هل السيد الخُمينيّ من الغُلاة؟
السؤال: قال الخُمينيّ عن عليٍّ (رضي الله عنه): (خليفة الرسول (ص) والقائم مقامه في الملك والملكوت، المتحد بحقيقته في حضرت الجبروت واللَّاهوت، أصل شجرة طوبى، وحقيقة سدرة المنتهى، الرفيق الأعلى في مقامٍ أو أدنى، معلم الروحانييّن، ومؤيد الأنبياء والمرسلين، عليٌّ أمير المؤمنين) [مصباح الهداية ص1]. إنَّ هذا القول هو قول النصارى نفسه الذين قالوا باتحاد اللَّاهوت بالناسوت، ومن قبل زعمت غلاة الشيعة أنَّ الله حلَّ في عليٍّ ولا تزال مثل هذه الأفكار والإلحاديَّة تعشش في أذهانكم. ومن هذا المنطلق نسب الخُمينيّ إلى عليٍّ (ض) قوله: (كنت مع الأنبياء باطناً، ومع رسول الله ظاهراً) [مصباح الهداية ص142].
الجواب:
يثير بعض المنتقدين لعبارات السيد الخُمينيّ في كتاب (مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية) إشكالاً مفاده أنَّ ما قاله عن الإمام عليٍّ (عليه السلام) يقترب في مضمونه من العقيدة النصرانيَّة، القائلة باتحاد اللاهوت بالناسوت في شخصية المسيح، وقد صرّح بهذا المعنى بوضوح الخضر محمّد سالم في كتاب [ثم أبصرت الحقيقة ج1 ص108]. ويُبنى على هذا الإشكال اتهامٌ بأنّ مثل هذه العبارات تنطوي على نزعة إلى الغلوّ، بل وربّما إلى الإلحاد.
لكن للإنصاف العلميّ، فإنّه من الضروريّ وضع هذه العبارات في سياقها المعرفيّ الخاص، فكتاب (مصباح الهداية) ليس مؤلفاً عقائديَّاً أو كلاميَّاً موجهاً لعامّة القراء، بل هو عمل يتناول العرفان النظريّ، ويُكتب بلغةٍ رمزيَّةٍ ومصطلحاتٍ مستمدَّةٍ من تراث الفلسفة والعرفان الإسلاميّ، وهو بذلك يُعدّ امتداداً لمدرسةٍ فكريَّةٍ لها أصولها وأطرها المفهوميَّة التي تختلف تماماً عن لغة المتكلمين أو الفقهاء.
إنَّ من الخطأ الفادح أنْ تُحمّل هذه العبارات معانيَ لم يقصدها صاحبها، أو أنْ تُقرأ بمنهجٍ مختلفٍ تماماً عن السياق الذي كُتبت فيه.
فحين يتحدَّث العرفاء عن (الإنسان الكامل) أو عن (مقام الولاية) أو عن (المظاهر الإلهيَّة)، فإنَّهم لا يقصدون بذلك تأليه البشر أو القول بالاتحاد الذاتي بين الله وخلقه، وإنما يتحدَّثون عن مراتب الوجود كما يفهمونها هم، حيث يُعد الإنسان الكامل مظهراً لأسماء الله وصفاته، لا بمعنى أنَّه جزءٌ من الذات الإلهيَّة، بل بمعنى أنَّه مرآةٌ تعكس تجليَّات تلك الصفات، وهو معنىً مجازيٌّ عرفانيٌّ لا علاقة له بمقولة النصارى في العقيدة المسيحيَّة.
ثم إنَّ هذا النوع من التعبيرات ليس خاصاً بالشيعة أو العرفاء، بل هو موجودٌ في التراث الإسلاميّ بشكلٍ عامٍّ، فعلى سبيل المثال، ورد في صحيح البخاريّ: «إنّ الله قال: مَن عادى لي وليّاً فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليّ ممّا افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإنْ سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه» [صحيح البخاريّ ج7 ص190]، كما جاء في القرآن الكريم قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ} [الانفال: 17]، وكل هذه النصوص تُفهم في إطار منظومة التوحيد الأفعاليّ، ولا تُفسَّر على أنَّها حلولٌ أو شرك.
أمّا القول باتحاد اللاهوت بالناسوت - كما تقوله النصارى - فهو عقيدةٌ محدّدةٌ، تقوم على أنَّ الله قد تجسَّد في بشر (المسيح)، وأنَّ المسيح هو إلهٌ تامٌّ وإنسانٌ تامٌّ، وهو ما عبّروا عنه بـ(الابن المتجسد). وهذا هو عين الشرك؛ لأنَّ فيه جعل الإنسان إلهاً.
