هل ترك أمير المؤمنين (ع) تعليم الناس أحكام دينهم؟

السؤال: يقول الشيعة أنّ أغلب الأحكام الشرعيّة انتشرت في عصر الصادقين (الباقر والصادق)، وهذا يعني إنّ باب مدينة العلم عليّ ترك الناس جهّالاً في الأحكام الشرعيّة وكذلك الحسن والحسين والسجاد.. الخ.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

يمكن الإجابة بشكل مختصر بأنّ علوم أهل البيت ومعارفهم واحدة، وما نشره الإمامان الباقر والصادق (سلام الله عليهما) هي ما ورثوه عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وليس هناك اختلاف بين الأئمّة من أهل البيت إلّا بمقدار الظروف التاريخيّة التي تسمح لبعض الأئمّة القيام بدورهم ولا تسمح للبعض الآخر.

ومع أنّ الظرف الذي كان فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) صعب، إلّا أنّه أفاض على الأمّة من العلوم والمعارف ما لـم يُفِضه غيره من الصحابة، وقد اعترف أهل العلم والاختصاص بفضل أمير المؤمنين ودوره في نشر العلوم والمعارف الإسلاميّة، فما من مسألة وفي جميع الأبواب العلميّة وعند جميع المذاهب إلّا وتجد لأمير المؤمنين (ع) رأياً فيها.

فإنّ هذه الإشارة كافية في الإجابة عن هذا السؤال إلا أنّنا فضّلنا التفصيل ولو بشكل مبسّط لمن أراد ذلك، فنقول:

أوّلاً: أجمعت الشيعة على تواتر حديث: « أنا مدينة العلم وعليّ بابها »، وصرّح بعضُ علماء أهل السنّة بصحّته مثل يحيى بن معين، ومحمّد بن جرير الطبريّ، والحاكم النيسابوريّ، وجلال الدين السيوطيّ، ومَن أراد التفصيل يمكنه الرجوع إلى كتاب (الغدير) للعلّامة الأمينيّ، فإنّه أورد قائمةً بأسماء أحد وعشرين محدّثاً من محدّثي أهل السنّة، بين مُحَسّنٍ للحديث ومصحّحٍ له.

ثانياً: الاستفادة من علوم الأنبياء والأوصياء مرهون باتّباع الناس والاستماع إليهم، فإذا انصرف الناس عنهم وأعرضوا عن اتّباعهم حينها لا يمكن اتّهامهم بكتم العلم وعدم نشره، فوجود العالم لوحده ليس كافياً ما لَـم يضف إليه وجود المتعلّم الذي يسعى لطلب العلم.

وقد أشار أمير المؤمنين (ع) إلى ذلك في حديثه مع كميل ابن زياد حيث قال: « .. إنّ ههنا لعلماً جمّاً - وأشار إلى صدره - لو أصبتُ له حملةً، بلى أصبتُ لقناً غيرَ مأمون عليه، مستعملاً آلة الدين للدنيا، ومستظهراً بنعم الله على عباده، وبحججه على أوليائه، أو منقاداً لحملة الحقّ لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشكّ في قلبه لأوّل عارضٍ من شبهة. ألا لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً باللذة، سلس القياد للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادّخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقرب شيء شبهاً بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه..» [نهج البلاغة: 4 / 36].

والذي حصل مع أمير المؤمنين (ع) هو أنّ القوم تركوه وذهبوا إلى غيره، إلا القلّة القليلة من خلّص أصحابه وشيعته، بل حتّى القرآن الذي جمعه لَـم يُقبل منه، وذلك أنّ أمير المؤمنين (ع) لـمّا فرغ من من تجهيز رسول الله (ص) ودفنه آلى على نفسه ألّا يرتدي برداءٍ إلّا للصلاة حتّى يؤلّف القرآن ويجمعه، فجمعه‌ مرتّباً على حسب‌ النزول‌، وأشار إلى عامّه‌ وخاصّه‌، ومطلقه‌ ومقيَّده‌، ومُحكمه‌ ومتشابهه‌، وناسخه‌ ومنسوخه‌، وعزائمه‌ ورُخَصه‌، وسُننه‌ وآدابه‌، وأسباب نزوله، ثمّ خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنادى بأعلى صوته: « أيّها الناس، إنّي لَـم أزل منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) مشغولاً بغسله، ثمّ بالقرآن حتّى جمعتُه كلّه في هذا الثوب الواحد، فلم ينزل الله على نبيّه (صلى الله عليه وآله) آيةً من القرآن إلّا وقد جمعتُها، وليست منه آية إلّا وقد أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلّمني تأويلها، ثمّ قال: لا تقولوا غداً إنّا كنّا عن هذا غافلين، ولا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدُعكم إلى نصرتي ولم أذكّركم حقّي، ولم أدعُكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته، فقال له عمر: ما أغنانا بما معنا من القرآن عمّا تدعونا إليه. ثمّ دخل عليّ (عليه السلام) بيته » [بحار الانوار ج89 ص41].

