علم الأصول عند الشيعة

السؤال: الشيعة بعد القرن السابع الهجري هجروا الأخبار وسلكوا مسالك اهل الخلاف وصاروا يتفاخرون بأنهم أصوليون ويتسابقون على نقض الأخبار بالأصول، مع أن علم الأصول هذا من مبتدعات أهل الخلاف الذين نهينا عن الأخذ عنهم ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام : يا كميل لا تأخذ إلا عنا تكن منا .

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إنّ علم الأصول يتضمّن مجموعة من القواعد والعناصر الدخيلة في عملية استنباط الحكم الشرعيّ، وذلك أنّ الفقيه عندما يريد استخراج الحكم الشرعيّ لمسألة ما، يفحص في الأدلّة الشرعيّة إنْ كان يوجد دليل يمكن استفادة الحكم الشرعيّ منه:

1ـ فإنْ ظفر بالدليل، كما لو كان في المقام حديث يدلّ على الحكم، فيلاحظ حاله من ثلاث جهات:

أـ هل صدور الحديث عند المعصوم (عليه السلام) ثابت؟

ب ـ هل دلالة الحديث على الحكم ثابتة؟

ج ـ هل هناك أدلّة معارضة لهذا الحديث؟ وهل الأدلّة المعارضة تامّة صدوراً ودلالة؟ وكيف يمكن معالجة التعارض؟

2ـ وإنْ لَـمْ يظفر بالدليل، فهناك قواعد لتحديد الوظيفة العمليّة للمكلّف، كالاستصحاب والاحتياط والتخيير والبراءة.

فعلم الأصول هي تلك القواعد التي يبتني عليها الاستدلال الفقهيّ، فكلّ مَن يريد الاستنباط عليه أن يعتمد على مجموعة من القوانين في عملية الاستنباط؛ إذْ مع عدم وجود قواعد تقنّن عمليّة الاستنباط وتضبط حدوده سيكون عشوائياً.

وهذا يعني أنّ الاعتماد على القواعد الأصوليّة ليس محصوراً بعلمائنا الأصوليّين فحسب، بل حتّى علمائنا الأخباريّين يعتمدون عليها، وخذ مثلاً: كتاب (الحدائق الناضرة) للمحدّث البحرانيّ، فإنّه قدّم لها بمقدّمات تتضمّن جملة من القواعد الأصوليّة.

ومن ذلك يُعلم: أنّه لا خلاف بين الأصوليّين والأخباريّين في ضرورة علم الأصول، وإنّما في بعض المسائل الأصوليّة، وإنْ كان الخلاف في هذه المسائل لا يشكّل مائزاً بين فئتين؛ لأنّ الخلاف فيها قد وقع حتّى بين الأصوليّين أنفسهم وكذلك بين الأخباريّين، كما نبّه على ذلك جملة من الأعلام، ومنهم المحدّث البحرانيّ في مقدّمات الحدائق.

ويتبيّن ممّا تقدّم: أنّ مباحث علم الأصول هي:

1ـ مباحث الألفاظ: ويبحث فيها عن دلالة الألفاظ من الأوامر والنواهي والعمومات والإطلاقات والمفاهيم وغيرها.

2ـ مباحث الحجج: ويبحث فيها عن حجية الخبر والإجماع ونحوها.

3ـ مباحث التعارض: ويبحث فيها تحديد الموقف عند وقوع التعارض بين الأدلة.

مباحث الأصول العملية: وهي القواعد التي تحدد الموقف العمليّ عند الشكّ وعدم وجود حجّة معتبرة.

إذا عرفتَ هذا، فنقول:

لا إشكال أنّه كان في زمن الأئمّة (عليهم السلام) فقهاء يرجع إليهم الشيعة لأخذ الحكم الشرعيّ، مثل أبان بن تغلب الذي يقول فيه الإمام الباقر (عليه السلام): « اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك » [رجال النجاشي ص10].