أما ما ورد في كلام السيد الخُمينيّ فهو من باب المقامات الوجوديّة للإنسان الكامل، وهو تعبيرٌ واردٌ في الفلسفة والعرفان الإسلامي، وليس فيه حلول ولا اتحاد بالمعنى العقائديّ المسيحي إطلاقاً، بل هو إشارة إلى أن الولي الكامل هو مظهر لأسماء الله وصفاته، وليس هو الله تعالى ولا جزءاً من ذاته.
فالسيد الخُمينيّ لم يقل: إنَّ الله حلّ في علي، ولم يدّعِ اتحاداً ذاتيَّاً بين الله وبين أحدٍ من خلقه، بل استخدم تعابير مجازيَّة تعني أنَّ الإمام عليَّاً (عليه السلام) بلغ من القرب الإلهيّ والعبوديّة لله ما صار به مظهراً تاماً لصفات الكمال الإلهيّ.
فالعبارات مثل (القائم مقامه في الملك والملكوت) و(معلم الروحانيين) هي تعبيراتٌ عرفانيَّةٌ تُظهر أنَّ الوليَّ الكامل - مثل أمير المؤمنين (عليه السلام) - له مقامٌ خاصٌّ في عالم الغيب بإذن الله. وهو في هذا السياق لا يُعتبر مستقلاً عن الله ولا مشاركاً له في الألوهيَّة، بل هو واسطة فيضٍ من الله.
وهذا المفهوم يتوافق بشكلٍ كبيرٍ مع العديد من الروايات المعتبرة في تراثنا، مثل قول الإمام الباقر (عليه السلام): «نحن حجَة الله، ونحن باب الله، ونحن لسان الله، ونحن وجه الله، ونحن عين الله في خلقه، ونحن ولاة أمر الله في عباده» [الكافي ج1 ص 145].
وكلُّ هذه العبارات تُفهم على أنَّهم خلفاء الله القائمون بأمره في خلقه، ولا تعني أنَّهم الحقيقة الذاتيَّة للصفات الإلهيَّة، أو أنَّهم يملكون استقلالاً عن الله في ذواتهم أو صفاتهم.
أما الرواية المنسوبة إلى الإمام عليّ: «كنت مع الأنبياء باطناً ومع محمدٍ ظاهراً»، فقد وردت في بعض كتب الحديث، ويفسرها أهل العرفان على ضوء عقيدتهم في النور المحمديّ والولاية المطلقة، فنور أهل البيت (عليهم السلام) - بحسب بعض الروايات - خُلق قبل الخلق، وهم مؤيدون من الله، ولهم شهودٌ في العوالم الغيبيَّة، وهو تفسيرٌ لا يُعدّ بالضرورة غلوّاً أو شركاً إذا فُهم على وجهه العرفانيّ.
ومن المهم التفريق هنا بين ما يقوله العرفاء وبين ما قاله الغُلاة من الفرق الباطنيَّة أو المندثرة التي ادّعت أنَّ الله تعالى قد حلّ في عليّ أو أنه تجسَّد فيه، فذلك قولٌ مرفوضٌ جملةً وتفصيلاً، وقد رد عليه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأشدّ العبارات، بل تبرأوا من الغُلاة، وحكموا بكفرهم في موارد كثيرة، ففي الحديث عن صالح بن سهل قال: كنت أقول في الصادق (عليه السلام) ما تقول الغُلاة، فنظر إليّ وقال: «ويحك يا صالح، إنّا - والله - عبيدٌ مخلوقون، لنا ربٌّ نعبده، وإنْ لم نعبده عذّبنا» [مناقب آل أبي طالب ج3 ص347].
أما العرفاء من أمثال السيد الخُمينيّ، فلم يدّعوا ألوهيَّة عليٍّ (عليه السلام)، ولا حلولاً، ولا اتحاداً بالمعنى العقائديّ، وإنما تحدَّثوا عن المقامات الروحيَّة والمعنويَّة للإنسان الكامل، باعتباره المظهر الأتم لأسماء الله، وهو ما يجد له جذوراً في الكثير من النصوص المعتبرة عن أهل البيت (عليهم السلام)، مثل قول الإمام الصادق (عليه السلام): «نحن – والله - الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلَّا بمعرفتنا» [الكافي ج1 ص144]، وهذه النصوص بطبيعة الحال تُحمل على معانيها المنسجمة مع التوحيد.
من هنا، فإن رفض العرفان أو عدم الإيمان بمنهجه لا يبرر تأويل عبارات أصحابه على وجهٍ مغلوطٍ، أو اتهامهم بما لم يلتزموا به، بل الإنصاف يقتضي أنْ تُفهم كلماتهم ضمن منظومتهم الفكريَّة، ثم يُناقش هذا الإطار بإنصاف، لا من خلال اقتطاع العبارات أو مقارنتها بمفاهيم دينيَّة لا صلة بينها من حيث الجوهر.
اترك تعليق