هل اقتبس القرآن قصصه من التوراة؟
السؤال: حين تقارن القرآن بالأصل التوراتيّ تجد القرآن مكثّفاً ومشتّتاً والقصّة مختصرة ومقسّمة على مواضع كثيرة. هذا يدلّ على أنّ محمّداً لم يدرس الكتاب مباشرة بل سمع بأذنه كلام اليهود أو المسيحيين عن معتقداتهم، لا أكثر ولا أقل.
الجواب:
تؤكّد صيغة السؤال على أنّ صاحبها ليس له خبرة بالقرآن أو التوراة، وإنّما هو مجرّد ناقل ومردِّد لِـما يقوله بعضُ الملحدين والمعادين للإسلام بشكل عام، وقد اعتدنا على بعض النماذج التي تطلق الادّعاءات من دون أيّ مستند أو دليل، ومع ذلك سنتعرّض لهذه الشبهة مختصراً مع الإشارة إلى بعض المصادر التي يمكن الرجوع إليها، فنقول:
تقوم هذه الشبهة أساساً على وجود مواضع فيها بعض التشابه بين التوراة والقرآن الكريم، وخاصّة في الجانب القصصيّ، الأمر الذي جعل البعض يتّهم القرآن بالاقتباس منه، وللتعليق على ذلك يجب التأكيد على بعض النقاط:
أوّلاً: مصدر الكتب السماويّة جميعها هو الوحيّ الذي اختصّ الله به بعض أنبيائه، فما نزل على موسى وعيسى وجميع الأنبياء السابقين هو حقائق واحدة لا تتعارض ولا تتناقض فيما بينها، والقرآن الكريم - كآخر كتاب سماويّ - جاء مصدّقاً لِـما قبله من الكتب، قال تعالى: *وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ*، وقال: *نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ*.
وتصديق القرآن للتوراة والانجيل لا يعني المصادقة على كلّ ما هو موجود فيها اليوم، حيث أشار القرآن نفسه إلى حصول الكثير من التلاعب والتحريف في هذه الكتب، والمقصود بالتحريف هو حصول الزيادة أو النقصان أو استبدال الكلمات التي تؤدّي إلى تغيير المعنى، وبالتالي لا يستبعد اشتمالهما على بعض الحقائق التي لم يمسّها التحريف، فالتحريف لا يعني استبدالهما بالكلّية بكتب اُخرى لا علاقة لها بالمرّة بالتوراة والإنجيل، وإنّما يعني حصول تلاعب في نصوصهما بالحذف أو الإضافة أو التبديل مع بقاء بعض النصوص الأصليّة، وهذا المقدار من التحريف مسلّم بحصوله، وقد دلّت آيات القرآن عليه: إمّا بشكل مباشر، وإمّا بذكر بعض النماذج التي وقع فيها التحريف.
ثانياً: أثبتت الكثير من الدراسات الحديثة ذات الطابع الأكاديميّ الرصين مدى الاختلاف بين القصّة القرآنية والقصّة التوراتيّة، وكُتبت الكثير من الكتب التي تناولت شبهات المستشرقين في هذا الشأن وقامت بتفنيدها بطريقة علميّة وموضوعيّة.
فقد ادّعى المستشرقون المناوؤن للإسلام بأنّ القصص القرآنيّ ليس إلّا تقليداً للقصص الموجودة في الأديان السماويّة السابقة، ويعتبر الاستشراق الإسرائيليّ من أكثر مدارس الاستشراق استلهاماً لهذه الفكرة، وأكثرهم ترويجاً لها.
