سلسلة: أخطاء في التفكير الالحادي(2).
( الخواء التصوري)
إن الاختلاف البشري على مستوى القدرات الإدراكية، وتباين ميولاتهم على أساس الإنحيازات الايديولوجية وما يُطال الثقافة الإنسانية من التغيرات في الفكر والموقف والأسلوب، وما ينشأ عنه من الافعال وردود الافعال.. كل ذلك لا يجعل من جدلية النفي والإثبات والصراع بين الأفكار حالة طبيعية فحسب، وإنما مظهرا صحيا يسوق حضارة الفكر إذا ما مورس بالطريقة الصحيحة نحو التقارب وسلامة الموقف، لاسيّما في القضايا المهمة التي تشكل خطرا على الواقع الشخصاني والسير الإنساني العام.
وهذا الاختلاف وما ينجم عنه من حوار موضوعي أو انحيازي -وإن كان سنة طبيعية في حياة الإنسان بما يحمل من اختزال تاريخي لمفرداته الحضارية والاجتماعية- إلا أنه وفي أغلب الأحيان يُبتلى بأخطاء من نوع خاص، وهي صنف من الأخطاء المنهجية التي من شأنها أن تؤسس لوباء معلوماتي في منظومتنا الإدراكية، فينتج عنه تلقيات عقدية، واستيثاقات خاطئة. وقد يأخذ هذا الوباء بالانتشار بفعل المحاكاة والتأثير المتبادل بين الجماعات المختلفة في المجتمع الواحد.
وفي هذ المقال نريد أن نسلط الضوء على أحد هذه الأخطاء التي مُني فيها التفكير الإلحادي حال مناهضته لفكرة وجود الله تعالى، وهي إشكالية الفهم الناضج وهضم المفردات الدخيلة في تصور موضوع البحث بصورة سليمة، فإن أقل مقدار ممكن من التحري لطريقة التعاطي الإلحادي وكيفية تعامله مع الأسئلة الكونية يكشف بوضوح عن ارتباكات منهجية سافرة، بعض منها نتاج عدم توظيف الدقة المفاهيمية. وسنذكر فعلا مجموعة من هذه الأخطاء.
ومن المعلوم، أن ليس جميع الأخطاء التي يمارسها الذهن الانساني على مساق واحد، من حيث المنشأ والأهمية والتداعيات، بل إن كثيرا من الأخطاء الواقعة في تفكيرنا -أو تفكير الآخر- هي من النوع المسموح به داخل دائرة القناعات الموضوعية، وهذا ما يقتضيه التفاوت الذي ألمحنا له في بداية المقال.. ولكن بعض هذه الأخطاء ليست واقعة في دائرة القناعات الموضوعية وإنما تقع في الجانب المقابل منها بالتمام، مؤسسة في ذلك لتجاذبات نقدية وجدل لا هدفي مشحونا بأساليب هابطة، ولغة هزيلة وغير مدرسية.
إن من أهم تمثلات الأخطاء من القسم الثاني ذات القناعات اللاموضوعية أن يوظف الباحث، حين يكون بصدد السعي نحو اكتشاف الحقيقة، جزءا من المفاهيم المشوشة والمغلوطة في استدلالاته من أجل اقناع الآخرين أو –على الأقل- الاقتناع الشخصي، لأن هذا ببساطة سوف يؤدي به إلى قاع العلوم والأفكار الزائفة، ومن هنا يتوجب البحث عن رصد الأخطاء التي هي من هذا القبيل، والوقوف على المقاصد الصحيحة التي أسيء استخدامها، وقد عبّرنا عن ذلك النمط من التفكير اللاموضوعي بـ (الخواء التصوري The Vacuum Imagination).
إن الذي دعانا إلى ضبط هذا النمط من التفكير بمصطلح (الخواء التصوري) هو ما لاحظناه أثناء التحليل لأفكارهم ومبرهناتهم بما يشبه الظاهرة السارية في مقالاتهم وحواراتهم ومدوناتهم، والمتجذرة في ارتكازاتهم الفكرية حتى كانت هذه الظاهرة مدعاة لإتهام كبار الملاحدة بسوء القصد وتعمد تحريف المضامين الدلالية عن مسارها التوظيفي.
ومن المناسب جدا أن نبدأ الحديث عمّا نقصده بهذا المصطلح وتمييزه عن المفاهيم المقاربة.
