وأما فلانة فأدركها رأي النساء
السؤال: قال أمير المؤمنين: « وَأَمَّا فُلَانَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ النِّسَاءِ وَضِغْنٌ غَلَا فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ وَلَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ، وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الْأُولَى وَالْحِسَابُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى »، ما هي حرمتها الأولى؟ وهل يعني ذلك حرمة سبها والنيل منها؟
الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وردت هذه الفقرة في خطبةٍ لأمير المؤمنين (عليه السلام) في البصرة بعد معركة الجمل، نقل الشريف الرضي شطراً منها في [نهج البلاغة ج2 ص47] – كما ورد في السؤال -، ونقل الطبرسيّ الخطبة بشكل أبسط في [الاحتجاج ج1 ص248]، ونقل المتقي الهنديّ الخطبة بتمامها عن وكيع في [كنز العمال ج16 ص183].
قال المتقي الهنديّ: « روى يحيى بن عبد الله بن الحسن عن أبيه قال: كان عليّ (عليه السلام) يخطب... فقام إليه عمّار فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الناس يذكرون الفيء، ويزعمون أنّ مَن قاتلنا فهو وماله وولده فيء لنا. فقام إليه رجلٌ من بكر بن وائل، يُدعَى عباد بن قيس - وكان ذا عارضة ولسان شديد - فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما قسمتَ بالسويّة، ولا عدلتَ في الرعية. فقال عليّ: ولِـم ويحك؟! فقال عباد: لأنّك قسمتَ ما في العسكر، وتركتَ الأموال والنساء والذريّة. فقال عباد: جئنا نطلب غنائمنا، فجاءنا بالترهات. فقال له عليّ (عليه السلام): إنْ كنتَ كاذباً فلا أماتك الله حتّى يدركك غلام ثقيف... يا أخا بكر، لقد حكمتُ فيهم بحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أهل مكّة، قسّم ما حوى العسكر، ولَـم يتعرّض لِـما سوى ذلك، وإنّما اتّبعتُ أثرَه حذو النعل بالنعل. يا أخا بكر، أما علمتَ أنّ دار الحرب يحلّ ما فيها، وأنّ دار الهجرة يحرم ما فيها إلّا بالحقّ؟ فمهلاً مهلاً رحمكم الله، فإنْ لَـمْ تصدّقوني وأكثرتم عليّ - وذلك أنّه تكلّم في هذا غير واحد - فأيّكم يأخذ عائشة بسهمه؟ فقالوا: أيّنا يا أمير المؤمنين؟! أصبتَ وأخطأنا، وعلمتَ وجهلنا، فنحن نستغفر الله، وتنادى الناس من كلّ جانب: أصبتَ يا أمير المؤمنين، أصاب الله بك الرشاد والسداد... [ثـمّ وعظهم أمير المؤمنين، ثـمّ قال:] فكونوا - رحمكم الله - من أولئك الذين أطاعوا نبيّهم ولَـم يعصوا ربّهم، وأمّا عائشة فأدركها رأي النساء، وشيء كان في نفسها عليّ، يغلي في جوفها كالمرجل، ولو دعيت لتنال من غير ما أتت إليّ لم تفعل، ولها بعد ذلك حرمتها الأولى، والحساب على الله، يعفو عمّن يشاء، ويعذّب عمّن يشاء. فرضي بذلك أصحابُه وسلّموا لأمره بعد اختلاطٍ شديد، فقالوا: يا أمير المؤمنين، حكمتَ - والله - فينا بحكم الله، إنّا جهلنا، ومع جهلنا لَـم نأتِ ما يكره أمير المؤمنين، وقال ابن يساف الأنصاريّ:
(إنّ رأياً رأيتموه سفاهاً *** لخطأ الإيراد والإصدار)
(ليس زوج النبيّ تقسم فيئاً * ذلك زيغ القلوب والأبصار) ».
