ما هو الإعجاز في قوله تعالى (مرج البحرين يلتقيان)؟

السؤال: ما هو الاعجاز في قوله تعالى (مرج البحرين يلتقيان)؟! فالنبيّ رأى بحرين بينهما برزخا وكتبها في القرآن فأين الإعجاز وهو لم يذكر التفصيل؟! والعرب كان يوجد فيهم البحّار. ولو قلنا إنّ النبيّ لم يرَ بحراً فيحتمل أنّه نقله له شخصٌ فأين الإعجاز؟! (السؤال منقول من ملحد).

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

اعلم أخي القارئ الكريم أنّ هذه الآية - لا شكّ - في أنّها من دلائل الإعجاز القرآنيّ، إذْ أخبرت الآية عن ظاهرة فيزيائيّة تحدث في الطبيعية، ومع كونها موجودة في الطبيعة إلّا أنّها لم تكن معلومة للبشريّة إلّا مؤخّراً، والظاهرة هي حدوث برزخ مائيّ يحيط بمنطقة مصبّ مياه الأنهار في البحار والمحيطات، إذْ يحافظ هذا البرزخ على منطقة المصبّ بخصائصها المميّزة لها حتّى لو كان النهر يصبّ في البحر من مكان مرتفع في صورة شلّال، وقد تمّ التعرّف على هذه الظاهرة من قبل العلماء مؤخّراً، ففي عام 1942م تمّ الإعلان عن اكتشاف حواجز مائيّة تفصل بين البحار الملتقية، وفي عام 1962م تعرّف العلماء على دور هذه الحواجز في الحفاظ على خصائص الكتل المائيّة المتلاقية، وقد تطلّب الوصول إلى حقيقة وجود الحواجز بين الكتل البحريّة وعملها في حفظ خصائص كلّ بحر قرابة مائة عام من البحث والدراسة، اشترك فيها المئات من الباحثين واستخدم فيها الكثير من الأجهزة ووسائل البحث العلميّ الدقيقة، وبعد كلّ ذلك يأتي مثل هذا الملحد ليتحفنا بهذا الكلمات التي تنمّ عن جهل وسذاجة.

وما يجب لفت الانتباه إليه هو أنّ هذا الحاجز والبرزخ لا يمكن اكتشافه بمجرّد الرؤية البصريّة، ولذا لم تتعرّف البشريّة عليه إلّا بعد المجهودات الضخمة التي قام بها علماء البحار من بحوث وتجارب، وقد تمكّنوا أخيراً بمساعدة الأقمار الصناعيّة من التقاط صور لهذا البرزخ عن طريق تقنيّة خاصّة بالتصوير الحراريّ، وقد أكّدت هذه الصور وجود حاجز بين البحار المختلفة حتّى إنْ كانت تبدو شيئاً واحداً.

فالفاصل بين المياه المالحة والمياه العذبة عند التقائهما هو الذي يحول دون حركة كلٍّ من الماءين باتّجاه الآخر، فلا يمتزجان مع أنّ مستوى الماء العذب أعلى من مستوى الماء المالح، مضافاً إلى وجود حركة المدّ والجزر في البحار، ووجود الفيضانات في الأنهار، وبرغم ذلك لا يحدث التمازج بينهما لوجود هذا الحاجز، ويقول العلماء: إنّ منطقة المصبّ منطقة محجورة على معظم الكائنات الحيّة التي تعيش في البحر أو النهر؛ لأنّ هذه الكائنات تموت إذا دخلتها بسبب اختلاف الضغط الأسموزيّ.

فالله سبحانه وتعالى جعل هذا النظام المائيّ للحفاظ على الكتل المائيّة الملتقية حتّى لا يفسد بعضها خصائص بعضها الآخر، فتظلّ الأنهار محافظة على عذوبتها والبحار على ملوحتها، وهو ممّا يحافظ على الكائنات الحيّة التي تعيش في كليهما، وقد وصف القرآن هذه الظاهرة بأدقّ الألفاظ وأوجز العبارات، إذْ قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً﴾ (الفرقان: ٥٣).

