الحكمة من رجوع الإمامين الحسنين "عليهما السلام" من الكوفة إلى المدينة..!.

سؤال الموقع الفرنسي: لماذا رجعَ الإمامان الحسن والحسين "عليهما السلام" إلى المدينة بعد استشهاد أبيهما "عليه السلام" ، بحيث اضطُرَّ الإمام الحسين "عليه السلام" إلى إرسال مسلم بن عقيل "عليه السلام" إلى الكوفة ثانيةً إبّان نهضته..؟.

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، وبعد..، لاشكّ في أنّ أئمّة أهل البيت "عليهم السلام" هم ورثة رسول الله "صلّى الله عليه وآله" في مقاماته وصلاحيّاته كلّها ما عدا النبوّة ، وأنّهم أمناؤه على الرسالة ومشروع التغيير والإصلاح ، وخلفاؤه في الولاية على الأمّة ، ومن هنا فلا بدّ من أن تكون تحرّكاتهم الجغرافيّة منسجمة مع متطلّبات المرحلة التي يمرّ بها كلّ إمام منهم "عليهم السلام" عند أدائه لمهامّه ، أسوة بما وقع من قَبلُ للمصلحين والرساليّين من الأنبياء والمرسلين "عليهم السلام" في تلك التحرّكات ، سواء أكانت اختياريّة كهجرة إبراهيم "على نبيّنا وآله عليه الصلاة والسلام" من بابل إلى الشام ثمّ منها إلى مصر، أم اضطراريّة كهجرة النبيّ "صلّى الله عليه وآله" من مكّة إلى المدينة ، أم إكراهيّة قهريّة كحركة نبيّ الله يوسف "عليه السلام" من الشام إلى مصر مع السيّارة ، وبعبارة أوضح فإنّه لا بدّ من أن تكون تحرّكات الأئمّة المعصومين "عليهم السلام" مندرجة تحت عنوان رعايتهم "عليهم السلام" لمصلحة الإسلام والمسلمين ، أو داخلة في حيّز الرضا والانقياد والتسليم التامّ لمقادير السماء.

ومن هنا فإنّ مَن أحاط بطبيعة المرحلة التي عاشها الإمام الحسن "عليه السلام" حين تولّيه لمنصب الإمامة يدرك جيّداً جملة من الأسباب والدواعي التي يمكن تقف وراء رجوعه مع أخيه الحسين "عليهما السلام" من الكوفة إلى المدينة المنوّرة، ونحن وإن لم نقف على نصّ معيّن يذكر بعضاً من تلك الدواعي والأسباب، إلّا أنّنا من خلال السبر والتفحّص لطبيعة تلك المرحلة يمكننا تلمّس بعضها بوضوح تامّ، وسنذكر هنا أهمّ ما يمكن استنتاجه:

السبب الأوّل: هو كون المدينة المنوّرة مركزاً للإشعاع الحضاريّ والفكريّ للرسالة الإسلاميّة آنذاك ومهبطاً للوحي والتنزيل، بخلافه في الكوفة فليست كذلك.

