ماذا يعني من دون الله؟
السؤال: ماذا يعني (دون الله) وهل سيّدنا الحسين دون الله أم فوق الله؟ أكيد دون الله. ركّز لي على كلمة (من دون الله) يعني كلّ الأنبياء والأولياء والملائكة والناس والجنّ وكلّ المخلوقات هي دون الله وليست فوق الله. ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ فَٱدۡعُوهُمۡ فَلۡیَسۡتَجِیبُوا۟ لَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ [سورة الأعراف ١٩٤] اذا قلت: فوق الله ..فقد كفرت، واذا قلت :دون الله يعني تحت الله، والحسين أيضاً داخل في الآية. أيْ بمعنى عبادٌ أمثالكم يأكل ويشرب والدليل ليس بإله لأنّ مات وهو عطشان وبعدين أنت نسيت كلمة عباد أمثالكم. عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ أيْ: لا فرق بينكم وبينهم، فكلّكم عبيد للّه مملوكون، فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنّها تستحقّ من التوسّل بهم شيئاً فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فإن استجابوا لكم وحصلوا مطلوبكم، وإلاّ تبيّنَ أّنكم كاذبون في هذه الدعوى، مفترون على اللّه أعظم الفرية؟
الجواب:
اعلم أخي القارئ الكريم أنّ الدعاء بمعنى العبادة - لا شكّ - بأنّه لا يجوز إلّا لله تعالى، فكلُّ من يدعو من (دون الله) من يعتقد بألوهيّته أو ربوبيّته أو أنّه مستقلّ في فعله عن الله يكون عابداً له، فمن هنا كان الدعاء مخّ العبادة؛ لأنّ الداعي عندما يدعوا يكون عالماً ومتيقّناً بأنْ لا أحد يمكن أن يجلب له نفعاً أو يدفع عنه ضرّاً إلّا الله تعالى، فحقيقة الدعاء إقرار لله تعالى وحده بالقدرة والسلطان والهيمنة وأنّ جميع ما هو دونه محتاج إليه.
وعليه فإنّ حقيقة التوحيد ليست في مجرّد الاعتقاد النظريّ بأنّ الله واحد، وإنّما حقيقته في تحطيم جميع الأصنام التي يُظَنُّ أنّ لها مع الله قدرة أو سلطان، ويتجلّى ذلك عمليّاً ويتمظهر من خلال الخضوع والتذلّل وطلب العون والحاجة منه تعالى وحده، فكلّ من يلجا لمخلوق ويتوسّل إليه بالدعاء - في أيّ حاجة من حاجاته - وهو يظنّ أنّه قادر على ذلك من دون الله يكون عابداً له بالضرورة.
وبعد بيان هذه القاعدة الكلية يجب الوقوف على معنى (من دون الله) حتّى يرتفع الاشتباه الذي وقع فيه السائل، وسنشرح ذلك بشكل ميسّر ومن دون أيّ تعقيد.
إذا كان معنى الدعاء هو طلب العون والحاجة، فحينها كلّ من يطلب من غيره قضاء حاجته يكون قد دعاه، وهنا نسأل: هل كلّ دعاء عبادة؟ وهل كلّ من يطلب الحاجة من غيره يكون قد عبده؟
فممّا لا شكّ فيه أنّ الله تعالى أقام الدنيا على الأسباب والمسبّبات، ولا يمكن للإنسان العيش من دون التوسّل بها لجلب النفع لنسفه أو دفع الضرر عنها، فالموحّد والمشرك يشتركان في التوسّل بهذه الأسباب لقضاء حوائجهم، فالإنسان - بوصفه إنسان - لا يمكنه الاستغناء عنها في جميع أمور حياته، وهنا نسأل أيضاً: ما الفرق بين المؤمن الموحّد وبين الكافر المشرك في توسّلهما بهذه الأسباب؟
والجواب عن ذلك بأنّ الفرق الأساس هو أنّ المؤمن الموحّد يرجع هذه الأسباب والمسبّبات لله تعالى، في حين أنّ الكافر المشرك يتعامل معها على أنّها قائمة بنفسها ولا حاجة لإرجاعها لأيّ سلطة غيبيّة، فالمؤمن مثلاً يتوسّل بالطبيب ويتناول الأدوية طلباً للشفاء، إلّا أنّه يعتقد بأنّ الطبيب ليس له سلطة من دون الله على ذلك، فالشفاء في حقيقته من الله تعالى والطبيب ليس إلّا مجرّد وسيلة وواسطة، في حين أنّ الكافر والمشرك لا يعتقد بوجود سلطة على الشفاء خارج حدود الطبيب والدواء الذي يتناوله، فعندما يلجا للطبيب، يلجا إليه بوصفه مالك للشفاء من دون أيّ سلطة غيبيّة.