الخواء التصوري:
نصطلح (الخواء التصوري) على خصوص استخدام مفاهيم ضمن مبرهانات استدلالية، مع ملاحظة أن تلك المفاهيم غير منضبطة بحدود دلالية دقيقة سواء افترضنا أن هذا التشويش المفاهيمي وعدم المداقة التصورية هو نتاج التصور الخاطئ في ذهن الباحث، حيث لم يتلقَ المضمون الدلالي للمفهوم بشكل صحيح، لنقص اطلاعه على موضوع البحث، أو لمقاربة هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى ذات دلالات مختلفة، أو غير ذلك من الأسباب. أو افترضنا أن الباحث يمتلك المفهوم بصورته الدلالية الصحيحة إلا أنه يراوغ في توظيفاته الدلالية سعيا لإثبات فرضيات فاشلة.
إذن؛ فكل استخدام مفاهيمي خاطئ هو ما نعنيه في هذا المقال، وهو ما نطلق عليه اسم (الخواء التصوري).
ومن أجل أن نكون دقيقين في بيان هذا المصطلح، يجدر بنا أن نفرق بينه وبين مفهوم (قصور النظام الإدراكي failure of the system-cognitive) والذي نعني به عجز أدوات المعرفة البشرية تجاه بعض القضايا، فإن الإنسان بطبيعة الحال -وفق الرؤية الفلسفية والعلمية- ذو مديات معرفية محدودة، وأنه مهما افترضنا نضج جهازه الإدراكي -الدماغ أو النفس- فهو ليس مسلطا على إدراك تفاصيل الواقعيات الكونية والذاتية. إذ تبقى هناك مساحات موضوعية خارج دائرة (ما يمكن معرفته)، ولذا فإن الشيء -موضوع الباحث- تارة يكون من قبيل الموضوعات القابلة للإدارك والتحقيق البحثي، باعتباره فكرة يمكن أن تخضع لمصادرنا المعرفية ومناهج التطويع الاستدلالي، وتارة أخرى لا يكون من هذا القبيل، وإنما يقع في حدود المعقول الممكن، فعلى سبيل المثال؛ أن السعي حول معرفة ما يجول خارج حدود الكون سعي تستنفره وسائل المعرفة ومناهج الاستدلال العلمي، لا سيّما إذا ما نظرنا الى شروط المنطق البوبري، في حين تجد أن العمل الدؤوب في اكتشاف أسباب وعلاج بعض الأمراض العصية التي أثقلت كاهل البحث العلمي مما تحظى بكل تقدير وثناء.
إن كثيرا من الباحثين يقعون في إشكالية الالتباس بين ذينك الأمرين، حيث يتصورون أن فكرةً هي في واقعها من الأمر الأول، مما تنتمي إلى الأمر الثاني، ويدعوهم هذا التخيل إلى إبداء الفرضيات وتجميع القرائن، ويقدمون نظرياتهم على أساس أنها نظريات -ربما- علمية، وقد يبرر فعلهم هذا خطأٌ آخر حينما يتوهمون أن العقل الإنساني له القدرة على معرفة كل شيء.
إن التخيل والالتباس الآنف الذكر، هو أحد تطبيقات (الخواء التصوري)، وكما لاحظنا أن الذهن عندما يتجاوز المعرفة والمنطق والعلم سوف يقع حتما في أنقاض العلم الزائف، وبالتالي سوف تكون حصيلة أفكاره غير باعثة على السرور، وستكون نتيجته – في أحسن الأحوال- نتيجة ترقيعية من العلم واللاعلم. وذلك أن قانون المنطق الاستدلالي يحتم عليه أن يقف إزاء ما تقصر عنه أنظمتنا الإدراكية، ويحثه بكل تأكيد حيال ما تحيطه ساحة الممكن في المعرفة البشرية.
من جانب آخر؛ يتوجب علينا أن نميز بين (المعقول) و(اللامعقول)، بمعنى ما تسمح بوجوده المناهج الفلسفية والعلمية، ولا تجد ضيرا في احتمالية وجوده وهذا هو ما نقصده بـ (المعقول). ومما لا يسمح بتحققه حس سليم أو منهج -على الإطلاق- وهذا هو ما نعنيه بـ (اللامعقول)، فإن المعادلة القاضية بالنتيجة الرقم (اثنان) من (1+1) هي نتيجة معقولة ومقبولة بأعلى درجات التصديق، بينما لو فرضنا أن النتيجة هي الرقم (ثلاثة) فهذه نتيجة تدخل ضمن مصاديق (اللامعقول) حيث يكون مرفوضا بالبداهة البشرية العامة.