أقول: فيبدو من سياق هذه الرواية أنّ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) موجّه لأولئك الذين اعترضوا على تعامله مع أصحاب الجمل، وذلك أنّه (عليه السلام) عاملهم كما عامل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل مكّة؛ تطبيقاً للشرع المبين والأخلاق الحميدة. فإنّ جماعة ممّن كان في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) طلبوا منه (عليه السلام) أن يغنموا أموال البغاة ونساءهم وذراريهم، وقد صرّح بذلك أحدُهم وهو عباد بن قيس بقوله: « قسمتَ ما في العسكر، وتركتَ الأموال والنساء والذريّة »، فأجابهم (عليه السلام) أنّ ذلك هو حكم الشرع فيهم، ثـمّ سألهم إنْ كان ولابدّ أن يغنموا ذلك: « فأيّكم يأخذ عائشة بسهمه؟ فقالوا: أيّنا يا أمير المؤمنين؟! أصبتَ وأخطأنا ».
ونقل ابن عبد ربّه: « أوّل ما تكلّمت به الخوارج يوم الجمل قالوا: ما أحلّ لنا دماءهم وحرّم علينا أموالهم؟ فقال عليّ: هي السنّة في أهل القبلة، قالوا: ما ندري ما هذا؟ قال: فهذه عائشة رأس القوم، أتتساهمون عليها؟ قالوا: سبحان الله! أمّنا، قال: فهي حرام؟ قالوا: نعم، قال: فإنّه يحرم من أبنائها ما يحرم منها » [العقد الفريد ج5 ص79].
وذكر الشيخ المفيد: « لـمّا عزم أمير المؤمنين (عليه السلام) على المسير إلى الكوفة أنفذ إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة، فتهيّأت لذلك، وأنفذ معها أربعين امرأة ألبسهنّ العمائم والقلانس، وقلّدهنّ السيوف، وأمرهنّ أن يحفظنها، ويكنّ عن يمينها وشمالها ومن ورائها، فجعلت عائشة تقول في الطريق: اللهمّ افعل بعليّ بن أبي طالب وافعل، بعث معي الرجال، ولم يحفظ بي حرمة رسول الله، فلمّا قدمن المدينة معها ألقين العمائم والسيوف ودخلنَ معها، فلمّا رأتهنّ ندمت على ما فرّطت بذمّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وسبّه، وقالت: جزى الله ابن أبي طالب خيراً، فلقد حفظ فيّ حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) » [الجمل ص221].
فالعبارة المذكورة: « ولها بعدُ حرمتها الأولى » يُراد بها كونها من أمّهات المؤمنين، باعتبار أنّها زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولأجل عين رسول الله تُكرَم ألف عين، ولكن ذلك لا يعني أنّها محترمة بنفسها، بل حرمتها ملحوظة لرعاية احترام النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولهذا عقَّب على ذلك بقوله: « والحساب على الله تعالى »، وقال قبل ذلك: « وأمّـا عائشة فأدركها رأي النساء، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين، ولو دُعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ لَـم تفعل » مصرِّحاً بأنّها تحمل الحقد عليه والبغض له، فمعنى « ضغن غلا كمرجل القين »: أي حقد غلا كغليان قدر من حديد، ولا يخفى على مسلمٍ حال مبغض أمير المؤمنين (عليه السلام) في الدنيا والآخرة.
أقول: ومع شدّة بغضها لأمير المؤمنين (عليه السلام) قد تلقّت منه المعاملة الحسنة والأخلاق العظيمة، هذه هي أخلاقيّات أمير المؤمنين (عليه السلام)، هكذا تعامل مع مَن خرجت مجيّشةً جيشاً جراراً لقتله.
ولنفترض أنّ عائشة خرجت على عمر بن الخطاب كما خرجت على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فماذا كان سيصنع بها عمر؟
يجيب عن ذلك ابن أبي الحديد المعتزليّ – في جملة كلامٍ له عن عائشة -: (ولو أقامَت في منزلها لـم تُبتذَلْ بين الأعراب وأهل الكوفة. على أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) أكرمها وصانها وعظّم من شأنها، ومَن أحبَّ أن يقفَ على ما فعله معها فليطالِع كتبَ السيرة. ولو كانَت فعلَت بعُمرَ ما فعلت بهِ، وشقَّت عصا الأمّة عليه، ثمّ ظفر بها، لقتلها ومزَّقها إرباً إرباً، ولكنّ عليّاً كان حليماً كريماً) [شرح نهج البلاغة ج17 ص254].
اترك تعليق