ما علاقة الإحسان في اليتامى ونكاح مثنى وثلاث ورباع؟

سؤال: كان محمّد يقول أمور غير مترابطة مع بعضها كقوله: {وإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا}، لا ندري ما علاقة الإحسان إلى اليتامى بنكاح النسوان وملك اليمين؟!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

قد اثار الزنادقة في التاريخ هذه الشبهة، ومازال المتأثّرون بهم يردّدونها في عصرنا الحاضر، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في ردّه على أحد الزنادقة الذين اشكلوا على هذه الآية بقوله: « بين القول في اليتامى، وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن »، حيث اشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بذلك إلى ترتيب الآيات ووضعها داخل السورة.

والذي يوضح ذلك ما جاء في تفسير علي بن ابراهيم حيث قال: ({وإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) قال: نزلت مع قوله: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}، فنصف الآية في أوّل السورة، ونصفها على رأس المائة وعشرين آية، وذلك أنّهم كانوا لا يستحلّون أن يتزوّجوا يتيمة قد ربّوها، فسألوا رسول الله عن ذلك: فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى قوله: {مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قوله: {ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا} أي لا يتزوّج ما لا يقدر أن تعول) [ينظر تفسير نور الثقلين ج1 ص438].

وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا التفسير يرفع الشبهة من الأساس؛ وذلك لأنّ سياق الآية سيتبدل بالكلّيّة.

إلّا أنّ الكثير من المسلمين قد لا يسلّمون بهذه المرويّات، فيتعيّن علينا رفع الاشكال ضمن السياق الذي وردت فيه الآية كما هي في المصحف الشريف.

وفي هذا المقام نكتفي بما ذكره العلّامة الطباطبائيّ في تفسير الميزان، فقد أوجد العلّامة نوعاً من الترابط المنطقيّ بين آيات سورة النساء وبين الإحسان في اليتامى ونكاحهن، قال:

(كان أهل الجاهليّة من العرب لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب والمقاتل والغيلة والغارة، وكان يكثر فيهم حوادث القتل، ويكثر فيهم الأيتام، وكانت الصناديد والأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن، فيتزوجون بهن، ويأكلون أموالهن إلى أموالهم، ثمّ لا يقسطون فيهن، وربّما أخرجوهن بعد أكل مالهن، فيصرن عاطلات ذوات مسكنة، لا مال لهن يرتزقن به، ولا راغب فيهن فيتزوّج بهن وينفق عليهن، وقد شدّد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث والظلم الفاحش، وأكد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، وقوله تعالى: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}، فأعقب ذلك أنّ المسلمين أشفقوا على أنفسهم كما قيل، وخافوا خوفاً شديداً حتّى أخرجوا اليتامى من ديارهم، خوفاً من الابتلاء بأموالهم، والتفريط في حقّهم، ومَن أمسك يتيماً عنده أفرز حظّه من الطعام والشراب، وكان إذا فضل من غذائهم شيء لم يدنوا منه حتّى يبقى ويفسد، فأصبحوا متحرّجين من ذلك، وسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك، وشكوا إليه، فنزل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فأجاز لهم أن يؤووهم ويمسكوهم إصلاحاً لشأنهم، وإن يخالطوهم فإنّهم إخوانهم، فجلّى عنهم، وفرّج همهم.

إذا تأملت في ذلك، ثمّ رجعت إلى قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}، وهو واقع عقيب قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ..} الآية، اتّضح لك أنّ الآية واقعة موقع الترقّي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة، والمعنى - والله أعلم -: اتّقوا أمر اليتامى، ولا تتبدلوا خبيث أموالكم بطيب أموالهم، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، حتّى أنّكم إنْ خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمات منهم، ولم تطب نفوسكم أن تنكحوهن وتتزوّجوا بهن، فدعوهن وانكحوا نساءً غيرهن، ما طاب لكم مثنى وثلاث ورباع.

فالشرطية - أعني قوله: {وإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} - في معنى قولنا: إنْ لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهن وانكحوا نساءً غيرهن، فقوله: {فَانكِحُوا} سادّ مسدّ الجزاء الحقيقيّذ، وقوله: {مَا طَابَ لَكُم} يغني عن ذكر وصف النساء، أعني لفظ (غيرهن). وقد قيل: {مَا طَابَ لَكُم}، ولم يقل: (من طاب لكم) إشارة إلى العدد الذي سيفصّله بقوله: { مَثْنَى وَثُلاَثَ..} إلخ. ووضع قوله: {وإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} موضع عدم طيب النفس، من وضع السبب موضع المسبّب، مع الإشعار بالمسبّب في الجزاء بقوله: {مَا طَابَ لَكُم}) [تفسير الميزان ج4 ص167].