هل أوصى الإمام الرضا (ع) أن يدفن جنب هارون؟
السؤال: إذا كان هارون الرشيد قد قتل موسى الكاظم، فكيف يوصي علي الرضا ابن موسى الكاظم بأن يدفن بجانب هارون الرشيد قاتل أبيه على حسب ادعائهم، وهذا ما ذكره ابن الأثير، وكذلك وردت هذه الوصية في كتب الشيعة، فقد ورد في كتاب بحار الأنوار: "و في الخرائج روي عن الحسن بن عباد و كان كاتب الرضا ع قال دخلت عليه و قد عزم المأمون بالمسير إلى بغداد فقال يا ابن عباس ما ندخل العراق و لا نراه فبكيت و قلت فآيستني أن آتي أهلي و ولدي قال ع أما أنت فستدخلها و إنما عنيت نفسي فاعتل و توفي في قرية من قرى طوس و قد كان تقدم في وصيته أن يحفر قبره مما يلي الحائط بينه و بين قبر هارون ثلاث أذرع". فلا يوصى الرجل أن يُدفن بجوار رجل ميت ، إلا وكان هذا الميت من الصالحين الاتقياء .. وهذا ما فعله علي الرضا إبن موسى الكاظم.
الجواب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أولاً: لا يخفى أنّ المأمون العباسيّ – وهو في الحقيقة خؤون وليس مأموناً – قد أجبر الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) على قبول ولاية العهد – كما هو معروف في كتب التاريخ والسيرة –. وهذا المنصبُ الحكوميّ يرتبط بشكل مباشر بالسلطان نفسه؛ باعتباره وليّ العهد من بعده لاستلام زمام الحكم.
ومن الواضح، أنّ أولى الناس بمَن له مثل هذا المنصب – حسب الأعراف الحكوميّة – هو سلطان ذلك الوقت؛ باعتبار أنّ الميت هو وليّ عهده، فيكون تجهيزه وغسله وتشييعه ودفنه بأمره وتحت نظره. ولهذا نجد الروايات والأخبار التاريخيّة تبيّن جريان تجهيز ودفن الإمام (عليه السلام) بأمر المأمون نفسه وتحت إشرافه ونظره.
ثانياً: الروايات المعصوميّة وكلمات المؤرّخين صريحة وواضحة في أنّ دفنَ الإمام الرضا (عليه السلام) بجانب هارون، كان بأمرٍ مباشر من نفس المأمون، فإنّه أراد توهين أمر الإمام (عليه السلام) وإعلاء شأن أبيه، بجعل قبر أبيه متقدّماً وقبلةً على قبر الإمام (عليه السلام)، ولكن شاءت الإرادة الإلهيّة خزيه، فما صلحت الأرض للدفن إلّا قدَّام قبر هارون ليكون قبر الإمام (عليه السلام) قبلةً له.
ولنذكر بعض الروايات وكلمات المؤرّخين:
فمن الروايات:
ما رواه الشيخ الصدوق عن محمّد بن الفضيل قال: « أخبرني مَن سمع الرضا - عليه السلام - وهو ينظر إلى هارون بمنى أو بعرفات، فقال: أنا وهارون هكذا، وضمّ بين إصبعيه، فكنّا لا ندري ما يعني بذلك؟ حتّى كان من أمره بطوس ما كان، فأمر المأمون بدفن الرضا - عليه السلام - إلى جنب هارون » [عيون أخبار الرضا ج2 ص247].
وما رواه غير واحد عن هرثمة بن أعين، عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: « اعلم أنّني بعد أيّام آكل عنباً ورماناً مفتوتاً فأموت، ويقصد الخليفة أن يجعل قبري ومدفني خلف قبر أبيه الرشيد، وإنّ الله تعالى لا يقدره على ذلك، فإنّ الأرض تشتدّ عليهم، فلا يستطيع أحد حفر شيء منها... » قال هرثمة: فو الله، ما طالت الأيام حتّى أكل عنباً ورماناً كثيراً فمات... ثمّ أمر الخليفة بأن يحفر له قبر خلف قبر الرشيد، فعجز الحافرون عن الحفر... » [كشف الغمة ج3 ص58، الفصول المهمة ج2 ص1020، مطالب السؤول ص462، وغيرهما].