وهكذا الحال في جميع ما يتوسّل به الإنسان من أسباب لقضاء حاجاته، فإمّا أن يتعامل معها على أنّها مستقلّة ولها سلطة من دون الله، وإمّا أن يتعامل معها على أنّها قائمة بالله ولا سلطة لها من دون الله، وبذلك يكون معنى (الدعاء من دون الله) هو طلب الحاجة من غير أن يكون لله شأن في قضائها، أمّا إذا كان طلب الحاجة من الله بواسطة التوسّل بالأسباب فلا يكون ذلك الدعاء من دون الله، وليس للأمر علاقة بأن يكون المدعوّ فوق أو تحت كما توهّم السائل، إلّا إذا كان يقصد بالفوقيّة والتحتيّة أن يكون له سلطة فوق أو تحت سلطة الله، فمن يعتقد بشيء له سلطة فوق سلطة الله أو له سلطة تحت سلطة الله ولكنّها مستقلّة بنفسها عن الله يكون مشركاً لا محالة، وهذا المعنى يعود لنفس المعنى الذي بيّنّاه.
ومن الاشتباهات التي وقع فيها الوهّابيّة هي اعتقادهم بأنّ التوسّل بالأسباب الطبيعيّة لا يؤدّي للشرك، فمن يتوسّل بالطبيب طلباً للشفاء لا يكون مشركاً، في حين من يتوسّل بالأسباب الغيبيّة أو غير المادّية يكون مشركاً، كأن يطلب من وليّ من الأولياء أن يشفيه من دون وسائل مادّية، وهذا خلط واضح، إذْ جعلوا نوع الأسباب والسنن ملاكاً للتوحيد والشرك، فيكون الأخذ بالسنن المادّية عين التوحيد، والأخذ بالسنن الغيبيّة عين الشرك.
وإذا أمعنا النظر في السنن والأسباب - الطبيعيّة والغيبيّة - لوجدنا أنّ ملاك التوحيد والشرك خارج عنها، فالأمر الذي يجعل التوسّل بهذه الأسباب شركاً أو توحيداً هو نوع الاعتقاد في تأثيرها، فمن كان يعتقد بأنّها تؤثّر بشكل مستقلّ عن الله يكون مشركاً سواءٌ أكان السبب طبيعيّاً أم غيبيّاً، ومن يعتقد بأنّها تؤثّر بأذن الله وإرادته يكون موحّداً سواءٌ أكان السبب طبيعيّاً أم غيبيّاً.
فمثلاً: من يعتقد بأنّ الدواء الفلانيّ يشفي من المرض بصورة مستقلّة وذاتيّة يكون مشركاً، وبالتالي الملاك في التوحيد والشرك هو الاعتقاد بالاستقلاليّة وعدمها، ولا علاقة له بنوع السبب والوسيلة، ومن هنا إذا اعتقد إنسان ما بأنّ جميع الأسباب غير مستقلّة في وجودها ولا في تأثيرها؛ بل هي مخلوقة لله تعالى وقائمة بأمره وإرادته يكون اعتقاده هذا عين التوحيد.
ولتسهيل الأمر يمكن تقسم الفعل الإلهيّ إلى قسمين:
1ـ فعل من غير واسطة (كن فيكون).
2ـ فعل بتوسّط واسطة، مثل أن ينزل الله المطر بواسطة السحاب، ويشفي المريض بواسطة العقاقير الطبّية.. ويحفظ الأمّة من الهلاك لوجود الرسول (ص)، ويدخل الجنّة بواسطة الشفاعة، ويحي الموتى أو يخلق شيء بواسطة الأنبياء (ع)... وهكذا يشمل ذلك الأسباب الطبيعيّة وغير الطبيعيّة.
فإذا تعلّق الإنسان وتوسّل بهذه الوسائط (المادّية أو الغيبيّة) معتقداً أّنها غير مستقلّة يكون موحّداً ولا يكون تعلّقه بها من دون الله، ومثال على ذلك نجد أنّ نبيّ الله سليمان (ع) توسّل بسبب غير مادّي لجلب عرش بلقيس من اليمن إلى الشام.
