الشيعة وموقفها من الصفات الخبريّة التي جاءت في نصوص القرآن؟

السؤال: قد ذكر الله استواءه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه وذكر فوقيّته على خلقه في مواضع كثيرة وذكر أسمائه وصفاته في آيات كثيرة...ثمّ نرى البعض يجحد بكلّ ذلك ويقول الله غير موجود في مكان ولا فوق العرش ويتهرّب من إثبات الصفات!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

اعلم أخي القارئ الكريم أنّ المرتكز المنهجيّ للمدارس الحشويّة والسلفيّة هو السماع، فهم يحملون الآيات والروايات على ظاهرها حتّى لو كان ظاهرها مخالفاً لمحكمات العقل والشرع، إذْ يقول ابن حنبل في رسالته: (فنروي الحديث كما جاء على ما روي، نصدّق به ونعلم أنّه كما جاء) (الملل والنحل للشهرستانيّ ج1 ص165).

وفي عقائد الإسلام من رسائل محمّد بن عبد الوهّاب قال: "وأخبرني عليّ بن عيسى أنّ حنبليّاً حدّثهم قال: سالت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروي إن الله تبارك وتعالى ينزل كلّ ليلة إلى سماء الدنيا) (وأنّ إله يُرى) (وأنّ الله يضع قدمه) وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدّق بها ولا كيف ولا معنى. أي لا نكيّفها ولا نحرّفها بالتأويل. فنقول معناها كذا، ولا نردّ منها شيئاً" ( في عقائد الإسلام ـ من رسائل الشيخ محمّد بن عبد الوهاب ص155).

والذي ينظر إلى كتب الحنابلة يجدها مشحونة بالعقائد المتناقضة والمخالفة لضرورات العقل والمنطق، مثل التشبيه والتجسيم والقول بالجبر وغير ذلك من العقائد الفاسدة بسبب تعاملهم التعسّفي مع الآيات والروايات، إذْ يقول السيّد رشيد رضا تلميذ محمّد عبده: (فبلغ بهم التقليد إلى حدٍّ أن صاروا يأخذون بظواهر كلّ ما رواه الرواة من الأخبار والآثار الموقوفة والمرفوعة والموضوعة والمصنوعة، وإن كانت شاذّة أو منكرة أو غريبة أو من الاسرائيليّات، مثل ما روي عن كعب ووهب و.. أو معارضة بالقطعيّات التي تعدُّ من نصوص الشرع ومدركات الحسِّ ويقينيّات العقل، ويكفّرون من أنكرها ويفسّقون من خالفها...) (أضواء على السنة المحمّديّة لمحمود أبو ريّة ص23).

وادّعاءُ الحنابلة والسلفيّة تمسّكهم بالكتاب والسنّة، ورمي غيرهم بالضلال والكفر ادّعاءٌ فارغ لا دليل عليه، فالكلّ يعترف بحجّيّة القرآن والسنّة وضرورة العمل بما جاء فيها إلّا أنّ الحنابلة يتعاملون مع النصوص من دون فهم أو دراية، أو كما قال الزمخشري.

إن قلت من أهل الحديث قالوا تيس ليس يدري ويفهم

وقد تطرّف بعض الحشويّة من أهل الحديث وأثبت بالفعل التشبيه والتجسيم، إذْ يقول الشهرستانيّ: (أمّا مشبّهة الحشويّة فقد أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة، وأنّ المسلمين المخلصين يعانقونه سبحانه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة إلى حدّ الإخلاص) (الملل والنحل للشهرستانيّ ج1 ص105).

إذنْ: فليس هناك مخرج منطقيّ من الوقوع في التشبيه والتجسيم لكلّ من يجري النصوص على ظاهرها الحرفيّ ويبقي الكلمات على معانيها الوضعيّة، فمثلاً الاستواء على العرش أو القول إنّ الله ينزل ويصعد أو أنّ له يد ووجه وغير ذلك من الصفات، فإنّ هذه الكلمات والتعابير تحمل في دلالاتها معانٍ لا يجوز نسبتها إلى الله تعالى، وعليه فمن لم ينفِ تلك المعاني يكون قد وقع في التشبيه والتجسيم لا محالة، ونحن لا نفهم سبب الإصرار على تلك المعاني، مع أنّ لهذه الكلمات معانٍ أخرى في لغة العرب يمكن نسبتها إلى الله دون الوقوع في التشبيه والتجسيم.

