ على الله البيان، لا يكلفُ الله العبادَ إلا وسعها، ولا يكلفُ نفساً إلا ما آتاها).
وقد أكّد الإمام عليه السلام إلى أن تكليفهم بالمعرفة تكليفٌ بالمحال، لقوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها﴾، و﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها﴾.
وعليه لا سبيلَ إلى معرفته تعالى إلا بتعريفِ نفسهِ للعباد، فيعرفونهُ تعالى بتعريفه، وليس هذا إلا فعله من دون اختيار منهم، وليست بالكسبية كغيرها من العلوم النظرية، كما لا يمكن تصوّره بالوجه والعناوين والمفاهيم الكلية، لأنّ ذاته تتقدّسُ عن المعلومية والمفهومية، فتعريفهُ تعالى نفسه تعريفاً حقيقياً عينُ فعله تعالى، وهي المعرفة التي تثبّتهُ وتخرجهُ عن الحدين حدّ التعطيل وحدّ التشبيه، قال الإمام علي بن موسي الرضا (عليه السلام): "إنّ الخالق لا يوصفُ إلاّ بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواسّ أن تدركه، والأوهامُ أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصارُ عن الإحاطة به، جلّ عمّا وصفهُ الواصفون، وتعالى عمّا ينعتهُ الناعتون"
فمعرفة الله معرفةٌ من نوع خاص، لا يجتمعُ معها التشبيه، فلا يُتصوَّر بالعقول ولا يُتوهَّم بالخيال، لأنه أعظم من أن تناله خطرات القلوب ودقائقُ الأوهام، وليس بمقدور الإنسان إذا أرادَ أن يعرف أن يعرف، فأيُّ شيءٍ يمكن أن يكون طريقاً إلى معرفته وهو خارج عن هيمنته وقدرته؟
فأساسُ التوحيد هو تمييزهُ تعالى عن خلقه، بحيث يكون بايناً عنهم بينونةً في الصفة لا في العزلة، فلا شيء يجمعُ بين الله وبين خلقه، فهو المتفرّدُ في وحدانيته، لا يشبههُ شيء من خلقه بأيّ وجه من الوجوه، فهو ممتازٌ عن خلقه وباينٌ عنهم بينونة حقيقية في جميع شؤونه، يقولُ الإمام علي عليه السلام: "دليلهُ آياته.. ووجوده إثباته.. ومعرفتهُ توحيده.. وتوحيدهُ تميزه من خلقه.. وحكمُ التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة.. إنه ربٌّ خالق غير مربوب مخلوق، كلُّ ما تُصُوِّرَ فهو بخلافه".
ويقولُ الإمام الرضا عليه السلام: "مباينتُه إيّاهم مفارقتُه إنيّتَهم.. كنههُ تفريق بينه وبين خلقه.. مباينٌ لا بمسافة، فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع عن صانعه".
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى خلوٌ من خَلقِه، وخَلقُه خلوٌ منه".
وإذا اتضحت شروط معرفةِ الله وحدودها يتضحُ الخطأ الذي وقع فيه من عقد تلك المقارنة بين الخالق والمخلوق، ومع أنّ هذا المقدارَ كافيٌ للردّ على مثل هذه المزاعم إلا أننا أحببنا تأكيد ذلك من خلال الردّ المباشر على تلك المزاعم التي أشار إليها الكاتب.
فقوله: (كلّ منهما موجودٌ في كل مكان)، قولٌ باطل يكشف عن جهله بالله وبالشيطان معاً، فاللهُ محيط بالمكان وليس موجود فيه، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "لم يحلُل في الأشياء فيقال هو فيها كائن".
وعن الإمام الصادق عليه السلام يقول: ".. ولكن هو بائنٌ من خلقه، محيط بما خلق علماً وقدرة وإحاطة وسلطاناً وملكاً... لا يبعدُ منه شيء، والأشياء له سواء علماً وقدرة وسلطاناً وملكاً".