وذلك أنّ الأئمّة (عليهم السلام) كان لهم مجلس تعليميّ لخاصّة أصحابهم، يعلّمونهم كيفيّة الاستنباط، ومن نماذج ذلك: ما ورد عن زرارة بن أعين قال: « قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك ثمّ قال: .. {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فعرفنا حين قال: {بِرُءُوسِكُمْ} أنّ المسح ببعض الرأس؛ لمكان الباء.. » [الكافي ج3 ص30]، فيلاحظ أنّ زرارة لا يسأل عن الحكم وإنّما يسأل عن مدرك الحكم، فيجيبه الإمام بأنّ الحكم يُستفاد من القرآن الكريم بالتقريب المذكور.

ومن نماذج ذلك: ما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام): « إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله » [الكافي ج1 ص60]، وهذا تنبيهٌ منه (عليه السلام) للأصحاب بأن يسألوه عن مدرك ودليل الحكم، وذلك بُغية تعليمهم كيفية الاستنباط والاستدلال.

ومنها أيضاً: ما ورد عن إسحاق بن عمّار قال: « قال لي أبو الحسن الأوّل (عليه السلام): إذا شككتَ فابنِ على اليقين، قال: قلتُ: هذا أصل؟ قال: نعم » [الفقيه ج1 ص351]، فيلاحظ أنّ الإمام بيّنَ لإسحاق قاعدةً كليّة، فاستفسر منه إنْ كان أصلاً كليّاً يُرجَع له، فأجابه بالإيجاب.

وقد كان هؤلاء الفقهاء يعيشون في بلدان مختلفة كالكوفة والمدينة وقم والأهواز وغيرها، ومن الطبيعيّ أنّهم لا يرجعون للأئمّة (عليهم السلام) في كلِّ حكم شرعيّ، وذلك أنّهم تعلّموا منهم (عليهم السلام) كيفيّة الاستنباط وردّ الفروع إلى الأصول، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): « إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرّعوا »، ونحوه عن الإمام الرضا (عليه السلام) [مستطرفات السرائر ص109].

ولا بدّ أن هؤلاء الفقهاء كانوا يلاحظون إنْ كان راوي الحديث موثوقاً به أو لا، ويلاحظون إنْ كان هذا الحديث يدلّ على الحكم الشرعيّ أو لا، ويلاحظون أيضاً إنْ كان هناك حديثاً يعارضه أو لا؛ كما في مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يبيّن كيفيّة ترجيح ومعالجة الأخبار المتعارضة [ينظر الكافي ج1 ص67].

والملاحظ أنّ كثيراً من المسائل الأصوليّة قد وردت فيها نصوص شرعيّة من الآيات والروايات؛ كحجّيّة الأخبار، وعدم حجّيّة القياس، وترجيح الأخبار، والاستصحاب، والبراءة، والاحتياط، وغيرها. وقد صنّف جماعةٌ من العلماء كتباً جمعوا فيها النصوص الشرعيّة التي يستفاد منها قواعد أصوليّة، كالعلّامة السيّد عبد الله شبّر (قدّس سرّه) فإنّه صنّف كتاباً قال في مقدّمته: « هذه أوراق قليلة قد اشتملت على فوائد جليلة، وتضمّنت استنباط مهمّات المسائل الأصوليّة - التي تُستنبَط منها الأحكام الشرعيّة الفرعيّة - من الآيات القرآنية و الأخبار المعصوميّة » [الأصول الأصليّة ص5]، وقد طبع الكتاب في أكثر من 300 صفحة.

فالأئمّة (عليهم السلام) كان لهم الدور الرياديّ في تعليم الأصحاب الأصول والقواعد التي يلزمهم اتّباعها في استنباط الحكم الشرعيّ، وقد نتج عن هذا أن يصنّف أصحابهم كتباً تعدّ من أمّهات مسائل علم الأصول، فمن قدماء أصحابنا الفقهاء ابن أبي عمير [ت217هـ] ويونس بن عبد الرحمن [ت208هـ] فإنّهما صنّفا في (علاج الحديثين المختلفين)، وفي (العامّ والخاص)، بل قيل: سبقهما هشام بن الحكم [ت199هـ] فإنّه صنّف في (الألفاظ)، وهذه العناوين تعدّ من أهمّ مباحث علم الأصول، وجاء من بعدهم غيرهم ممّن صنّف فيه كأبي سهل النوبختيّ وابن الجنيد والمفيد والمرتضى والطوسيّ (قدّست أسرارهم).