وما رواه الصدوق عن أبي الصلت الهرويّ، قال: « سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: والله، ما منّا إلّا مقتول شهيد، فقيل له: ومَن يقتلك يا ابن رسول الله؟ قال: شرّ خلق الله في زماني، يقتلني بالسمّ، ثمّ يدفنني في دار مضيقة وبلاد غربة » [عيون أخبار الرضا ج2 ص256].
ومن المؤرّخين:
قال ابن مسكويه: (فأمر به المأمون، فدفن عند قبر الرشيد) [تجارب الأمم ج4 ص141].
وقال ابن أعثم: (فأمر به المأمون أن يدفن عند قبر أبيه الرشيد، وصلّى عليه المأمون) [الفتوح ج8 ص424].
وقال ابن الجوزيّ: (فصلّى عليه المأمون، وأمر بدفنه عند قبر أبيه الرشيد) [المنتظم ج10 ص115].
وقال ابن الأثير: (فصلّى المأمون عليه، ودفنه عند قبر أبيه الرشيد) [الكامل في التاريخ ج6 ص351].
وقال ابن خلكان: (وصلى عليه المأمون ودفنه ملاصق قبر أبيه الرشيد) [وفيات الأعيان ج3 ص270].
وقال ابن العبريّ: (فدفنه المأمون عند قبر أبيه الرشيد) [مختصر تاريخ الدول ص134].
ويلاحظ أيضاً: المختصر في أخبار البشر ج2 ص23، الوافي بالوفيات ج22 ص155، مرآة الجنان ج2 ص10، نهاية الأرب ج22 ص210، وغيرها.
فهذه الروايات والأخبار صريحة وواضحة في أنّ دفن الإمام (عليه السلام) قرب هارون كان بأمرٍ من المأمون نفسه.
ثالثاً: إنّ الإمام الرضا (عليه السلام) – كغيره من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) – كان عارفاً بقاتله ومكان دفنه، وذلك بتعليم من الله تعالى وإخبار من آبائه وأجداده الطاهرين (عليهم السلام). وقد أخبر بأنّه سيُدفن بجانب هارون، وستظهر كرامة الله تعالى لحجّته – كما أفادت الروايات المتقدّمة وغيرها –.
كما أخبر أيضاً بعض خلّص أصحابه بما ينبغي أن يُفعل عند دفنه، كمكان الحفر، وتلاوة بعض الأدعية، ونحو ذلك، ولنذكر في المقام رواية واحدة:
روى الشيخ الصدوق عن هرثمة بن أعين عن الإمام الرضا (عليه السلام) – في خبر طويل –، قال له: « .. فضعني على نعشي واحملني، فإذا أراد أن يحفر قبري فإنّه سيجعل قبر أبيه هارون الرشيد قبلةً لقبري، ولا يكون ذلك أبداً، فإذا ضربت المعاول ينب عن الأرض، ولم يحفر لهم منها شيء، ولا مثل قلامة ظفر، فإذا اجتهدوا في ذلك وصعب عليهم، فقل له عنّي: إنّي أمرتُك أن تضرب معولاً واحداً في قبلة قبر أبيه هارون الرشيد، فإذا ضربت نفذ في الأرض إلى قبر محفور وضريح قائم، فإذا انفرج القبر فلا تنزلني إليه حتّى يفور من ضريحه الماء الأبيض، فيمتلئ منه ذلك القبر، حتّى يصير الماء مساوياً مع وجه الأرض، ثمّ يضطّرب فيه حوت بطوله، فإذا اضطرب فلا تنزلني إلى القبر، إلّا إذا غاب الحوت وأغار الماء فأنزلني في ذلك القبر وألحدني في ذلك الضريح، ولا تتركهم يأتوا بترابٍ يلقونه عليّ، فإنّ القبر ينطبق من نفسه ويمتلئ... »، وأخبر هرثمة أنّه حصل الأمر كما أخبر الإمام (عليه السلام) في حكاية مفصّلة [عيون أخبار الرضا ج2 ص275]. وفي المقام رواية مفصّلة أخرى عن أبي الصلت الهرويّ [عيون أخبار الرضا ج2 ص271]، ونقلها أبو الفرج الأصفهانيّ عن الهرويّ بإيجاز [مقاتل الطالبيين ص380].
