ماذا كان يفعل جمهور الشيعة لو كان حاضراً أيّام أمير المؤمنين؟

السؤال: ماذا لو أنّ جمهور الشيعة الاثني عشريّة كان موجوداً وقت بيعة أبي بكر بالخلافة وصمت عليّ رضي الله عنه حفاظا على بيضة الإسلام كما تزعمون، فهـل كنتم بايعتم حفاظا على بيضة الإسلام أم ناصرتم عليّاً الذي لم يطلبها ؟؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

هذا سؤال افتراضيٌّ؛ والسؤال الافتراضيّ يكون الجواب عنه افتراضياً أيضاً، وحينها لا يمكن أن نخلص إلى نتيجة تتّصف بالعلميّة والموضوعيّة، فما وقع في التاريخ لا يمكن تغييره والتصرّف فيه، وأيّ محاولة لوضع سيناريوهات بديلة لحدث معيّن يفتح الباب أمام توقّعات ونتائج لا نهائيّة، فكلّ افتراض يقابله افتراض وكلّ نتيجة افتراضيّة تقابلها عشرات النتائج الافتراضيّة، ومثال على ذلك لو أخذنا الافتراض الذي قدّمه السائل يمكننا وضع عشرات الإجابات الافتراضية عنه.

1- لو كان جمهور الشيعة اليوم موجوداً في تلك الفترة التاريخيّة بعدّته وعتاده كما هو حالهم اليوم من القوّة والمنعة لما تجرّأ أحد من الأعراب على مخالفة أمير المؤمنين (ع).

2- لو كان لأمير المؤمنين (ع) ناصراً كجمهور الشيعة اليوم لما سكت عن حقّه كما أوصاه رسول الله (ص) بقوله: (يا عليّ! إنّك ستلقى بعدي من قريش شدّة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك، فإنْ وجدت أعواناً عليهم فجاهدهم، وقاتل من خالفك - بمن وافقك - فإن لم تجد أعواناً. فأصبر وكفّ يدك، ولا تلق بيدك إلى التهلكة، فإنّك منّي بمنزلة هارون من موسى، ولك بهارون أُسوة حسنة؛ أنّه قال لأخيه موسى: (إِنَّ القَومَ استَضعَفُونِي وَكَادُوا يَقتُلُونَنِي ).

3- لو كان جمهور الشيعة موجوداً لاستحال على أهل السقيفة التستّر والاجتماع خفيةً، فأجهزة الشيعة الاستخباراتيّة كانت ستكشف ذلك مبكّراً، أو لداهمتهم كتائب الشيعة وتنظيماتهم المدرّبة جيّداً واعتقلتهم جميعاً.

4- لو كان جمهور الشيعة موجوداً وكان جمهور أهل السنّة أيضاً موجوداً، فإمّا أن تقع حرب طاحنة يضيع معها الإسلام، أو يسكت أمير المؤمنين (ع) حفاظاً على بيضة الإسلام ويسكت معه جمهور الشيعة.

وهكذا لو لو ... إلى ما لا نهاية، ولا يمكن ترجيج فرضيّة على أخرى، ومن هنا فإنّ العقلاء لا يتعاملون مع التاريخ وأحداثه بهذه العقليّة الساذجة، وإنّما فقط يدرسون أحداثه ويحلّلون معطياته ويستخلصون منها العبر والحقائق، وعلى ذلك فمن أراد أن يعرف سبب سكوت أمير المؤمنين (ع) وعدم خروجه بالسيف على من اغتصب حقّه، يجب عليه دراسة الأحداث التاريخيّة برؤية علميّة وليس بوضع السيناريوهات الافتراضيّة.

وسوف ننقل للسائل حدث تاريخيّ واحد نكشف من خلاله كيف حافظ أمير المؤمنين (ع) على الإسلام عندما لم يخرج بالسيف على من اغتصب حقّه، وسوف نختار حدث يَعُدُّهُ أهل السنّة من أكبر مفاخر الخليفة الأوّل وهو حروب الردّة.