قال السيّد حسن الصدر:

« الفصل الخامس: في تقدّم الشيعة في علم أصول الفقه:

فاعلم أنّ أوّل مَن فتح بابه، وفتق مسائله هو باقر العلوم الإمام أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام)، وبعده ابنه أبو عبد الله الصادق (عليه السلام)، وقد أمليا فيه على جماعةٍ من تلامذتهما قواعدَه ومسائلَه، جمعوا من ذلك مسائل رتّبها المتأخّرون على ترتيب مباحثه؛ ككتاب (أصول آل الرسول)، وكتاب (الفصول المهمّة في أصول الأئمة)، وكتاب (الأصول الأصلية)، كلّها بروايات الثقات مسندة متّصلة الإسناد إلى أهل البيت (عليهم السّلام).

وأوّل مَن أفرد بعض مباحثه بالتصنيف هشام بن الحكم شيخ المتكلّمين، تلميذ أبي عبد اللّه الصادق (عليه السّلام)، صنّف كتاب (الألفاظ)، ومباحثها هو أهمّ مباحث هذا العلم. ثمّ يونس بن عبد الرحمن - مولى آل يقطين، تلميذ الإمام الكاظم موسى بن جعفر (عليهما السّلام) - صنّف كتاب (اختلاف الحديث)، وهو مبحث تعارض الدليلين والتعادل والترجيح بينهما..» [الشيعة وفنون الإسلام ص325-]. وقال نحوه في [تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ص310].

وأمّـا عند المخالفين فيعدّ الشافعيّ هو أوّل مَن صنّف في علم الأصول، وهو متأخّر عن هشام بن الحكم كما هو واضح، بل ومتأخّر طبقة عن يونس بن عبد الرحمن، إذ إنّ الشافعيّ ولد سنة [150هـ] بعد وفاة الإمام الصادق (عليه السلام)، بينما أدرك يونس بن عبد الرحمن الإمامَ الصادق (عليه السلام) وإنْ كان وفاتهما متقارباً، ولهذا قال السيّد حسن الصدر: « وحينئذٍ، فقولُ الجلال السيوطيّ في كتاب الأوائل: (أوّل مَن صنّف في أصول الفقه الشافعيُّ بالإجماع) في غير محلّه إنْ أراد التأسيس والابتكار، وإنْ أراد المعنى المتعارف من التصنيف فقد تقدّم على الإمامِ الشافعيِّ في التأليف فيه هشامُ بن الحكم المتكلّم المعروف من أصحاب أبي عبد الله الصادق » [تأسيس الشيعة ص310].

وبهذا تبيّن: أنّه لَـم يثبت أنّ مؤسّس علم الأصول من أهل السنّة، بل الصحيح أنّ الأئمّة (عليهم السلام) هم المؤسّسون، والشيعة هم أوّل المصنّفين فيه.

وتبيّن أيضاً: أنّ العمل بالأصول في الاستنباط عند الشيعة لَـم يبدأ من القرن السابع – كما جاء في السؤال -، بل يعود إلى القرن الثاني، وذلك بتعليمٍ من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، ثمّ مروراً بالسيّد المرتضى [ت436هـ] والشيخ الطوسيّ [ت460هـ]، ويعدّ كتاباهما (الذريعة والعدّة) من أبسط الكتب الأصوليّة.

وتبيّن أيضاً: أنّه لا خلاف بين علمائنا الأصوليّين والأخباريّين في أنّ الاستنباط يكون وفق القواعد الأصوليّة، وإنّما الخلاف في بعض المسائل، والتي وقع الخلاف فيها بين العلماء الأصوليّين أنفسهم والأخباريّين أنفسهم، كما نبّه جملة من العلماء.

والحمد لله ربّ العالمين.