لِماذا لا يَهتدي جميعُ البشرِ رغمَ الهدايةِ التكوينيّة؟

السؤال: إذا كان اللهُ قد فَطرَ البشرَ جميعًا على الهداية، وزوّدهم بمعرفةِ الخيرِ والشرِّ منذ الخلق، فلِماذا لم يَهتدِ جميعُ البشر؟ وكيف نُفسِّر وجودَ الضلالِ في ظلِّ الهدايةِ التكوينيّة التي تشملُ الجميع؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

إنّ البشرَ على نحوِ التكوينِ مُهتدونَ جميعًا، كما قال تعالى:

{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]،

وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]،

وقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7-8]،

وقوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]،

وغير ذلك من الآيات التي تكشفُ عن الهدايةِ التكوينيّةِ لكلّ البشر، وهي فِطرةُ اللهِ التي فَطرَ الناسَ عليها، قال تعالى:

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].

فالهدايةُ التكوينيّةُ هي استعدادٌ فِطريٌّ موجودٌ في كلِّ إنسان، ولكنّها لا تَضمنُ الاهتداءَ التامّ؛ لأنّ اللهَ (سبحانه وتعالى) قد مَنَحَ الإنسانَ حرّيةَ الاختيارِ بين الهدايةِ والضلال، وهو ما يُفسِّرُ لِماذا لم يَهتدِ جميعُ البشر، رغمَ أنّ الهدايةَ موجودةٌ فِطريًّا.

فاللهُ سبحانه وتعالى مَنَحَ الإنسانَ عقلًا، وإرادةً حرّة، ليَختار بين الخيرِ والشرّ، ومن الممكن أنْ يتّبعَ الإنسانُ الفِطرةَ السليمةَ، ويَستجيبَ للهدايةِ التكوينيّة، ومن الممكن أيضًا أنْ يَرفضَ ذلك بناءً على اختيارهِ الشخصيّ.

فالضلالُ لا يتناقضُ مع الهدايةِ التكوينيّة، بل هو نتيجةٌ طبيعيّةٌ لاختيارِ الإنسانِ باستخدامِ إرادتهِ الحرّة، واللهُ سبحانه وتعالى لم يَفرضِ الهدايةَ على البشرِ بالقوّة أو الإكراه، بل جعلَ لهم حريّةَ الاختيارِ بين السعيِ وراءَ الهداية، أو الانحرافِ عنها.

فكثيرٌ من البشرِ يَرفضونَ الهداية، أو يتّبعون طُرقًا غير صحيحة، بسبب تأثيراتٍ مختلفةٍ مثل: البيئة، والتربية، والشبهات، والشهواتِ النفسيّة، أو حتى نتيجةَ الشياطينِ والوساوسِ التي قد تحرفهم عن الحقّ.

فاللهُ سبحانه وتعالى لا يَظلمُ أحدًا، بل يُعطي كلَّ إنسانٍ فُرصةً متساويةً للسيرِ في طريقِ الهداية، لكن في نهايةِ المطاف، تبقى المسألةُ مَرهونةً بكيفيّة استجابة الإنسان لتوجيهات الله، والالتزامِ بما فُطِرَ عليه.

كما أنّ هذا الاختيارَ هو جزءٌ من الاختبارِ الإلهيّ للإنسانِ في الدنيا.

والهدايةُ المتعلّقةُ بإرادة الإنسانِ تُسمّى هدايةً تشريعيّة، وهذه الهدايةُ تتطلّبُ مجهودًا من الإنسانِ في اتّباعِ تعليماتِ الشرع، والابتعادِ عن المعاصي والضلالاتِ التي قد تَعتَرضُه، وهي بذلك تكونُ مُكمّلةً للهدايةِ التكوينيّة.

الهداية التشريعيّة تشمل الوحيَ الإلهيَّ عبرَ الأنبياء والكُتب السماويّة، وتُعتَبرُ دليلًا مُرشِدًا للإنسان ليُحقّقَ الهدفَ الذي فُطِرَ عليه.

في المُحصّلة، لا يُمكنُ تفسير الضلال إلّا من خلال فهم العلاقةِ بين الهداية التكوينيّة (الفِطرة) والإرادة الحرّةِ للإنسان؛ فاللهُ تعالى قد فَطرَ الإنسانَ على الهداية، وزوّده بالقدرة على التمييز بين الخيرِ والشرّ، ولكنّ الخيار الأخير يظلُّ بيدِ الإنسان.