فكلّ محاولات أهل الحديث والحنابلة للتهرّب من القول بالتشبيه والتجسيم محاولات فاشلة، إذْ حاولوا أنْ يبرّروا ذلك ويتذرّعوا بقولهم: إنّنا نثبت ذلك ولكن بلا كيف.

وقد اعتمد الأشعريّ هذا التبرير، فيقول في كتابه الإبانة (ص18): إنّ لله سبحانه وجهاً بلا كيف، كما قال: (ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام) وإنّ له يدين بلا كيف، كما قال (خلقت بيدي).

وقد صدق فيهم قول الشاعر:

قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا شنع الورى فتستّروا بالبلكفه (أي بلا كيف).

ومن الواضح لكلّ صاحب عقل سليم أنّ هذا التبرير لا يغيّر في وجه القضيّة؛ لأنّ الجهل بالكيفيّة لا يفيد شيئاً ولا يرجع إلى معنى صحيح، بل هو أقرب إلى الإبهام والألغاز، فإثبات هذه الألفاظ بمعانيها الحرفيّة والوضعيّة هو عين إثبات الكيفيّة لها، فاللفظ إمّا أن يكون معلوم المعنى وإمّا أن يكون مجهول المعنى، فإذا كان معلوم المعنى، فإنّ ذلك لا يستقيم إذا لم يكن للمعنى كيف واضح، أما إذا كان اللفظ مجهول المعنى فيكون مجرّد صوت ليس له أيّ دلالة، وبعبارة أخرى إذا حملنا هذه الألفاظ على معانيها الوضعيّة وأجريناها على الله تعالى نكون قد وقعنا حتماً في التشبيه والتجسيم، وحينها لا ينفعنا القول (بلا كيف) لأنّه لا يعدو أن يكون مجرّد لقلقة لسان، فمثلاً كلمة (يد) لها معنى وضعه الواضع وهي الجارحة، ولها معانٍ استعماليّة يتمُّ التعرّف عليها من خلال السياق والقرائن المتّصلة أو المنفصلة، فعندما يستبعد القائل المعنى الاستعمالي ويصرّ على المعنى الوضعيّ، ثمّ يقول لله يد بلا كيف، كأنّما يقول لله جارحة بلا كيف، وهو تناقض واضح لأنّ اليد بمعنى الجارحة لها كيفيّة يعلمها كلّ من يعلم معنى اليد.

ومن هنا فإنّ قولهم: (الاستواء معلوم والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة)، قول مبهم وغير واضح، فإذا كان الاستواء معلوم بكلّ حيثيّاته ووجوه، فإنّ الكيف معلوم تبعاً لذلك حتماً، وإلّا كيف يصبح كيفيّة الاستواء مجهولة إذا كان نفس الاستواء معلوماً بكلّ معانيه وكيفيّاته؟ وإذا كان الكيف مجهولاً، فكيف أصبح الاستواء معلوماً؟

فالعلم بالاستواء هو عين العلم بكيفيّته لا يمكن فصلهما، والعقل لا يفرّق بين العلم بالشيء والعلم بكيفيّته؛ لأنّهما شيء واحد. فإذا قلت: أنا أعلم بجلوس فلان، فأنت في الواقع تعلم بكيفيّة جلوسه، وإذا افترضنا أنّ للجلوس كيفيات متعدّدة وأنت تعلم - إجمالاً - بجلوسه دون معرفة أيّ كيفيّة من كيفيّات الجلوس كان هو عليها، فإنّنا نقول: إنّ هناك حدّاً مشتركاً بين جميع كيفيّات الجلوس، فالجالس حتماً غير القائم والماشي والجاري والنائم، وبالتالي العلم بالجلوس - ولو إجمالاً - هو علم بالكيفيّة ولو إجمالاً، وهذا الحدُّ المشترك هو الذي يجب نفيه عن الله تعالى، فإذا كان معنى الاستواء معلوم لديك تفصيلاً أو على نحو الإجمال فإنّ كيفيّة الاستواء معلومة أيضاً تفصيلاً أو إجمالاً، فكيف بعد ذلك تقول: الاستواء معلوم والكيف مجهول؟ أّما إذا لم يكن معنى الاستواء معلوماً لديك فحينها تكون نسبته لله كلمة ليس لها معنى أو وصفته بصفة نجهل ما هي.

