لماذا عذّب الله بعض الأقوام في الدنيا لكفرهم ولم يعذّب أقوام كافرة اُخرى؟

السؤال: سؤال وجّهه لي أحد الربوبيّة: الله في القران عذّب قوم لوط وقوم عاد في الدنيا قبل الحساب، فلماذا عذّب هؤلاء في الدنيا قبل الآخرة وهناك أقوام اُخرى كافرة ومع ذلك لم تعذّب في الدنيا؟ أليس من حقّ تلك الأقوام أنْ تعترض وتقول: نحن مظلومون وهناك ترجيح ليس له مبرّر؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

أولاً: يبدو أنّ السائل يقصد عذاب الاستئصال أو الهلاك العامّ للأمم، وقد حصل هذا النوع من العذاب في الأمم السابقة مثل قوم لوط وعاد وثمود ونوح، ولم يحصل هذا النوع من العذاب بعد إنزال التوراة على موسى (عليه السلام)، أي أنّ الله تعالى لم يهلك أمّة من الأمم بعد نزول التوراة، قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى)، وقال تعالى: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً)، وقد كان أَخْذُ فرعون والذين من قبله قبل نزول التوراة وبعد ذلك لم يعذّب الله تعالى قوماً بالهلاك والاستئصال.

ثانياً: أنّ الأصل في حصول الحساب والعقاب أنْ يحصل ذلك يوم القيامة، ومع ذلك قد تستوجب بعض الذنوب عقاباً في الدنيا والآخرة معاً، قال تعالى: (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)، والملاحظ أنّ الآيات لم تتحدّث عن مطلق الكفّار وإنّما تحدّثت عن الكفار الذين يقومون بمشروع مضادٍّ لمشروع الإيمان، فتارة يكون الكافر في حدود نفسه ليس له موقفٌ مضادٌّ للمؤمنين، واُخرى يعمل الكافر بكلِّ جهده للمكر بالمؤمنين والصدّ عن سبيل الله، وقد أكّدت الآيات أنّ هذا النوع من الكفر يستحقّ عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وليس بالضرورة أن يكون عذاب الدنيا عذاب هلاكٍ واستئصالٍ، فإذا كان الله رفع عذاب الاستئصال فهذا لا يعني أنّه رفع جميع أنواع العذاب والعقاب، وقد تحدّثت الآيات عن أنواع اُخرى للعذاب يحصل في الدنيا غير عذاب الاستئصال، قال تعالى: (فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، فالخزي نوع من العذاب يصيبُ اللهُ تعالى به بعض الأمم في الحياة الدنيا، ومن الاسباب الموجبة لهذا النوع من العقاب هي الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر، يقول تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعليه فلا يمكننا الحكم على بعض الأمم الكافرة التي لم تستأصل أنّها سلمت من عذاب الدنيا، فقد يصيبها الله تعالى بأنواع من العذاب غير الاستئصال والهلاك، فليس هناك ضمانة لأيّ أمّة من الأمم وفي أيّ زمان ومكان من وقوع بعض العقاب عليهم في الدنيا قبل الآخرة.

فَحِكْمَةُ الله تعالى اقتضت أنْ يُعَجّلَ بالعقوبة لبعض الذنوب، ويؤخّرها لذنوب اُخرى رحمةً منه لمن يريد التوبة والرجوع، قال تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ)، وقال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)

ثالثاً: استئصال الله لبعض الأمم لم يكن عبثاً وإنّما لحِكمة يعلمها الله تعالى، فكلّ مَنْ وقع عليه العذاب كان مستحقّاً لذلك ولا يظلم ربّك أحداً، قال تعالى: (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وليس بالضرورة أنْ نقف تفصيلاً على حِكمة ذلك وإنْ كانت بعض الآيات أشارت إلى تلك الحِكمة، إذْ قال تعالى في قصة نوح مع قومه: (إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)، فبعد أنْ ينقطع الأمل في هدايتهم ولا يؤمّل أنْ يأتي من نسلهم مؤمن حينها يستحقّوا عقاب الاستئصال.

وكذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ)، فقد تحدّثت هذه الآيات عن الذين وقع عليهم العذاب في الدنيا، ثم بيّنت الآية أنّ ذلك علامةٌ وآيةٌ لعذاب الآخرة، فالعاقل الذي يرى أخذ الله تعالى للقرى الظالمة بتلك الطريقة الشديدة والأليمة لا بدّ أنْ يخاف عذابه يوم القيامة، ولاسيّما أنّ عذاب الآخرة ليس ببعيد وإنّما يؤخّره الله تعالى لأجَل معدود.

وعليه، فمن الحِكْمَةِ في تعجيل العقوبة لبعض الأقوام بعد أنْ ينقطع الأمل في هدايتهم، أنْ يبقى أثرها وخبرها عبرةً للأمم اللاحقة، قال تعالى: (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، ويقول تعالى: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ)

والله أعلم.