هل وجود الأسطورة والسحر يفسر نشوء الأديان؟

السؤال: هل تساءلت يوماً؛ لماذا توجد آلاف القصص والأساطير والخرافات حول نشأة الشمس والأرض والقمر والبشر والحيوانات والليل والنهار، ولكن لا توجد خرافة واحدة حول نشأة الذرّات أو الخلايا أو البكتيريا أو الثقوب السوداء أو الهيليوم السائل؟! السبب هو أن البشر القدماء كانوا يشاهدون الأشياء الكبيرة فقط. أمّا تلك الأشياء التي اكتشفت بالتلسكوبات والميكروسكوبات والطرق التي تتطلّب تقنيّات عالية، فلا توجد حولها أسطورة أو خرافة واحدة حتى؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

الظاهر من هذا النصّ أنّ صاحبه يبدي وجهة نظره الخاصّة فيما يتعلّق بسبب نشوء الأساطير والخرافات، ولا يحمل هذا النصّ أيّ إشكال واضح يستوجب منّا معالجته والردّ عليه، وإن كان هذا النمط من التحليل يعمل البعض على توسيعه ليشمل نشوء الأديان أيضاً، فكلّ التفسيرات التي ترجع الكون إلى قوّة غيبيّة خالقة ومهيمنة تعدُّ تفسيرات أُسطوريّة عند البعض، فالإنسان في نظر هذه الجماعة كان مضطرّاً إلى التفسير الغيبيّ لجهله بالأسباب الطبيعية التي تقف خلف الظواهر الطبيعيّة، وقد تناولنا هذا الإشكال بشيء من التحليل في كثير من أجوبتنا السابقة، ولأنّ صاحب النصّ لم يطرح الإشكال بشكل واضح فإننا سنكتفي في هذه الإجابة بمناقشة وجهة نظره فيما يتعلّق بسبب نشوء الأساطير، وسنكتفي أيضاً بتقديم تحليل آخر يحاول أن يضع الأسطورة في إطارها الذي جعل منها ظاهرة في جميع المجتمعات الإنسانيّة.

لا بدّ أن نؤكّد بأنّ الأساطير ظاهرة متجذّرة في المجتمعات الإنسانيّة قديماً وحديثاً، فلم نشهد حضارة أو تجمّع بشري إلّا ويركن إلى الأسطورة في كثير من حالاته، ومن أحدث الأمثلة التي تؤكّد حضور الأسطورة واضطرار البشر للاستعانة بها، هو الاستجواب الذي حصل في مجلس النواب الأمريكيّ لنعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا بنيويوك، بسبب الاحتجاجات التي اجتاحت جامعة كولومبيا والمناصرة للقضيّة الفلسطينيّة، فقد سبّبت هذا المظاهرات ضغطاً كبيراً على الإدارة الأمريكية، فعمدت إلى استجواب رئيس الجامعة أمام مجلس النوّاب يوم الأربعاء الموافق 17 ابريل في هذا العام، وعند مثولها وجّه لها العضو الجمهوريّ ريك ألين سؤالاً قائلاً: "إنّ الله قد أخذ على النبيّ إبراهيم عهدا بأنّه سيباركه إذا بارك إسرائيل وإذا لعنها فإنّ لعنته ستحلّ عليه" ثمّ أضاف "هل تريدين أن يلعن الله جامعة كولومبيا؟"، فردّت نعمت شفيق بقولها: "بالطبع، لا ترغب في أن تحلّ اللّعنة على جامعة كولومبيا"، فبدل أن يتمّ مناقشة أسباب ودواعي المظاهرات التي كفلها الدستور الأمريكي نجد أن مجلس النوّاب وجد نفسه مضطرّاً للاستعانة بالأسطورة لتمرير مشروعه المناهض لهذه المظاهرات، وهكذا نجد الكثير من الأمثلة التي تؤكّد حضور الأسطورة واحتياج البشر لها في كثير من الظروف، والأمر الذي يمنعنا من قبول التفسير الذي يرجع الأسطورة للتاريخ البشريّ السحيق ولأسباب لها علاقة بالجهل أو قلّة المعلومة، ومن هنا يجب تقديم مقاربة أخرى تقدّم تفسيراً مقبولاً لهذه الظاهرة.