ولَمّا كان المشروع الأمويّ الذي عمل عليه معاوية بن أبي سفيان يستهدف طمس معالم الدين الإسلامي - كما صرّح هو بنفسه للمغيرة بن شعبة بذلك فقال: ((.... وإنّ ابن أبي كبشة [أي النبيّ صلّى الله عليه وآله] ليُصاح به كلّ يوم خمس مرات: {أشهد أنّ محمّداً رسول الله} ، فأيّ عملٍ يبقى، وأيّ ذكرٍ يدوم بعد هذا لا أبّاً لك ! لا والله إلّا دفناً دفناً..!.))[للوقوف على تمام القصّة وهذا الكلام انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي:ج5، ص130 ، وكذا مروج الذهب للمسعودي أحداث:ج3، ص454 أحداث سنة 212 هـ] - فلا بدّ - إذنْ - من قطع الطريق على الأمويّين وحياطة مركز الدعوة والرسالة من نفوذ مشروعهم إليها ، فأسّس الإمام الحسن "عليه السلام" حركة فكريّة قويّة أدّت بأهل المدينة إلى رفض خلافة بني أميّة من المبدأ إلى المنتهى وعلى مرّ السنين والأيّام؛ ولهذا لم تكن موضع ترحيب في يوم ما بمعاوية أو بولده يزيد "عليهما اللّعنة" ، قال الطبرسيّ: ((قدم معاوية بن أبي سفيان حاجّاً في خلافته فاستقبله أهل المدينة، فنظر فإذا الذين استقبلوه ما فيهم أحد من قريش، فلمّا نزل قال: ما فعلت الأنصار وما بالها لم تستقبلني..؟!. فقيل له: إنّهم محتاجون ليس لهم دوابٌّ. فقال معاوية: فأين نواضحهم؟. فقال قيس بن سعد بن عبادة وكان سيّد الأنصار وابن سيّدها: أفنوها يوم بدر واحد وما بعدهما من مشاهد رسول الله صلّى الله عليه وآله ، حين ضربوك وأباك على الإسلام حتّى ظهر أمر الله وأنتم كارهون ، فسكت معاوية..!.))[الاحتجاج:ج2،ص15] ؛ وهو ممّا أدّى ببني أميّة إلى الانتقام من أهلها في وقعة الحرّة ، ثمّ إباحتها لجيوشهم ثلاثة أيّام فعاثوا فيها الفساد بالقتل وسلب الأموال وهتك الأعراض، حتّى روى العامّة ما يندى له جبين كلّ غيور..!. ، قال المدائنيّ: (( أباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيّام يقتلون الناس ويأخذون الأموال ووقعوا على النساء حتّى قيل: إنّه حبلت ألف امرأة في تلك الأيّام.)) وعن هشام بن حسّان: ((ولدت ألف امرأة من أهل المدينة من غير زوج..!.)) [انظر عمدة القارئ في شرح صحيح البخاريّ للعينيّ:ج17،ص221 ، البداية والنهاية لابن كثير:ج8،ص241] ، ولم يسجّل لنا تاريخ تلك الفترة موقفاً لمدينة إسلاميّة ضد الأمويّين كموقف أهل المدينة.

السبب الثاني: تحصين المسلمين - قدر المستطاع - من مختلف البلدان الإسلاميّة من الانحراف الفكريّ والعقديّ، ومن المتاجرة بدينهم بدخولهم في الولاء لبني أميّة، فالمدينة المنوّرة كانت قبلة القلوب والألباب لدى المسلمين؛ لكونها مرقداً للنبيّ الأكرم "عليه وآله أفضل الصلاة والسلام" ومجمعاً لأهل بيته "عليهم السلام" وسائر بني هاشم، ولنساء النبيّ وصحابته "صلّى الله عليه وآله".

هذا، وقد كانت سياسة بني أميّة تعتمد مبدأ شراء الذمم والضمائر لتكوين قاعدة جماهيريّة مناصرة وواسعة النطاق، وهذا أمر أشهر من أن يُذكر، فقد كان معاوية يستقدم زعماء القبائل وأصحاب النفوذ من مختلف أنحاد الدولة الإسلاميّة ومدائنها لأجل ذلك. فمن أمثلة ذلك: ما رواه علماء العامّة من أنّ كلّاً من الحتّات بن يزيد المجاشعيّ - عمّ الفرزدق - والأحنف بن قيس وجارية بن قدامة السعديّ قد وفدوا على معاوية ففضّلهما على الحتّات في الجائزة ولم يعلم ذلك الحتّات فلمّا خرجوا علم به فرجع إليه وقال: " أَفَضّلَتَ عليَّ محرّقاً ومخذّلاً..؟!" ، فقال معاوية: "إنّما اشتريتُ منهما دينَهما" ، قال: "وديني أيضاً فَاشتَرِه" ، فألحقه بهما..!.))[انظر تاريخ دمشق لابن عساكر:ج10،ص277 ، أُسد الغابة لابن الأثير:ج1،ص379 في ترجمة الحتات ، الإصابة لابن حجر:ج2،ص25 ، الأنساب للسمعانيّ:ج5،ص198 ، الوافي بالوفيات للصفديّ:ج10،ص99 ، وغيرهم كثير] ، ومن طالع سيرة أبي هريرة وسمرة بن جندب وعمرو بن العاص والأشعث بن قيس، وغيرهم من أضراب هؤلاء وجد فيهم أمثلة أخرى للموضوع.