والهدف من ذلك يكشفه موقف الصهيونيّة من الإسلام والمسلمين، وقد عمل المستشرق (أوري روبين) في ترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة العبريّة على ردّ القصّة القرآنيّة للتوراة، ومن الشواهد التي تمسّك بها (روبين) على إثبات الاقتباس هي قصّة الخلق، حيث ادّعى أنّ مصدر هذه القصّة هو سفر التكوين، إلّا أنّه غفل عن أنّ هذه المحاولة تنفي فرضيّته من الأساس؛ وذلك أنّ كميّة الاختلاف بين القصّتين كبيرة شكلاً ومضموناً، فمع أنّ القرآن والتوراة يشتركان في أنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أيام، إلّا أنّ الاختلاف الجوهريّ هو أنّ التوراة تزعم بأنّ الله استراح في اليوم السابع، كما جاء في سفر التكوين من الاصحاحين الثاني والثالث، بينما ينفي القرآن تماماً أنّ الله قد استراح أو مسّه التعب، وذلك في قوله تعالى: *وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ* وقال تعالى: *لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ*، ويتّضح من هذا التباين الجوهريّ أنّ الرواية التوراتيّة لا تنزّه الله تعالى، بل تشبّهه صراحة بالإنسان، بينما الرواية القرآنية تنزّه الله تعالى من أيّ تشبيه للخلق، وهذا دليل واضح بأنّ الرواية القرآنيّة غير مقتبسة من الرواية التوراتيّة، فالاقتباس لا يتحقّق بالزيادة أو النقصان الذي يؤدي إلى قلب المعنى 180 درجة.
والسؤال المنطقيّ هنا: من أين أتى النبيّ محمّد (ص) بالتنزيه؟ هل من عند نفسه؟ أم من لدن حكيم خبير؟
فالاختلاف الكبير بين التنزيه والتشبيه يؤكّد على التحريف الذي وقع في التوراة، ويؤكّد من جانب آخر على أنّ مصدر القرآن هو الله تعالى الذي نزّل التوراة على موسى، ومع وجود مثل هذا الاختلاف الجوهريّ نجد المستشرق (روبن) يهملُ ذلك ولا يلتفت إليه في خيانة واضحة للعلم والحقيقة.
ولمن أراد الوقوف على كثير من هذه النماذج ننصح بالرجوع إلى كتاب (القصص القرآني في مرآة الاستشراق دراسة نقدية) للدكتور محمود كيشانة، وتوجد منه نسخة الكترونية على الرابط التالي:
والمكتبة الإسلاميّة عامرة بالكتب التي ردّت شبهات المستشرقين، وبيّنت الاختلاف الحقيقيّ والواضح بين قصص القرآن وقصص التوراة، وقد أشار القرآن لهذه الميّزة بقوله: - نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ-، والمتتبّع للقصص القرآن بكلّ علميّة وموضوعيّة سيقف على مدى الحُسْنِ الذي تحلّت به القصّة القرآنيّة.
ومن بين تلك الخصائص التي تميّزت بها القصّة القرآنيّة: هي أنّ القرآن يجمع بين قصص الصالحين والطالحين في لوحة فنيّة رائعة تجذب القارئ من جهة، ومن جهة أخرى تسهّل عليه اكتشاف الحِكم والعِبر والسّنن التي تحكم التاريخ والاجتماع الإنسانيّ، مضافاً إلى أنّ القرآن يوظّف القصّة الواحدة ضمن سياقات مختلفة من أجل خدمة هدفه المحوريّ وهو الهداية، فالقرآن لا يكتفي بسرد بعض القصص بكلّ واقعيّة وموضوعيّة فحسب، بل ينقل لنا عِبْرَ تلك القصص مجموعة من العِبَر والحِكم والقِيم والسنن التاريخيّة التي نحتاج إلى معرفتها من أجل حياتنا الراهنة، فمع أنّها قصص وقعت في الماضي إلّا أنّها لا زالت حاضرة ومتجلّية في حياتنا اليوميّة.
وهذا بخلاف التوراة المليئة بالخرافات والأساطير إلى درجة أنّ بعضها مخالف لأبسط القِيَم الأخلاقيّة والضرورات العقليّة.