ولكي نقترب من فهم الأسطورة لا بدّ من وضعها في ضمن سياقها الذي وضعت من أجله، فالأسطورة في حقيقتها هي نوع خاصّ في سرد القصص، بالتالي هي تعبير قولي أو أدب شعبيّ، وما يؤسف له أنّ الأكثريّة ربطت بين مضامين القصص وبين معنى الأسطورة، أي أنّهم حاولوا فهم الأسطورة من خلال مضمون القصص ولذا ابتعدوا عن الوصف الموضوعيّ للأسطورة.

فليس هناك ظاهرة غير مبرّرة، ومن الخطأ البحث عن نمط واحد من التبرير كما يصرّ العلمانيّون؛ الذين يبحثون عن موضعه الأشياء في القوالب المادّية، فهناك بالتأكيد تبريرات أخرى؛ فمثلاً الجمال والإحساس بالجميل لا يبحث عن تبريره مادّياً أو عقليّاً، وكذلك ما يعبّر عن حاجة روحيّة أو نفسيّة، ومن الأبعاد التي يحتاجها الإنسان هي الأسطورة بوصفها وسيلة تعبيريّة فوق عقليّة، ووسائل التعبير ليس بالضرورة أن تكون محكومة دائماً بضوابط وشروط الواقعيّة، فقد يحتاج الإنسان أحياناً التوسّل بعالم الخيال للتعبير عمّا يريد، وذلك لأنّ عالم الخيال أكثر تحرّراً وأريحيّة في التعبير من عالم الواقع المحكوم بالضوابط العقليّة، والمثال الذي يؤكّد ذلك هو عالم الدراما والسينما، ففي بعض الأحيان يستمدّ الفلم مشاهده وجميع تفاصيله من عالم الواقع الخارجيّ، وفي بعض الأحيان يستمدّ الفلم كلّ ذلك من عالم الخيال ولا يلتزم بشيء من شروط الواقعيّة العقليّة، وأن يكون الفيلم خياليّاً لا يعني أن يكون خالياً من المحتوى والمضمون، بل كلّ ما في الأمر هي طريقة تعبيريّة يتمّ الاستعانة فيها بالخيال لإيصال فكرة قد يكون التعبير عنها بواقعيّة ينقص من مكانتها المعرفيّة، ففي بعض الأحيان هناك أفكار ومعانٍ في نظر البعض تأبى عن الوصف والشرح بالوسائل المعهودة، وحينها يبحث عن الأسطورة ويتعلّق بما هو خياليّ؛ لأنّه يوفّر للفكرة المساحة التي تعبّر فيها عن نفسها بحريّة. وعلى هذا الأساس يمكن أن نتفهّم وجود الأسطورة وعلى الأقلّ في الملاحم البطوليّة التي تتوارثها الأجيال.

ومن هنا يمكننا القول: إنّ حاجة الإنسان إلى الأسطورة نابعة من إحساس داخليّ بوجود سلطة خارجة عن إطار الطبيعة والمادّة، وتلك السلطة لها القدرة والهيمنة على الطبيعة، ومن هنا فإنّ تعلّق الإنسان بالغيب وتوسّله بالمعاجز، ولكونه خارجاً عن شروط المادّة نابع من هذا الإحساس العميق بتلك السلطة الغيبيّة، وهكذا يمكننا من نفس هذه الزاوية تفسير تعلّق البشر بالسحر والسحرة أيضاً، فالسحر في حقيقته استعانة بما وراء الطبيعة للسيطرة على عالم الطبيعة، وبمعنى آخر يمكن أن نقول: إنّ السحر نوع من التوسّل بالغيب من أجل تسخيره لما هو دنيويّ، وبذلك يصبح السحر في نظر البشر بمنزلة نافذة يطلّ بها الإنسان الى ذلك العالم الماورائيّ، والخطأ الذي وقعت فيه العلمانيّة عندما شاهدت تعلّق البشر بالغيب من خلال السحر والأسطورة هو تحجيم هذه الظاهرة في حدود الجهل وفقد المعلومات، وأهملت تماماً الدافع الباطنيّ والإحساس الداخليّ الذي جعل للسحر والأسطورة حضور بين البشر، فلولا هذا الإحساس وتجذّره في النفس الإنسانيّة لما عرف البشر السحر أو الأسطورة، وبسبب هذا التفسير الخاطئ نظرت العلمانيّة إلى السحر والأسطورة بوصفها البدايات المبكّرة لنشوء الأديان.