هذه الكرامة الإلهيّة، وهذا الإخبار الغيبيّ، هو المقصود بالوصيّة في رواية قطب الدين الراونديّ، فإنّه ذكر – ضمن معجزات الإمام الرضا (عليه السلام) –: « ومنها: ما روى الحسن بن عبّاد – وكان كاتب الرضا (عليه السلام) – قال: دخلت على الرضا (عليه السلام)، وقد عزم المأمون بالمسير إلى بغداد، فقال: يا ابن عبّاد، ما ندخل العراق ولا نراه، قال: فبكيت، وقلت: آيستني أن آتي أهلي وولدي، قال (عليه السلام): أمّا أنت فستدخلها، وإنّما عنيت نفسي. فاعتلّ وتوفي بقرية من قرى طوس، وقد كان تقدّم في وصيّته أن يحفر قبره ممّا يلي الحائط، وبينه وبين قبر هارون ثلاثة أذرع، وقد كانوا حفروا ذلك الموضع لهارون، فكسرت المعاول والمساحي، فتركوه، وحفروا حيث أمكن الحفر، فقال: احفروا ذلك المكان، فإنّه سيلين عليكم... » [الخرائج والجرائح ج1 ص376].
ومن الواضح أنّ المراد بـ(الوصيّة) – بقرينة ما بعده في قوله: « وقد كان تقدّم في وصيّته أن يُحفر قبره ممّا يلي الحائط.. » –: هو ما أخبر به الإمام (عليه السلام) بعضَ خيرة أصحابه من أنّ المأمون سيدفنه عند أبيه هارون، ويجعله قبلة له، ولكن الأرض ستكون عصيّة على الحافرين، فلا يُحفر إلا قدّام قبر هارون، كما أخبرهم بأن ينتظروا وأن لا يهيلوا التراب وغير ذلك ممّا أُشير له في الروايات.
وليس المراد أنّ الإمام أوصاهم أن يدفنوه بجانب هارون بالخصوص، وأنّ المأمون نفّذ وصيّة الإمام (عليه السلام) بدفنه بجانب هارون، فإنّه لا وجود لذلك في شيء من الروايات وكلمات المؤرّخين، فقد تقدّم نقل جملةٍ منها، وهي صريحة وواضحة في أنّ الدفن بجوار هارون كان بأمرٍ من المأمون، ولم يذكروا أنّ ذلك كان تنفيذاً لوصيّة الإمام (عليه السلام).
وبهذا يتبيّن أنّ ما يروّج له بعضُ الوهّابيّة – من أنّ الإمام أوصى بدفنه بجانب هارون – غير صحيح، وناشئ عن فهم مغلوط ومعوج.
رابعاً: إنّ لله تعالى ملائكةً نقّالة، ينقلون الأموات إلى الأماكن المناسبة لهم، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ لله ملائكةً ينقلون أموات العباد حيث يناسبهم ». قال السيّد اللاريّ: (الأخبار المستفيضة أو المتواترة بوجود الملائكة النقّالة للأموات إلى ما يستحقّونه بصالح أعمالهم أو سوء أفعالهم من الأمكنة الشريفة أو الخبيثة) [التعليقة على الرياض ص295]. وقال الشيخ النقديّ: (ورد: أنّ المؤمنين يُحشرون من وادي السلام، وغيرهم من حضر موت. وورد: أنّ وادي السلام جنّة الدنيا للمؤمنين. وورد: لم يمت مخالفٌ في أرضٍ شريفة إلّا حملته الملائكة النقّالة) [الأنوار العلوية ص431-432]. وقد كتبنا في جوابٍ سابق عن الملائكة النقالة فيمكن مراجعته.
ولا شكّ في أنّ هارون من رؤوس الضلالة والطغيان، ومصيره إلى وادي برهوت بحضرموت – كما نصّت الروايات –.