إذْ لا يخفى على المتتبّع أن هناك مرتدّين ادّعو النبوّة أمثال مسيلمة وطليحة والعنسيّ وسجاح، وقد بدأت هذه الردّة في عهد رسول الله (ص) إلّا أنّ الذي حرّك الأجواء ودفع الخليفة الى الإسراع إلى الحرب هو تفاقم أمرهم وتحالف القبائل معهم بعد أن أعلنت قريش إمارتها على جميع العرب، فتحرّكت القبائل وامتنعت عن دفع الزكاة للحكومة الجديدة وهاجمت المدينة مركز الخلافة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ أكبر خطر يمكن أن يهدّد التجربة الإسلاميّة الوليدة هو فقدان قائدها ورسولها، فلم تتسالم القبائل على قيادة رسول الله (ص) إلّا بعد عناء وجهد وجهاد، فبالطبع واليقين لا تتسالم على شخص آخر من دون تمرّد واعتراض، ومن هنا كان من الضروريّ أن يتدخّل رسول الله (ص) ليسدَّ هذه الثغرة الكبيرة التي يمكن أن تكون سبباً لانهيار الدعوة، وهذا الخيار لم يقبله الفكر السنيّ تبعاً لواقع التجربة التاريخيّة التي فرضت حُكّام من دون توجيه من رسول الله وتعيينه.

وهذا التخوّف المنطقيّ الذي تفرضه ضرورة العقل والتاريخ وطبيعة المجتمعات البشريّة، كان تخوّفاً واقعيّاً، فما أن انتقل الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى واستولت قريش على السلطة حتّى اجتاح التمرّد كلّ الجزيرة العربيّة احتجاجاً على قيادة قريش، فقد انتفضت معظم القبائل وأعلنت العصيان، ولو أردنا أن نرسم خريطة للأحداث لوجدنا أنّها امتدّت إلى اليمن ولم ينج منها غير مكّة والمدينة والطائف، ففي البداية والنهائية لابن كثير: "ارتدّت العرب عند وفاة رسول الله (ص) ما خلا أهل المسجدين: مكّة والمدينة" (البداية والنهاية: ج6 ص312. مروج الذهب: ج2 ص306 ).

ولو قبلنا رواية سيف بن عمر فإنَّه قال: "كفرت الأرض، وتضرّمت ناراً، وارتدّت العرب من كلّ قبيلة، خاصّتها وعامّتها، إلّا قريشاً، وثقيفاً" (تاريخ الأمم والملوك: ج3 ص242. ، الكامل في التاريخ: ج2 ص342).

وبذلك تكون القبائل التي خضعت لرسول الله (ص) ودانت له بالولاء والطاعة تمرّدت وأعلنت العصيان على سلطة قريش، وقد كانت بحقّ حركة كبيرة وتمرّد واسع اجتاح كلّ الجزيرة العربيّة.

واللافت أنَّ كلّ هذه القبائل المتمرّدة رفعت شعار قبائلها، ولكي نقارب هذه المسألة لابدّ لنا من الرجوع الى السقيفة لمعرفة معايير استحقاق الخلافة كيف كانت في نظر أصحاب السقيفة: فقد رفع الأنصار شعار قبيلتهم وقالوا الأنصار أولى بالخلافة والزعامة بعد محمّد. وقال المهاجرون: قريش قبيلة رسول الله وقبيلته أولى بوراثته.

وكان هناك تخوّف عامّ عند أصحاب السقيفة، وهو كيف يمكن أن تقبل القبائل الأخرى بالزعامة الجديدة؟ فاستغلّ عمر هذا التخوّف لصالح القرشيّين وقال: "إنَّه والله لا ترضى العرب أنْ تؤمّركم ونبيّها من غيركم، ولكنّ العرب لا ينبغي أن تولّي هذا الأمر إلّا من كانت النبوّة فيهم، وأولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجّة الظاهرة، والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمّد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته"(تاريخ الطبري ج3 ص 455).

لا وجود لمعيار منضبط للخليفة سوى المعيار القبليّ، فمادام رسول الله (ص) من قريش، فبحكم النظام القبليّ لا بدّ أن يكون خليفته في سلطانه من قريش أيضاً، فاحتجّوا على الأنصار بذلك.