وعليه ليس من المنطقيّ مصادرة الدين بنفس الحجّة التي يتمّ بها مصادرة الأسطورة والسحر، حتّى لو سلّمنا جدلاً بأنّها جميعاً مظهراً لشعور نفسيّ واحد، فالأمر الذي يجب بحثه وفهمه هو نفس ذلك الشعور؛ لأنّ مصادرة السحر أو الأسطورة لا يعني أبداً مصادرة هذا الشعور، فيمكن للعلمانيّة أن تزيل السحر من العالم، ولكن لا يمكن أن تزيل قابليّة الإنسان في أن يسحر، والخيار الأنسب ليس التنكّر على هذا الشعور وعدم التفكير فيه؛ فكلّما يتمّ حجبه من إطار، يوجد لنفسه إطاراً آخراً يتمظهر من خلاله، وفي ظنّنا أنّ محاربة الأديان هي دعوة بشكل أو بآخر للسحر والأسطورة للظهور، ومن هنا يمكن رصد حالة انتشار السحر في المجتمعات التي يضعف فيها الدين أو الالتزام الدينيّ؛ لأنّها تشكّل المتنفّس الطبيعيّ لهذه الحالة الشعوريّة الضاغطة على الإنسان، والمجتمعات الغربيّة بشكل عامّ هي الأكثر تأثّراً وتصديقاً للأسطورة، والنجاح الكبير لسينما الخيال خير دليل على ذلك.

والتوجيه الأنسب لهذا الشعور هو ربط الإنسان بالدين بوصفه المعبّر حقيقةً عن عالم الغيب، فإذا كان السحر أو الأسطورة تعبيراً مشوّهاً عن تطلّع الإنسان إلى الغيب، فلا بدّ من إيجاد تعبير آخر يكون أكثر تمثيلاً لتلك الحقيقة الثابتة في الغيب، وفي هذا السياق تأتي فلسفة النبوّة والرسالات بوصفها ضرورة حتميّة لا بدّ منها؛ لأنّ هذا الشعور المتأصّل في الإنسان والذي يشدّه دائماً إلى الغيب، يجعل الإنسان دائماً في حالة من الترقّب والانتظار، إذْ لعلّ هناك خبراً يأتيه من السماء، وفي هذه الحالة إمّا نصدّق الأنبياء والرسل ونؤمن بما جاءوا به من حقائق غيبيّة، وإمّا أن نفتح الباب على مصراعيه للسحر والأسطورة حتّى نغذّي هذا الشعور الداخليّ.

وفي المحصلة: يمكن أنْ نعُدَّ الدين إطاراً يحقّق تكاملاً لشخصيّة الإنسان، بكلا بعديها النفسيّ والعقليّ أو الوجدانيّ والبرهانيّ الذي يحقّق توازناً بين المقدّس والعادي، وإهمال أيّ جانب يخلق رؤية مشوّهة حول الإنسان أوّلاً والدين ثانياً، ومن هنا كانت تأكيدات القرآن على كلا الجانبين، ففي الوقت الذي أكّد فيه على الفطرة والوجدان أكّد على دور العقل والتعقّل، فجعل معرفة الله قضيّة فطريّة وجدانيّة بقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) . وتحدّث في كثير من الآيات عن العقل مثل قوله: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إليكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).