لذا استقرّ الإمام "عليه السلام" في المدينة التي يأتيها المسلمون من كلّ حدب وصوب ليعمل على معونة أكبر قدر ممكن من الضعفاء والفقراء والمعوزين من مختلف البلاد الإسلاميّة في حفظ دينهم عن طريق مد يد العون لهم وسدّ احتياجاتهم ؛ ولهذا برزت ظاهرة الكرم الحسنيّ آنذاك كواحدة من أشهر معالم شخصيّة الإمام الحسن "عليه السلام" فذاع صيته في مختلف البلاد الإسلاميّة وتغنّى الشعراء به وبكرمه وجوده ودَوَّن العلماء من مختلف المذاهب في ذلك العشرات من الحوادث حتّى صار "عليه السلام" يُعرف بلقب "كريم أهل البيت عليهم السلام" ، ولم يكن أحد آنذاك يدرك الأبعاد الرساليّة لهذه الظاهرة ، بل لعلّه إلى يومنا هذا لم يدرك الكثير من الخاصّة - فضلاً عن العامّة - فلسفة الكرم الحسنيّ وغاياته السامية والنبيلة.!.[انظر شيئاً من أحوال كرمه "عليه السلام" في كتاب إحياء علوم الدين للغزاليّ:ج10،ص34 ، ومناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب:ج3،ص182].

السبب الثالث: إدراك الإمام الحسن "عليه السلام" بأنّ القادم من الأيّام كفيل بتشتّت وانحسار القواعد الشيعيّة المخلصة بولائها لأهل البيت "عليهم السلام" في الكوفة ؛ بسبب اضطهاد بني أميّة لهم ، ويشهد لذلك أنّ واحداً من بنود صلحه "عليه السلام" مع معاوية كان يتعلّق بأخذ الأمان لشيعة عليّ "عليه السلام" وعدم تتبّعهم بالقتل، فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: ((ما لقينا أهلُ البيت من ظلمِ قريشٍ وتظاهرهم علينا وقتلهم إيّانا..! ، وما لقيت شيعتنا ومحبّونا من الناس....، إلى أن قال "عليه السلام": وكان عِظَمُ ذلك وكثرتُه في زمن معاوية بعد موت الحسن "عليه السلام" ، فقتلت الشيعة في كلّ بلدة وقُطّعت أيديهم وأرجلهم وصلبوهم على التهمة والظنّة من ذكر حبّنا والانقطاع إلينا ، ثمّ لم يزل البلاء الشديد يزداد من زمن ابن زياد بعد قتل الحسين "عليه السلام" ، ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم بكلّ قتلة وبكلّ ظنّة وبكلّ تهمة ، حتّى إنّ الرجل لَيُقالُ له: زنديق أو مجوسيّ كان ذلك أحبَّ إليه مِن أن يُشارَ إليه بأنّه من شيعة الحسين "عليه السلام".!...الخبر))[انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:ج11،ص43، الاحتجاج للطبرسيّ:ج2،ص211] ، وإلى هذا المعنى يشير المولى أبو عبد الله الحسين "عليه السلام" يوم العاشر من المحرّم بمخاطبته أهل الكوفة بهذا الخطاب: (يا شيعة آل أبي سفيان) ؛ فإنّ دخول بني أميّة للكوفة وبشكل رسميّ وسلطويّ سيتيح لهم إمكانيّة استهداف الشيعة فيها ، بل قد حصل ذلك بالفعل في أغلب المدن العراقيّة وعلى رأسها الكوفة والبصرة، إذْ سجن الكثير منهم وقُتل آخرون، فأدّى ذلك إلى تفرّق أغلب الباقين منهم في بلاد الله العريضة بحثاً عن الأمن ولقمة العيش الكريم، بحيث استفرغت الكوفة من محتواها الولائيّ، ولم يبقَ فيها إلّا من عُلِمَ بولائه للأمويّين أو عدمِ ولائه للعلويّين على الأقل..!.

