هل الإسلام متناقض في رؤيته ما بين السلم والعنف؟

السؤال: المثنويّة هي جوهر الإسلام ، ودائماً تجد فيه فكرتين متناقضتين لكنّه يسمح بهما بحسب حاجته! فتجد آيات وأحاديث تتحدّث عن السلام ثمّ تجد غيرها تتحدّث عن القتل وقطع الأعناق! فالإسلام دين مُسالِم عندما تتطلّب الظروف أن يكون كذلك ثمّ يتوحّش عندما تتغيّر الظروف ، فلا يمتلك معياراً ثابتاً. بيل وارنر

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من الإشارة إلى خلفيّة كاتبه، فبيل وارنر كاتب أمريكيّ له كتابات في نقد الإسلام السياسيّ، وقد أسّس لهذا الغرض مركزاً خاصّاً أسماه «مركز دراسة الإسلام السياسيّ»، فالكاتب لا يحمل عداءً للإسلام كإيمان شخصيّ وقرار فرديّ، بل يدعو إلى ضرورة معاملته باحترام وتسامح، وبالتالي مشكلته الأساسيّة تكمن في عداءه للإسلام السياسيّ، ولذا يستند في كتاباته على فرضيّة مفادها أنّ الإسلام كمفهوم سياسيّ يشكّل خطراً يجب تحديده.

ونحن في معرض الإجابة عن هذا السؤال لن نعقد معه نقاشاً حول هذا المدّعى، وإنّما نكتفي بنفي التناقض الذي أشار إليه في دعوة الإسلام إلى السلم ودعوته إلى العنف في الوقت نفسه، وسوف نكتفي بمحاكمة هذا المدّعى بحسب ما جاء في النصوص الدينيّة بوصفها المرجعيّة الوحيدة لما يتبنّاه الإسلام، أمّا الممارسات السلوكيّة للمسلمين وما يقع فيها من أخطاء، فإنّ الإسلام غير مسؤول عنها مادام لم يأمر بها في نصوصه.

وعليه، فمن الخطأ محاكمة الفكر السياسيّ الإسلاميّ من خلال التجربة السياسيّة للمسلمين.

وقد أكّدنا في إجابة سابقة على ضرورة التفريق بين الإسلام الذي تعبّر عنه النصوص الواردة من المُشرّع وهي القرآن والسنّة، وبين الإسلام كفهم وممارسة من خلال التجربة التاريخيّة للمسلمين، فعلى مستوى النصوص الدينيّة لا وجود لأيّ منشأ للعنف والقتل وقطع الأعناق، فالأصل في الإسلام الذي يجب أنْ يحكم ويسود هو السلام، وهذه هي القاعدة الأوليّة الأساسيّة، أمّا الحرب والقتال فمستثنيان في ضمن ظروف خاصّة وضوابط صارمة، وقد صرّح القرآن بذلك عندما دعا المؤمنين كافّة بالدخول في السلم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾، فمفهوم الآية صريح بأنّ العنف والتعدّي من عمل الشيطان لكونه معارضاً للدخول في السلم.

وإذا كان الأصل في الإسلام هو (السلام) وشعاره (السلام)، فحينها نفهم أنّ الجهاد شُرّع لظرف خاصّ وضمن ضوابط خاصّة، قال تعالى:﴿ وقاتلوا في سبيلِ اللهِ الذينَ يُقاتلونَكم ولا تعتدوا إنَّ اللهَ لا يحبُّ المُعتدين ﴾، فالظّاهر من الآية أنّها جعلت عدم الاعتداء هو الأصل وجعلت القتال استثناء في إطار ردّ المعتدي، فالآية حرّمت بشكل واضح وصريح الاعتداء ولم تسمح بالقتال إلّا في قبال الظالم والمعتدّي.

وقد يشتبه على البعض قوله تعالى:﴿ وقاتلوا المُشركينَ كافّةً كما يقاتلونَكم كافّة﴾ على أنّها دعوة مطلقة لمقاتلة المشركين، إلّا أنّ هذا الفهم غير صحيح، فالآية أمرت بقتال المشركين لكونهم مقاتلين لا لكونهم مشركين، فحال لسان الآية يقول: لأنّ المشركين يقاتلونكم كافّة فقاتلوهم كافّة.

فالإسلام يجيز الجهاد والقتال إذا كان قائماً على أساس الحقّ وردّ الظلم ونصرة المستضعفين، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصرِهِم لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَولَا دَفعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَّهُدِّمَت صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. وقالَ تعالى: ﴿وَمَا لَكُم لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالمُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخرِجنَا مِن هَٰذِهِ القَريَةِ الظَّالِمِ أَهلُهَا وَاجعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾، والدليل على أنّ الأصل في القرآن هو السلام وليس الحرب والقتال هو الأمر بترك القتال فوراً في حال توقّف الطرف الآخر عن الاعتداء. قال تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾، وقال تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾.

والذي يؤكّد بأنّ الإسلام يجيز القتال في حال ردع الظالم والمعتدي قوله تعالى: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ۚ فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ۚ وَأُولَـٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا﴾، أي أنّ الله منح المسلمين سلطاناً في قتل الذين لم يعتزلوهم ولم يُلقوا إليهم السلم ولم يكفّوا أيديهم عن المسلمين.

وفي المحصّلة، ليس الأمر كما تصوّره بيل وارنر؛ فالإسلام لا يدعو إلى العنف في حالة القوّة والاقتدار، بل يدعو إلى السلم في حالة الضعف والعجز، فيجعل السلم والأمان هما الأصلان سواء أكان المسلم قويّاً أم ضعيفاً، وفي المقابل يوجب على المسلم الجهاد وردّ المعتدي، ولا يُجوّز للمسلم الاعتذار عن القيام بواجبه بسبب الضّعف وقلّة الحيلة، فالمسلم مكلّف بعدم قبول الظلم والاعتداء في كلّ الأحوال، يقول تعالى: ﴿مَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ﴾، وقد أمر الله المؤمنين بالجاهزيّة الدائمة لتشكيل حالة من الردع تمنع المخالفين من الاعتداء عليهم، يقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ والإرهاب هنا بمعنى الردع والتخويف وليس بمعنى الاعتداء الفعليّ على غير المعتدين.

وعليه، فليس هناك تناقض في الإسلام بين السلم والعنف، وإنّما هناك أصلٌ هو السلم، وهناك استثناء وهو مواجهة المعتدي وعدم الاستسلام له.