وعنه عليه السلام قال: "إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصفُ بزمان ولا مكان ولا حركةٍ ولا انتقال ولا سكون، بل هو خالقُ الزمان والمكان والحركة والسكون والانتقال، تعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيرا"
أمّا الشيطان فهو اسمٌ يطلق على كلّ بعيد عن الخير، سواءٌ كان من الجنّ أو الإنس أو الدواب، والفرق بينه وبين إبليس أنّ الشيطان عامٌ يشمل كلّ متمرد، وأمّا إبليس فهو اسمُ علم خاص للشيطان الذي وسوسَ للنبيّ آدم (عليه السلام)، وامتنع عن السجود له، وهو بذلك كائن مخلوق له مكان ومحدود بذلك المكان، وليس له قدرة وسلطة على الإنسان إلا بمقدار الوساوس التي يلقيها في الصدور، فلكلّ إنسان قرينٌ خاصٌّ به يمثل توجهات ابليس في قلب الإنسان ونفسه، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "لكلّ قلب وسواس، فإذا فتق الوسواسُ حجاب القلب نطق به اللسان وأخذ به العبد، وإذا لم يفتق القلبَ ولم ينطق به اللسان فلا حرج"، ومع ذلك فإنّ الشيطان ضعيفٌ وعاجز أمام إرادة الإنسان وإيمانه، قال تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) وقال: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا)
ويقول: (كلّ منهما حُر ولا يخضع لقوانين)، كلّ مخلوق مقيّدٌ بالضرورة بحدود خلقتهِ وتكوينه، فهو لم يوجد نفسه ولا يمتلكُ لها البقاء كما ليس بمقدورهِ أن يختار لها الفناء، فالمخلوقُ مضطرٌّ في وجودهِ لخالقه ولذلك لا يخرجُ عن كونه عبداً مملوكاً بحسب طبيعته التكوينية، وبمعنى آخر ليس الخالق علةً لوجود المخلوق فقط وإنما علةٌ لبقائه أيضاً، فلا يكفي أن يكون ابليس بحاجة لله ليخرجهُ من طور العدم إلى طور الوجود، وإنما هو أيضاً في حاجة إليه ليستمرَّ في هذا الوجود، وعليه لا شيء من مخلوقاتِ الله خارج عن قدرته وسلطانه.
أمّا الحرية التشريعية فهي موهبةٌ إلهية تفضّل الله بها على جميع من كلفه بالعبادة اختياراً، والحرية بهذا المعنى لا تعني الخروج عن سلطان الله وهيمنته، كما لا تعني الخروج عن المسؤولية والمحاسبة على ما يختاره المكلف، وابليس ليس إلا عبداً خيّرَه الله بين العبادة والكفر، فامتحنهُ تعالى بالسجود لآدم ولم يجبرهُ على ذلك وإنما جعلَ الأمر باختياره، فرفض ابليسُ واستكبر فطردهُ الله من رحمته، قال تعالى: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ)، وعليه فإن ابليس حرٌّ في أن يعبد الله أو أن لا يعبد حاله في ذلك حال كلّ إنسان ولكنه مسؤولٌ عن اختياره، قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ).
يقول: (كلّ منهما لا يمرض ولا ينام)، النوم والمرضُ من عوارض المخلوقاتِ الجسمانية، وعليه فإنّ ابليس إن كان لا يمرضُ ولا ينام فإنّ ذلك لكونه ليس جسداً كما الإنسان، وهذا حالُ مخلوقاتٍ أخرى مثل الملائكة والجنّ وليس الأمر حكراً على ابليس.
يقول: (كلّ منهما يمتلك أعواناً تحت إمرته)، الله تعالى لا يحتاجُ إلى أعوان يفتقر إليهم فهو الفعّالُ لما يريد قال تعالى: (إنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، وقال: (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، وكون نظام الخلق قائماً على الأسباب والمسببات لا يعني احتياجَ الله لتلك الأسباب وإنما يعني احتياج المخلوق لها، أي لا يمكن المحافظة على نظام الكون ومن ثم نلقي نظام الأسباب والمسببات، وعليه هناك خلط نابعٌ من التلاعب بطبيعة الشيء الذي تتعلقُ به القدرة، فالله سبحانه قادر ولا يتصفُ بالعجز ولكنّ القصور في المقدور، فالقدرة لا تتعلق بالمستحيلاتِ وإنما تتعلقُ بالممكنات، والمستحيل هنا هو أن تنتفيَ الأسباب من الكون ويبقى ذات الكون كما هو، فكون الله قادراً ومهيمناً يعني أنّ جميع تلك الأسباب والمسببات بيده وقبضته. أمّا ابليس فليس إلا واحداً من المخلوقات وهو بذلك لا يخرج عن كونه سبباً من الأسباب التي قام عليها نظام الوجود وخاصة فيما يتعلق بالإنسان وفلسفة وجوده في الدنيا، وحتى يقوم ابليس بمهامّهِ لا بدّ له من الاستعانة بشياطين الجنّ والإنس ومع ذلك ليس بمقدوره تغييرُ الواقع بحسب ما يرغبُ ويتمنى، فلو كان له سلطةٌ على الخلق لما عبد في الكون عابد.
يقول: (كلّ منهما يعرف مشهد النهاية للحياة)، إذا كان يقصدُ بمعرفة مشهد النهاية للحياة هو أنّ الحياة الدنيا زائلة وأنّ القيامة والبعث حقٌّ، فهذا أمرٌ معروف ومقطوع عند جميع المؤمنين.
وإن كان يقصد معرفة ما يقعُ في ذلك اليوم من حسابٍ وجزاء فإنّ الله أخبر عن ذلك في كتابه المجيد، وإن كان يقصدُ علمهُ بالغيب وما لا يعرفه إلا الله فهذا أدعاءٌ كاذبٌ لم يدّعهِ حتى ابليس لنفسه، قال تعالى: (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)
اترك تعليق