امتناع الظلم على الله تعالى لا ينافي كونه فاعلاً مختاراً..!.

السؤال: الثابت من الدين أنَّ الله يفعلُ ما يشاء ..، فكيف تكون معاقبة المطيع وإثابة العاصي ظلماً..؟!

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم ..، وبعد..

اعلم أخي السائل الكريم أنّ لسؤالكم هذا ارتباطاً بعقيدة الأشاعرة في إنكارهم للتحسين والتقبيح العقليّين، فمضمونه متفرّع عليها، ويبتني على مقدّمتين فاسدتين في تجويزهم على الله معاقبة المطيع وإثابة العاصي:

فأمّا المقدّمة الأولى: فترتبط بالتعريف الأوّل للظلم عندهم بأنّه: (التصرّف في ملك الغير من دون إذنه)، فإذْا كان العالَم كلّه والكون وما يحويه ملكاً لله سبحانه، ولا شريك له فيه، فإنّ تصرّفه في ملكه لا يكون مصداقاً للظلم، فلو عاقب نبيّاً من أنبيائه وأدخله النار، أو أثاب شقيّاً من الأشقياء وأدخله الجنّة لم يكن ذلك ظلماً منه؛ لأنّهما ملكه، وله أن يتصرّف في ملكه كيف يشاء ؛ ولذا قال تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء:23]))..!. [انظر مجموعة الرسائل: ص61 مذهب الأشاعرة في الأفعال].

وأمّا المقدّمة الثانية: فإنّ للظلم عندهم معنىً آخر هو: "مخالفة الأوامر"، ولأنّ الله سبحانه وتعالى هو المالك والحاكم المطلق، وله أن يتصرّف بملكه كيف يشاء، فحينئذٍ لا حاكمَ فوقه يمنعه من شيء ويأمره بآخر حتّى تكون مخالفته ظلماً، وعليه فدعوى حكم العقل بعدم جواز الظلم عليه تعني الحكم على الله بما يُحكَم به العباد من الأوامر والنواهي؛ إذْ معناه أنّ العقل يُعَيِّن وظيفة الله، فيوجب عليه شيئاً ويمنع شيئاً آخر، وهذا غير معقول، بل مخالف لموازين الشرع، فمن اعتقد به فهو كافر. [انظر المصدر السابق].

والصحيح أنّ ما ذكروه من معنيين للظلم لم يرد لا في كلام العرب ولا في استعمالات علماء الأمّة، ولا هو مضمون آية ولا رواية..!، وإنّما هما معنيان مبتدعان لا أصل لهما. قال ابن القيّم:(( إنّ طرق الناس اختلفت في حقيقة الظلم الذي يُنزَّه عنه الربُّ سبحانه وتعالى، فقالت الجبريّة: هو المُحال الممتنع لذاته، كالجمع بين الضدّين وكون الشيء موجوداً معدوماً، قالوا: لأنّ الظلم "إمّا التصرّف في ملك الغير بغير إذنه" ، "وإمّا مخالفة الأمر" ، وكلاهما في حقّ الله تعالى محال، فإنّ الله مالك كلّ شيء وليس فوقه آمِر تجب طاعته) ...إلى أن قال: (وقال أهل السنّة والحديث ومن وافقهم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه ...، وهذا قول أهل اللّغة قاطبة. وتفسير الظلم بذينك التفسيرين اصطلاح حادث ووضع جديد..!)) [مختصر الصواعق المرسلة لابن القيّم:ج1،ص221]، وكيفما كان، فإنّ الإجابة الواضحة والتامّة عن السؤال المطروح تتجلّى بثلاث نقاط:

النقطة الأوّلى: هي أنّ للظلم معنيين ثابتين ذكرهما علماء المسلمين وأقرّهم المحقّقون عليهما:

فأمّا المعنى الأوّل: فهو "وضع الشيء في غير موضعه المناسب له" ، وهذا ما أجمع عليه أهل اللّغة، ونصّ عليه أغلب علماء المسلمين، سواء علماء العامّة منهم - كما تقدّم في كلام ابن القيّم ــــ، أم علماء الطائفة. قال السيّد الخوئي "قدّه":(( إنّ حقيقة الظلم هي الاعوجاج في الطريق والخروج منه يمنة ويسرة ، وعدم الاستقامة في العمل ،وهو المعبّر عنه بجعل الشيء في غير موضعه)).[انظر محاضرات في أصول الفقه تقرير بحث السيّد الخوئي للشيخ الفيّاض:ج2،ص103 (بتصرّف يسير)].