وللوهابية خلط واشتباه آخر في قضيّة التوحيد والشرك، إذْ جعلوا من ملاكات التوحيد والشرك القدرة على المطلوب أو عدم القدرة عليه، فإذا طلب منه أمراً يقدر عليه يكون موحّداً وإذا طلب منه ما لا يقدر عليه يكون مشركاً... وهذا جهل واضح؛ لأنّ القدرة وعدمها لها علاقة بالفائدة من الطلب، وهل لهذا الطلب جدوى وفائدة أو ليس له جدوى؟ ولا علاقة لها بالتوحيد والشرك.
فمن يطلب من مشلول لا يقدر على الحركة بأنْ يحضر له كاس من الماء لا يقال له مشرك، فعدم قدرة المشلول على ذلك لا علاقة لها بتوحيد أو شرك الذي طلب الماء، وأشدّ ما يقال له: أنت مجنون كيف تطلب من مشلول إحضار الماء؛ ولا يقال له: مشرك.
وقد فرع الوهابيّة على هذه المسالة مناط آخر في التوحيد والشرك وهو ؛ إذا كان الطلب من الحيّ فلا إشكال فيه، بدعوى أنّ الحيّ قادر، أمّا إذا كان طلبه من ميّت فيكون مشركاً بدعوى أنّ الميّت لا يقدر عليه. إذْ يقول ابن القيّم ـ تلميذ ابن تيميّة ـ: (ومن أنواع الشرك، طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجّه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإنّ الميّت قد انقطع عمله هو لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً). (فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد، ص67 ط6).
وهذا من عجائب القول وغرائبه، فكيف يكون طلب شيء محدّد من حيّ عين التوحيد، وطلب ذلك الشيء نفسه من ميّت شركا؟!، فإذا كانت الحجّة على ذلك هو أنّ الميّت قد أنقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، فإنّ هذه الحجّة ليست خاصّة بالميّت، وإنّما تشمل الحيّ أيضاً، فالحيّ أيضاً لا يملك من نفسه ضرّاً ولا نفعاً، فكلّ ما هو موجود لا يملك لنفسه شيئاً سواءٌ أكان حيّاً أم ميّتاً، وإنّما يملك بإذن الله وإرادته حيّاً وميّتاً.
ولم نتعرض في هذه الإجابة إلى الآيات والروايات التي لها علاقة بالتوحيد والشرك، وذلك لوجود عشرات الأجوبة في مركز الرصد العقائديّ التي تناولت موضوع التوحيد والشرك بين الوهابيّة والشيعة.
وفي المحصلة: أنّ الدعاء من دون الله لا يشمل دعاء المسلمين (سنّة وشيعة) لرسول الله (ص) أو لأمير المؤمنين (عليه السلام) أو للإمام الحسين (عليه السلام) أو لغيرهم من الأئمّة والأولياء؛ وذلك لأنّهم لا يعتقدون بألوهيّتهم أو ربوبيّتهم أو أنّهم قادرون على شيء من دون الله تعالى، وجواز ذلك مجمع عليه بين المسلمين والأدلّة على جوازه كثيرة، ومن أنكر ذلك من الوهابيّة أنكره على أنّه بدعة لم يعلّمه رسول الله (ص) لأصحابه، إذْ يقول ابن باز: "التوسّل بجاه النبيّ (ص) وبجاه الأنبياء (ع)، أو بحقِّ النبيّ، أو بحقِّ الأنبياء (ع)؛ بدعة في الدعاء، ومنكر لا يجوز، وهذا الذي قاله جمهورُ أهل العلم، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيميّة وابن القيّم وأئمَّة الدعوة، كالشيخ محمّد بن عبدالوهّاب وغيرهم؛ لأنَّ الرسول (ص) ما كان يُعلِّم الناسَ هذا".
وقد ناقش علماء الشيعة هذا المدّعى في كثير من كتبهم ومؤلّفاتهم وأثبتوا بطلانه، ومن أراد الوقوف على بعض الكتب ذات الطابع المختصر والواضح فيمكنه الرجوع إلى كتاب التوسّل أو كتاب التوحيد والشرك للشيخ جعفر السبحانيّ.
اترك تعليق