ثالثاً: مع صعوبة تلك الظروف تمكّن أمير المؤمنين (ع) من فرض شخصيّته العلميّة ممّا جعل الكثير من الناس مضطرّين للرجوع إليه، وقد أجمعت الصحابة على علمه ومعرفته، وصرّح بذلك جمع كبير منهم، حتّى قال الخليفة الثاني في حقّه: « لا يفتِينّ أحد في المسجد وعليّ حاضر » [شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج1 ص18].

وعندما جاءت الخلافة إليه دعا الناس إلى سؤاله والاستفادة منه، ففي الحديث عن الأصبغ بن نباته: أنّ أمير المؤمنين (ع) قال: « يا معشر الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا ما زقّني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زقّاً زقّاً، سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين، أما والله لو ثنّيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيتُ أهل التوراة بتوراتهم حتّى تنطق التوراة فتقول: صدق عليّ ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ، وأفتيتُ أهلَ الإنجيل بإنجيلهم حتّى ينطق الإنجيل فيقول: صدق عليّ ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ، وأفتيتُ أهل القرآن بقرآنهم حتّى ينطق القرآن فيقول: صدق عليّ ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ، وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً، فهل فيكم أحدٌ يعلم ما نزل فيه، ولولا آية في كتاب الله لأخبرتُكم بما كان وبما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} » [التوحيد للصدوق ص305].

رابعاً: لَـم يكتفِ أمير المؤمنين (ع) في نشر العلم بالخطب والتعليم المباشر لمن حوله، وإنّما خطّ بيده العديد من الكتب، مثل الصحيفة، والجامعة، وكتاب الجفر، وغير ذلك من الكتب التي تنسب له أو لأصحابه، وتفصيل ذلك موكول لمحلّه، ومَن أراد الوقوف على بعض كتب أمير المؤمنين (ع) وأصحابه يمكنه الرجوع إلى رجال النجاشيّ.

خامساً: واجه الحسن والحسين (عليهما السلام) بعد استشهاد أمير المؤمنين (ع) تعسفاً واضطهاداً وملاحقةً من النظام الأمويّ، والذي يرجع إلى تاريخهما (سلام الله عليهما) تصيبه الحيرة ممّا جرى عليهما من ظلم واضطهاد.

أمّا فترة الإمام السجاد (ع) فقد كانت أشدّ عنفاً وضراوة من ذي قبل، حتّى بلغ الحال إلى القتل على الهويّة، فكانوا يقتلون الشيعة في البوادي والمدن، حتّى لم يجرؤ أحدٌ على إعلان تشيّعه أو الاقتراب من الإمام السجّاد (ع) لزيارته وتعلّم أحكام دينه منه.

سادساً: صادف عصر الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) بدايات انهيار الحكم الأمويّ، فانشغلت السلطة بمشاكلها الداخليّة وخفّ الضغط على البيت النبويّ، فانتهز الإمام الباقر (ع) هذه المساحة من الحريّة لنشر علوم ومعارف الإسلام.

وقد استمرّ هذا الانفتاح حتّى عهد الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) واتّسع نطاقه، حتّى قيل: كان يحضر المجلس العلميّ للإمام الصادق (عليه السلام) زهاء أربعة آلاف شخص، وممّا جاء بهذا الصدد ما ذكره النجاشيّ من أنّ الحسن بن عليّ بن زياد الوشّاء - وهو من أصحاب الإمام الرضا (ع) - كان يقول: (أدركت في هذا المسجد (الكوفة) تسعمائة شيخ، كلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد) [رجال النجاشيّ ص39-40]، وهكذا انتشرت المعرفة وراج العلم في فترة حياته.

والقول برئاسته للمذهب تأتي من هذا المنطلق، فقد كان نشر العلم والمعرفة على يده.