دعوى ان خالق الكون وجد صدفة.

  أمّا القولُ: (بأنّ الكونَ معقّدٌ فخالقهُ أشدُّ تعقيداً)، فهذا هو دليلُ النظامِ والإبداعِ وهو أحدُ أدلّةِ المؤمنين على أنّ الخالقَ حيٌّ عليمٌ سميعٌ بصيرٌ قديرٌ خبيرٌ حكيم، ونفيُ أنْ يكونَ الخالقُ هو المادّةُ الصمّاءُ العمياء.  

وهذا من أوضحِ الأدلّة على وجودِ الله وأيسرِها فهماً بالنسبة للجميع؛ لأنّ مفهومَ النظامِ من المفاهيمِ الواضحةِ في ذهنِ الإنسان، ومِنْ خصائص النظام أنّه يتحقّقُ بين مور مختلفةٍ سواءٌ كانتْ أجزاءاً لمركّبٍ، أو أفراداً من ماهيّةٍ واحدة، أو ماهيّاتٍ مختلفة. فهناكَ ترابطٌ وتناسقٌ بينَ الأجزاء، أو توازنٌ وانسجامٌ بيَن الأفرادِ يؤدّي إلى هدفٍ وغايةٍ مخصوصةٍ، هي وجودُ الشيء على ما هو عليه من النظامِ الهادف، هذا الكونُ الذي أمامَنا ونشاهدُهُ على هذا النظام البديع الذي لا يُمكنُ أنْ يضطربَ ولا يتصادمَ ولا يُسقطُ بعضُهُ بعضاً، بل هو في غايةِ ما يكونُ من النظام، دليلٌ على أنّ له منظّماً وخالقاً ومبدِعاً.

والعقلُ بعدما لاحظَ النّظامَ وما يقومُ عليه من دقّةٍ وروعة في التقديرِ والتوازنِ والانسجام، يحكمُ بالبداهةِ بأنّ أمراً هكذا شأنهُ يَمتنِعُ صدورهُ إلا عن فاعلٍ قادرٍ عليم ذي إرادةٍ وقصد، ويستحيلُ أنْ يتحقّقَ ذلك صدفة وتبعاً لحركات فوضويّةٍ للمادةِ العمياء الصمّاء، فإنّ تصوّرَ مفهومِ النظام، وأنّه ملازمٌ للحسابِ الدقيق والعلم، يكفي في التصديقِ بأنّ النظامَ لا ينفكُّ عن وجودِ مُنظِّمٍ عالِمٍ أوجدَه، و حُكمُ العقل بذلك من البديهيات .

النتيجةُ: بما أنّ العالمَ منَظّمٌ بحسب المشاهداتِ الحسّية والوقائعِ التجريبيّة، وبما أنّ كلّ مُنَظَّمٍ يحتاجُ إلى مُنظِّم بالبداهةِ العقليّة، إذن فالعالَمُ يحتاجُ إلى الخالق المنظِّم، وبذلكَ يثبتُ المطلوبُ وهو وجودُ الله سبحانهُ وتعالى.

أما قولُك: (فكيفَ وُجِدَ هذا الخالقُ المعقّدُ صدفةً ومن دونِ سبب؟)

الجواب:

إنّ القولَ بوجودِ مُنظِّم للكون لا يفرضُ وجودَ سببٍ لهذا المنظِّم؛ لأنّ الذي نظّم الكونَ هو الخالقُ، والخالقُ ليس كالمخلوق؛ فالخالق واجبُ الوجودِ لذاتِهِ قديمٌ أزليٌّ لا أوّلَ له، أبديٌّ لا نهايةَ له، والكونُ ممكِنُ الوجودِ حادثٌ له أوّل وله آخرٌ لهُ بدايةٌ ولهُ نهاية، فالسؤال ُكيفَ وُجِدَ هذا الخالقُ المعقّد؟! سؤالٌ باطلٌ وخطأٌ من الأساس؛ لأنّهُ قائمٌ على قياسِ الأزليّ - وهو الله تعالى - على الكونِ الحادث؛ فقياسُ الأزليّ الأبديّ واجبُ الوجود لذاتِه الذي يستحيلُ في العقلِ عدَمُهُ، على الكونِ الحادثِ الممكنِ في العقلِ عدمُهُ وَوِجدَ بعدَ أنْ لم يكن، فلا بُدّ من البحثِ عن علّةُ انتقالهِ من العدمِ إلى الوجودِ، هذا قياسٌ باطل. وسِرُّ بطلانِ وفسادِ هذا القياس والسؤال هو الغفلةُ عن أنّ وجهَ الحاجةَ إلى العلّة هو إمكانُ الوجودِ لا الوجودِ نفسهِ.