ثالثاً: لم يقف القرآن عند حدود ما ذكَرَته التوراة في مواضع التشابه بينهما، وإنّما تجاوزها في أُسلوب العرض، وفي إيجاد بعض الإضافات غير الموجودة في التوراة، مضافاً لتصحيحه بعض الأخطاء، وانفراده بمادّة خاصّة ليس لها مصدر سواه.
ونضرب هنا مثالاً واحداً من سورة يوسف وما جرى بينه وبين امرأة العزيز، حيث تبدأ القصّة من مراودة امرأة عزيز مصر ليوسف (عليه السلام) ليفعل بها الفحشاء، وتنتهي بقرار وضع يوسف في السجن، والقصّة كما جاءت في المصدرين كالتالي:
القصة التوراتية: « وحدث بعد هذه الأمور أنّ امرأة سيّده رفعت عينها إلى يوسف وقالت: اضطجع معي، فأبى وقال لامرأة سيّده: هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت وكلّ ما له قد دفعه إلى يدي، ليس هو في هذا البيت أعظم مني، ولم يمسك عنّي شيئاً غيرك لأنّكِ امرأته، فكيف أصنع هذا الشرّ العظيم، وأخطئ إلى الله؟ وكانت إذ كلّمت يوسف يوماً فيوماً أنّه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها..
ثمّ حدث نحو هذا الوقت أنّه دخل البيت ليعمل عمله، ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت، فأمسكته بثوبه قائلة: اضطجع معي، فترك ثوبه في يدها وخرج إلى خارج، وكان لما رأت أنّه ترك ثوبه في يدها، وهرب إلى خارج أنّها نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة: انظروا قد جاء إلينا برجل عبرانيّ ليداعبنا، دخل إليّ ليضطجع معي، فصرخت بصوت عظيم، وكان لما سمع أني رفعت صوتي وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبي وهرب وخرج إلى خارج، فَوَضَعَتْ ثوبه بجانبها حتّى جاء سيّده إلى بيته، فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة: دخل إليَّ العبد العبرانيّ الذي جئت به إلينا ليداعبني، وكان لما رفعت صوتي وصرخت أنّه ترك ثوبه بجانبي، وهرب إلى خارج، فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذى كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك أن غضبه حمى.. فأخذ سيدُه يوسف ووضعه في بيت السجن المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه ».
أما القصة كما في القرآن الكريم: *وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ * وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ* إلى أن يقول: *ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ*.
ونحن هنا نترك للقارئ الوقوف بنفسه على الفرق الكبير عرضاً ومضموناً، فالنظر الفاحص في المصدرين يرينا أنّهما لم يتفقا إلّا في "أصل" الواقعة من حيث هي واقعة وكفى، ويختلفان بعد هذا في كلّ شيء، فهل بعد ذلك يصحّ أن يقال إنّ القرآن مقتبس من التوراة؟! والمقتبس لا بدّ من أن ينقل الفكرة كلّها أو بعضها، وقد تجاوز القرآن تماماً ما جاء في التوراة وأتى بجديد لم يذكره سواه، وصحّح الأخطاء التي وقع فيها سواه، فالذي روته التوراة في هذه القصة لا يصلح ولن يصلح أن يكون أساساً للذي ذكره القرآن، وإنّما أساس القرآن هو الوحي الصادق الأمين.
ومن أراد الوقوف تفصيلاً على الفروقات بين القصتين وغيرها من القصص الأخرى يمكنه الرجوع إلى كتاب (القرآن ونقض مطاعن الرهبان) لصلاح الخالدي ج 1 ص 579.
فما من مقارنة تجرى بين التوراة وبين القرآن إلّا وهي دليل جديد على نفي أن يكون القرآن مقتبساً من كتاب سابق عليه، فالقرآن وحي أمين حفظ كلمات الله كما أُنزلت على خاتم النبيّين، وما جاء في القرآن من مقاصد وتوجيهات ليس في التوراة ولا في الإنجيل منها شيء.
اترك تعليق