ولا يتوقّف وجود هذا البرزخ على التقاء المياه العذبة مع المياه المالحة، وإنّما يحدث عند التقاء جميع البحار المختلفة مع بعضها، وبذلك يحافظ كلّ بحر على الخصائص التي تميّزه عن الآخر، قال تعالى: ﴿مَرَجَ البَحْرَينِ يَلتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾ (الرحمن: 19- 20)، وقال تعالى: ﴿أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (النمل:61).

ومن المناسب أن نختم الإجابة بما قاله الدكتور الزندانيّ في كتابه (بيانات الرسول ومعجزاته) إذْ قال : "القرآن الكريم الذي أنزل قبل أكثر من 1400 سنة قد تضمّن معلومات دقيقة عن ظواهر بحريّة لم تكتشف إلّا حديثاً بواسطة الأجهزة المتطوّرة، ومن هذه المعلومات وجود حواجز مائيّة بين البحار، قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ * بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ﴾ يشهد التطوّر التاريخيّ في سير علوم البحار بعدم وجود معلومات دقيقة عن البحار وبخاصّة قبل رحلة تشالنجر عام (1873 م) فضلا عن وقت نزول القرآن قبل ألف وأربعمائة سنة الذي نزل على نبيّ أميّ عاش في بيئة صحراويّة ولم يركب البحر، كما أنّ علوم البحار لم تتقدّم إلّا في القرنين الأخيرين وخاصّة في النصف الأخير من القرن العشرين. وقبل ذلك كان البحر مجهولاً مخيفا تكثر عنه الأساطير والخرافات، وكلّ ما يهتمّ به راكبوه هو السلامة والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم الطويلة، وما عرف الإنسان أنّ البحار المالحة بحار مختلفة إلّا في الثلاثينات من هذا القرن، بعد أن أقام الدارسون آلاف المحطّات البحريّة لتحليل عيّنات من مياه البحار، وقاسوا في كلّ منها الفروق في درجات الحرارة، ونسبة الملوحة، ومقدار الكثافة، ومقدار ذوبان الأوكسجين في مياه البحار في كلّ المحطّات، فأدركوا بعدئذ أنّ البحار الملحة متنوّعة وما عرف الإنسان البرزخ الذي يفصل بين البحار الملحة، إلّا بعد أن أقام محطّات الدراسة البحريّة المشار إليها، وبعد أن قضى وقتا طويلا في تتبّع وجود هذه البرازخ المتعرّجة المتحرّكة، التي تتغيّر في موقعها الجغرافيّ بتغيّر فصول العامّ، وما عرف الإنسان أنّ مائي البحرين منفصلان عن بعضهما بالحاجز المائيّ، ومختلطان في نفس الوقت إلّا بعد أن عكف يدرس بأجهزته وسفنه حركة المياه في مناطق الالتقاء بين البحار، وقام بتحليل تلك الكتل المائيّة في تلك المناطق، وما قرّر الإنسان هذه القاعدة على كلّ البحار التي تلتقي إلّا بعد استقصاء ومسح علميّ واسع لهذه الظاهرة التي تحدث بين كلّ بحرين في كلّ بحار الأرض.

فهل كان يملك رسول الله تلك المحطّات البحريّة، وأجهزة تحليل كتل المياه، والقدرة على تتبّع حركة الكتل المائيّة المتنوّعة؟.

وهل قام بعمليّة مسح شاملة، وهو الذي لم يركب البحر قطّ، وعاش في زمن كانت الأساطير هي الغالبة على تفكير الإنسان وخاصّة في ميدان البحار؟.

وهل تيسّر لرسول الله في زمنه من أبحاث وآلات ودراسات ما تيسّر لعلماء البحار في عصرنا الذين اكتشفوا تلك الأسرار بالبحث والدراسة؟.

إنّ هذا العلم الذي نزل به القرآن يتضمّن وصفا لأدق الأسرار في زمن يستحيل على البشر فيه معرفتها ليدلّ على مصدره الإلهيّ، كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾" (بيانات الرسول ومعجزاته ج 1 ص 83).