وهذا المعنى هو أحد معنيين للظلم في القرآن، قال الراغب: ((...والظُّلْمُ عند أهل اللَّغة وكثير من العلماء: "وضع الشيء في غير موضعه المختصّ به، إمّا بنقصان أو بزيادة، وإمّا بعدول عن وقته أو مكانه"...)). [مفردات ألفاظ القرآن، مادة "ظلم" :ص537].

وأمّا المعنى الثاني: فما ذكره المحقّق المصطفويّ، قال في مادّة "ظلم" بعد سوقه كلمات اللّغويّين والعلماء: ((والتحقيق أنّ الأصل الواحد في المادّة: هو إضاعة الحقّ وعدم تأدية ما هو الحقّ، سواء كان في موردِ نفسه أو غيرِه أو في حقوق اللَّه المتعالِ، وبالنسبة إلى ذوي العقلاء أو غيرهم، وفي حقوقٍ مادّيّةٍ ومعنويّةٍ أو روحانيّةٍ...)). [التحقيق في كلمات القرآن: للشيخ المصطفويّ -:ص171].

والمتحصّل من ذلك أنّ الظلم قبيح عقلاً بالمعنيين؛ لأنّه بالمعنى الأوّل يقابل الحكمة التي هي: ((وضع الشيء في موضعه المناسب له))، فيكون ثبوته نفياً لها، وبالمعنى الثاني يقابل العدل الذي هو: (( إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه))، فيكون ثبوته نفياً للعدل.

النقطة الثانية: وهي ترتبط بالمقدّمة الثانية التي ذكرها الأشاعرة في التعريف الثاني للظلم عندهم، فإنّه لا يلزم من حكم العقل باستحالة صدور الظلم منه تبارك وتعالى التعارض مع مشيئته تعالى وكونه قادراً وفاعلاً مختاراً له أن يفعل ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء؛ إذْ ما تنفيه الأدلّة العقليّة الآتي ذكرها ليس هو قدرة الله سبحانه على فعل القبيح أو ترك الحَسَن، وإنّما المنفي بالأدلّة هو إمكان صدور ذلك منه جلّ شأنه؛ وذلك لمنافاته لكماله المطلق، فهو تبارك وتعالى قادر على تعذيب المؤمن وإثابة العاصي، لكنّه يتنزّه عن فعله لوضوح قبحه. وها هو الإنسان العاقل المؤمن قد تعرض له المعصية فلا يرتكبها، لكنْ لا لعجزه عنها وعدم قدرته عليها، بل لإدراكه قبحها ومنافاتها للكمال؛ فلذلك يتنزّه عنها، ومن الواضح أنّ كلّ ما ينافي الكمال فالله تعالى أولى بالتنزّه عنه.

وبعبارة أخرى: إنّ المراد بحكم العقل هو: أنّ العقل حين يتدبّر في صفات الله تعالى يجده مَجْمَعاً للكمالات كلّها، وحينئذٍ يدرك العقل ويتفهّم ويتعقّل استحالة صدور الظلم منه عزّ وجلّ، لأنّ الظلم قبيحٌ سواء بالمعنى المنافي للحكمة أم المنافي للعدل، والإله الجامع لكلّ تلك الكمالات يتنزّه عن فعله وإن كان قادراً عليه، وحينئذِ يحكم العقل - أيْ يجزم ويقطع - باستحالة فعله تعالى للظلم. فليس معنى حكم العقل إلّا إدراكه الجازم - كما سيأتي في الأدلّة ــــ لتلك الملازمة بين كمال الله المطلق وبين استحالة فعله للقبيح.[انظر أصول المظفّر:ج2،ص177، وكذلك محاضرات في أصول الفقه - تقرير بحث السيّد الخوئيّ للشيخ الفيّاض:ج2،ص105].