ويبقى السؤال: هل تقبل بقيّة القبائل زعامة قريش عليها كما افترض عمر قبولها؟

فالذي حدث هو أنَّ القبائل لم تقبل، وعَـدّت قريشاً ممّن نالت بذلك الفضل عليها، فأعلنت التمرّد ورجعت الى أحلافها القديمة، ففي تاريخ دمشق: "فلمّا مات رسول الله (ص) قام عيينة بن حصن في غطفان فقال: ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد، وإنّي لمجدّد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة. ووالله لأن نتّبع نبيّاً من الحليفين أحبّ إلينا من أن نتبّع نبيّاً من قريش. وقد مات محمّد وبقي طليحة! فطابقوه على ذلك" (تاريخ دمشق لابن عساكر: ج25، ص156).

فاستجابت قبيلة أسد خزيمة كلّها لادّعاء طليحة بن خويلد النبوّة! وتسارعت القبائل للانضمام إليهم، فانضمّ بنو فزارة بقيادة عيينة بن حصن، وقال: إنَّ نبيّ حلفائهم أسد أحبّ إليه من نبيّ قريش. وانضمّت بطون من طيء، وخزاعة، وغيرها حتّى ضاقت بهم سميراء وبزاخة، وهي مناطق قرب حائل، فاتّخذوا معسكراً آخر في ذي القَصَّة قرب المدينة، وأرسل طليحة أخاه لقيادته وغزو المدينة.

وقبل مهاجمة المدينة أرسل طليحة وفداً من أنصاره بني أسد، وبني فزارة، وبني حنيفة، وطيء، إلى أبي بكر يطلبون منه إسقاط الزكاة عنهم، فإن لم يقبل منهم هاجموا المدينة واحتلّوها وأعلنوا نبوّة طليحة.

وقد أحدث هذا الأمر مشكلة وتخوّف على المدينة، فقد هدّد المتمرّدون باحتلال المدينة إنْ لم يستجاب لهم، وقد كان هذا التخوّف موجوداً قبل أن تهدّدهم القبائل، لذا تردّدوا في إنفاذ جيش أسامة، وقد يدلّ هذا على أنّهم كانوا يتوقّعون نكران القبائل عليهم وخروجها عن سلطانهم.

وعندما اقترب جيش طليحة الأسديّ من المدينة، رأى عمر إنَّ ما تخوّف منه قد وقع، وخاف من مهاجمتهم المدينة، فأشار على أبي بكر أن يقبل بأوّل مطالبهم وهو إسقاط الزكاة عنهم، فقال له: "تألَّف الناس وارفق بهم، فإنَّهم بمنزلة الوحش. فقال له: رجوتُ نصرك وجئتني بخذلانك؟ جَبَّارٌ في الجاهليّة خَوَّارٌ في الإسلام! ماذا عسيت أن أتألّفهم، بشعر مفتعل، أو بسحر مفترى، هيهات هيهات، مضى النبيّ وانقطع الوحي. والله لأُجاهدنّهم ما استمسك السيف في يدي، وإنَّ منعوني عقالاً" (كنز العمال: ج6، ص527)

والتفاصيل التاريخيّة في ذلك كثيرة، وهذا المقدار يكشف عن المخاطر الكبيرة التي كانت تحدق بالتجربة الإسلاميّة الوليدة، فمن هذه الزاوية وحدها يمكننا تفسير عدم خروج أمير المؤمنين بالسيف، فلو قاد حرباً من داخل المدينة وهي في حالة حصار من القبائل المرتدّة بقيادة طليحة لأنفرط عقد الإسلام، ومن أجل ذلك الخطر لم يتحرّك أمير المؤمنين (ع) عسكريّاً من داخل المدينة، مضافاً لوجود أخطار أخرى مثل خطر فارس والروم اللّذينِ كانا يرصدان نقاط الضعف لينقضّا على هذه التجربة الوليدة، فروح المسؤوليّة والحرص على الإسلام جعل أمير المؤمنين (ع) يقعد عن حقّه، كما عبّر بذلك في رسالته لأهل مصر مع مالك الأشتر لمّا ولّاه إمارتها، إذْ يقول: " أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ ، وَمُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ. فَلَمَّا مَضَى عَليْهِ السَّلامُ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ. فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي روعِي ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي ، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ، وَلَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ ! فَمَا رَاعَنِي إِلَّا ٱنْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهَ وَسَلَّمَ ـ فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً ، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ.[نهج البلاغة، ص451- تحقيق صبحي الصالح].