خامساً: لو سلّمنا أنّ الإمام (عليه السلام) أوصى بدفنه عند هارون، فإنّ ذلك لا يدلّ على صلاح ورشد هارون؛ لأنّنا نعلم شيئين علماً يقينيّاً: الأوّل: أنّ هارون كان طاغية متجبّراً، وسيرته مليئة بالجرائم التي ارتكبها بحقّ العلويّين خصوصاً والشيعة عموماً، وأعظم فظائعه وجرائمه قتله الإمام الكاظم (عليه السلام)، فعاقبته – بلا شكّ – الخزي والعار الأبديّ. والثاني: أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) معصومٌ، فلابدّ في فعله من حكمةٍ سواء علمناها أو لا.
وحينئذٍ، وصيّة الإمام (عليه السلام) – لو سلّمناها – ليست كاشفة بشكل يقينيّ عن صلاح هارون؛ لأنّ هذا الفعل مجمل، والاحتمالات في سببه كثيرة، فهي لا تكشف عن صلاحه، ولا يمكن رفع اليد عن فساد هارون الثابت بالقطع واليقين، بسبب فعلٍ يحتمل وجوهاً كثيرة.
ويستحسن في المقام ذكر بعض الأبيات لاثنين من الشعراء:
الأول: شعر دعبل الخزاعي:
روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن الشاعر المعروف دعبل بن عليّ الخزاعيّ، قال: جاءني خبر موت عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) وأنا مقيم بقم، فقلت قصيدتي الرائية في مرثيته (عليه السلام):
أرى أميّةَ معذورين إنْ قتلوا * * ولا أرى لبني العباس من عذر
أولاد حرب ومروان وأسرتهم * * بني معيط ولاة الحقد والوغر
قوم قتلتم على الإسلام أوّلهم * * حتّى إذا استمكنوا جازوا على الكفر
اربع بطوس على قبر الزكي به * * إنْ كنت تربع من دين على وطر
قبران في طوس خير الناس كلّهم * * وقبر شرّهم هذا من العبر
ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا * * على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرئ رهن بما كسبت * * له يداه فخذ ما شئت أو فذر [عيون أخبار الرضا ج2 ص281، الأمالي ص759].
ونقل الشيخ المفيد والطوسي والمرزبانيّ: أنّه أقدم المأمون دعبل بن علي الخزاعيّ – رحمه الله –، وآمنه على نفسه، فلمّا مثل بين يديه، وكنتُ جالساً بين يدي المأمون، فقال له: أنشدني قصيدتك الكبيرة، فجحدها دعبل، وأنكر معرفتها، فقال له: لك الأمان عليها كما أمنتك على نفسك، فأنشده:... قال: فضرب المأمون بعمامته الأرض وقال: صدقت والله يا دعبل [الأمالي ص324، الأمالي ص101، مختصر أخبار شعراء الشيعة ص98].
وهذه القصيدة معروفة مشهورة عند الخاصّة والعامّة، ينظر: ديوان دعبل ص198، دلائل الإمامة ص357، روضة الواعظين ص236، مناقب آل أبي طالب ج3 ص468، تاريخ دمشق ج17 ص260، معجم البلدان ج4 ص50، المجدي في أنساب الطالبيين ص128، زهرة الآداب ج1 ص133، وغيرها.
الثاني: شعر الضبيّ:
وقد قال محمّد بن حبيب الضبيّ شعراً في رثاء الرضا (عليه السلام)، وجاء فيه:
قبران في طوس الهدى في واحدٍ * * والغيّ في لحدٍ يراه ضِرامُ
قبران مقترنان هذا ترعة * * جنويّة فيها يُزار إمامُ
وكذاك ذلك من جهنّم حفرة * * فيها يجدّد للغوي هيامُ
قرب الغويّ من الزكي مضاعٍفٌ * * لعذابه ولأنفه الإرغامُ
إنْ يُدنَ منه فإنّه لمباعدٌ * * وعليه من خلع العذاب ركامُ
وكذاك ليس يضرّك الرجسُ الذي * * يدنيه منك جنادلُ ورخامُ
لا بل يريك عليك أعظم حسرة * * إذ أنت تُكرَم واللعين يُسَامُ
سوء العذاب مضاعف تجري به * * الساعات والأيام والأعوامُ
ينظر: عيون أخبار الرضا ج2 ص283، مناقب آل أبي طالب ج3 ص468.
والحمد لله رب العالمين
اترك تعليق