وأمّا ما فهمه الأشاعرة من قوله تعالى: ((لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)). [الأنبياء:23]. ففاسد؛ لأنّه إثبات للعبثيّة في حقّه تعالى، وإنّما مقصود الآية أنّ سؤال الله سبحانه عن فعله وإن كان مستحيلاً في نفسه؛ إذْ لا حاكميّة فوق حاكميّته تعالى، لكنّه لو فُرِضَ إمكانه - وفرض المحال ليس بمحال - لكان السؤال لغواً لأنّه سؤال من الإنسان الجاهل لله العالم الخبير والقادر الحكيم الذي قامت الأدلة العقليّة والنقليّة على حكمته وعدله وانتفاء الظلم والعبث عنه، وهذه هي سيرة العقلاء، فإنّهم لا يسألون الطبيبَ الحاذقَ أو المهندس الماهر - مثلاً - عن فعلهما فيما لو ثبتت خبرتهما واستحال خطؤهما مع أنّ سؤالهما ممكن بسهولة..!.

النقطة الثالثة والأخيرة: في بيان بعض إدراكات العقل وأدلّته على استحالة الظلم عليه تعالى، ونكتفي في المقام بثلاثة منها:

الدليل الأوّل: أنّ العقل يُدرك بشكل قاطع أنّ صدور الظلم من الله جلّ شأنه لابدّ له من سبب يبعث عليه، وقد ذكروا لذلك أربعة أسباب لا خامس لها: فإمّا أنّه تعالى يفعل الظلم القبيح بسبب جهله بقبحه، وإمّا أن يكون عالماً بقبحه لكنّه مقهور ومجبور عليه من قِبَلِ جهةٍ أقوى منه تعالى فلا يستطيع تركه كما هو حال الجلّادين أمام ملوكهم، أو يعلم بقبحه لكنّه محتاج إليه - مثلاً لحماية سلطانه تعالى كما يحمي الحكّام الظلمة عروشهم وسلطانهم بواسطة الظلم -، وإمّا أن يعلم بقبح الظلم لكنّه يفعله عبثاً ولهواً وتشهيّاً..!. وكما ترى فإنّ جميع هذه الوجوه لا تليق به تبارك وتعالى وهو مُنزَّه عنها، فإنّ من صفاته أنّه العالِمُ الخبير والقادر القاهر والغنيّ والحكيم؛ فلهذا يستحيل صدور الظلم عنه جلّ شأنه وتقدّست أسماؤه بأيّ وجه منها. [انظر عقائد الإماميّة للشيخ المظفّر:ص41، وكذلك نهج الحقّ وكشف الصدق للعلّامة الحلّيّ:ص85]، وهذا الدليل سيّال يجري في نفي كلّ فعلٍ قبيح عن الله تعالى.

الدليل الثاني :أنّ الله تعالى وعد المطيعين بالثواب وتوعّد العاصين بالعذاب، وقَرن الجزاء بالكسب والعمل كما صرّحت به العشرات من آيات الذكر الحكيم، قال تعالى: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) [فصّلت:46]، وقال أيضاً: ((وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)) [البقرة:281]، فلو فعلَ الظلم للزم كذبه تعالى ومخالفته للوعد والوعيد، وبالتالي عدم وثوق الناس به تعالى وبكلّ ما جاء عنه.[انظر النكت الاعتقاديّة للشيخ المفيد: ص33].

الدليل الثالث: أنّ العقل يُدركُ أنّه تعالى أرسل الأنبياء لغرض هداية الناس وصلاحهم وترغيبهم بفعل الطاعة وترك المعصية، فلو كان يعذّب المطيع ويثيب العاصي لكان سبحانه ناقضاً لذلك الغرض؛ لأنّ الإنسان حينئذٍ لا يجد مبرّراً يحمله على الإيمان ويدفعه إلى اتّباع الأنبياء في فعل الطاعة أو ترك المعصية، وبذلك تكون بعثة الرسل والأنبياء (ع) لغواً وعبثاً ؛ إذْ لا محصّل وراءها ولا فائدة تُرتجى منها. [انظر محاضرات في أصول الفقه تقرير بحث السيّد الخوئي للشيخ الفياض:ج2،ص104] هذا تمام الجواب..،

ودمتم سالمين.