ومن هنا فإنّ القول: إنّنا نثبت لله ما أثبته لنفسه بلا كيف قول بلا معنى ولا يعدو أن يكون مجرّد لقلقة لسان، فإذا كانت هذه الألفاظ الجوفاء تكفي لإثبات التنزيه لله عزّ وجلّ لجاز لبعض الحشويّة القول: إنّ لله جسماً بلا كيف ولا كالأجسام وله دم ولحم وشعر.. بلا كيف.

حتّى قال أحد المشبّهة: (إنّما استحييت عن إثبات الفرج واللّحية واعفوني عنهما واسالوا عمّا وراء ذلك" (الشهرستانيّ ج1 ص105).

ولا يُفهم من ذلك أنّنا لا نؤمن بما جاء في القرآن من صفات، أو أنّنا نتأوّل هذه الصفات ونحملها على غير معانيها، بل نحن أيضاً نثبت لله ما أثبته لنفسه في كتابه، إلّا أنّ الفرق بيننا وبينهم هو أنّنا نختار من معاني هذه الكلمات ما يجوز نسبته لله تعالى ونصرف عنه ما لا يجوز في حقّه، وكما هو معروف أنّ دلالة الألفاظ على معانيها إمّا أن تكون دلالة إفراديّة وضعيّة تصوّريّة وإمّا أن تكون دلالة استعماليّة تركيبيّة تصديقيّة، فقد يختلف المعنى الإفراديّ عن المعنى التركيبيّ أو المعنى الوضعيّ عن المعنى الاستعماليّ، فمثلاً: عندما نقول: (أسد) ككلمة مفردة فإنّنا سنبحث عن المعنى الذي وضعه الواضع لها، وهو الحيوان المفترس الذي يعيش في الغابة، أمّا إذا استخدم المتكلّم هذه الكلمة، ولكنّه لم يقصد المعنى الوضعيّ لها، وإنّما أراد استعمالها للدلالة على معنى آخر، وكان ذلك المعنى معهود في كلام العرب، فلا يجوز حينها التمسّك بالمعنى الوضعيّ للكلمة، فمعرفة المراد الجدّيّ للمتكلّم هو الذي يجب البحث عنه من خلال قرائن المقال أو المقال، فمثلاً قولنا: رأيت أسداً على المنبر أو أسداً يقود سيّارة، فإن كلمة المنبر أو السيّارة تكون قرينة على أنّ المتكلّم لا يقصد الحيوان الذي يعيش في الغابة، وإنّما يقصد وصف من كان على المنبر بالشجاعة أو القوّة، وهذا ديدن العرب في فهم الكلام، والذي يفهم ظواهر النصوص على هذا النحو لا نسمّيه مؤوّلاً للنصّ، خارجاً عن ظاهر الكلام.

وهكذا الحال في مثل آيات الصفات، فعندما يقول تعالى مثلاً (يد الله فوق أيديهم) فيكون المعنى أنّ الله مؤيّد لهذا الموقف وهو معكم في هذه البيعة، كالذي يقول: (البلد في يد السلطان) فإنّه يقصد بقوله إنّ البلد كلّها تحت حكم السلطان، ويصحّ هذا القول حتّى إن كان السلطان مقطوع اليدين.

وكذلك في بقيّة الآيات. نثبت المعنى الاستعماليّ الذي يظهر من خلال بقيّة السياق ولا نجمد على المعنى الوضعيّ للكلمة، ونحن بذلك لا نكون قد تأوّلنا أو حملنا الألفاظ على غير معانيها، وهذا عين العمل بالظاهر.

وبهذه الطريقة نحن نثبت ظواهر الكتاب ونقول بكلّ ما جاء في القرآن دون أن نقع في التشبيه والتجسيم، والذي يحتجّ بالظواهر الوضعيّة يكون قد ضلّ وغفل عن كلام العرب.