السبب الرابع: استحقاق المتخاذلين من أهل الكوفة عن نصرته "عليه السلام" لأنواع العقوبات الإلهيّة؛ إذْ لا يبعد أن يكون الإمام قد علم باستحقاق هؤلاء - وهو الغالبيّة العظمى من أهل الكوفة - للحرمان من بركات وجوده المقدّس "عليه السلام" بين أظهرهم بعد أن فعلوا ما فعلوا معه، حتّى إنّه" عليه السلام" قد تعرّض - على أيدي رجال من معسكره وجيشه - إلى عدّة محاولات اغتيال، إذْ نهبوا فسطاطه، وانتزعوا مصلّاه من تحته [انظر أنساب الأشراف للبلاذريّ:ج3،ص35 ، الإرشاد للمفيد:ج2،ص11] ، ولعلّه إلى هذا المعنى يشير "عليه السلام" فيما رواه ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة [ج16،ص16] من أنّ خروجه "عليه السلام" عن الكوفة لم يكن عن رغبة منه..! ، قال: (( قال المدائنيّ : ...، فلمّا كان عام الصلح، أقام الحسن "عليه السلام" بالكوفة أيّاماً ، ثمّ تجهَّز للشخوص إلى المدينة ، فدخل عليه المسيَّب بن نجيّة الفزاريّ وظبيان بن عمارة التيميّ لِيودّعاه ، فقال الحسن : الحمد لله الغالب على أمره، لو أجمع الخلق جميعا على ألّا يكون ما هو كائن ما استطاعوا .... إلى أن قال: فعرض له المسيَّب وظبيان بالرجوع ، فقال: ليس [ لي ] إلى ذلك سبيل، فلمّا كان من غدٍ خرج ، فلمّا صار بِدَيرِ هند نظر إلى الكوفة ، وقال:

"ولا عن قَلى فارقتُ دارَ معاشري * هم المانعون حوزتي وذماري" ))

فانظر ما اشبه هذا الكلام بما قاله رسول الله "صلّى الله عليه وآله" حينما خرج من مكّة مهاجراً إلى المدينة: ((والله إنّي لأخرج منك وإنّي لأعلم أنّك أحبّ بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت)) [انظر السيرة الحلبيّة:ج2،ص196].

ومجمل القول في هذا الموضوع هو أنّ اتّخاذ الكوفة عاصمة للدولة الإسلاميّة من قِبَلِ أمير المؤمنين "عليه السلام" كانت له أسبابه ومبرّراته ، وكذلك غاياته وأهدافه ، والتي من أهمّها الحدّ من نشاطات حكومة الشام وإيقاف توسّعها باتجاه العراق والحجاز ، ومنها أيضاً توسعة القاعدة الجماهيريّة الموالية لأهل البيت "عليهم السلام" في العراق وتولّي تربيتها عن قرب... إلى غير ذلك.

فهذه الغايات أصبح تحقيقها متعذّراً أو متعسّراً بشدّة بعد شهادة المولى أمير المؤمنين "عليه السلام" ، وحصول الصلح كرهاً مع معاوية نتيجةً لتخاذل الكوفيّين ، بل لا مبالغة إذا قلنا بأنّ واحداً من أهمّ أسباب الرجوع إلى المدينة هو التمهيد لنهضة الحسين "عليه السلام" من خلال حياطته وحفظه وإبعاده عن مؤامرات بني أميّة الذين كانوا على أتمّ الاستعداد لاغتيال أيٍّ منهما "عليهما السلام" كما اغتالوا أباهما أمير المؤمنين "عليه السلام".

هذا ما وفقّنا الله تعالى لتحريره في المقام .. ودمتم سالمين.