إن فكرة التثليث المقدس عند معظم المسيحيين هي نتاج عدم التمييز بين ما هو (معقول) وما هو (غير معقول) حيث يدعي المسيحي أن الثلاثة هي عين الواحد وأن الواحد هو عين الثلاثة بينما أن كل واحد من الثلاثة هو غير الآخر، وهذه الفكرة تصطدم مع المعقول وبداهة الحس العام في حين نجد المسيحي يعتقد أن هذه الفكرة من الأفكار المعقولة إلا أنها خارج حدود نظامنا الإدراكي، وبتعبير آخر؛ أن فكرة التثليث تعتبر عند المؤمنين بها فكرة تفوق الادراك العقلي، أما نحن فلا نصنفها كذلك، بل نقول: إنها خلاف العقل لأنها تصطدم مع الوضوح والبداهة.
إذن؛ استبدال اللامعقول بالمعقول ينتج خواء تصوريا، كما أن ايقاع افتراض ما تقصر عنه المعرفة البشرية فيما يخضع لها يعطي نفس النتيجة من الخواء التصوري. ولكن الوقوف في المساحات المسموح بها علميا وفلسفيا ومنطقيا وعدم تجاوزها إلى اللامسموح به كذلك هو ذات الانطباعات التصورية الصحيحة.
ثم إن من الأفكار ما تشتمل على جوانب متعددة، بعضها مما ينتمي إلى (قصور الجانب الإدراكي)، وبعضها الآخر مما يخضع للتحقيق العلمي أو الفلسفي، بيد أنها فكرة واحدة. ففي العلوم الطبيعية -مثلا- تقرر بعض النظريات الفيزيائية(1) في تركيبة الكون أن له أحد عشر بعدا، ثلاثة منها الأبعاد المعروفة (الطول والعرض والارتفاع) والبعد الرابع هو (بعد الزمن) والباقي عبارة عن أبعاد مجهولة تتذبذب ولها بعد واحد (1D) وهي فائقة في الصغر، وتسمى هذه النظرية بـ (الأوتار الفائقة Superstring theory) وهي مبنية على عمليات رياضية معقدة جدا، فإن نحن نظرنا إلى هذه العمليات الرياضية فسنلاحظ إمكانية اكتشاف تلك الأوتار وبالتالي سوف نتخلى عن فكرة الاعتقاد بالأبعاد الثلاثة أو الأربعة حصرا. ولكن من ناحية أخرى، فإن الذهن البشري وحسب أدواته المتاحة لا يتمكن من الوقوف على تصور صحيح لكونٍ ذات أحد عشر بعدا، وليس ثمة تصادم يُذكر بين الموقفين، إذ أن الموقف الأول يثبت نفس وجود الأوتار الفائقة ومع قطع النظر عن كيفية تصورها، بينما الموقف الثاني يقصر عن معرفة طبيعة هذا التركيب وهوية هذه الأوتار(2).
ومن الواضح الفرق بين الاعتقاد بأن هناك موجودا يتمتع ببعض الخصائص والسمات وبين عدم المعرفة التصورية والتفصيلية به. وتطبيقات هذه المفارقة غزيرة في أبحاث العلوم الطبيعية. وهي تطبيقات صحيحة ومنسجمة مع التعدد التوظيفي للمنهج حسب اختلاف الجوانب المنظورة. وهي نفس الطريقة التي يتبعها الإلهيون في إثبات الوجود الإلهي حين يتركز النظر على ذات الوجود، ومن هذه الناحية يدخل في دائرة (المعقول) الخاضع لمبرهنات الاستدلال العقلي، وخطوات المنهج العلمي بينما أن أدواتنا المعرفية غائبة ومنحسرة عن معرفة هويته وحقيقته مما يعني أن السعي نحو اكتشافه إنما هو تجاوز عن الحدود المرسومة بين المعقول واللامعقول. وقد وافق الإلهيين أكثرُ الملاحدة في هذه المسألة حين افترضوا ومن باب الجدل وجود الإله، فقرروا أن الإله على تقدير وجوده فهو كلي العلم، كلي القدرة، كلي الحكمة، وأنه ذات وجودٍ يختلف عن طبيعة الوجود المادي.
وقد تسأل عن سرّ الالتباس بين (المعقول) و(اللامعقول)... وفي الحقيقة أن رصد أسباب حصول الالتباس غير منضبطة بعدد خاص، وهي مختلفة من فرد إلى آخر، حسب ما تفرضه العوامل النفسية والاجتماعية والإيديولوجية وبعض الظروف المحيطة بذهنية الباحث الأكثر سيطرة -ربما- على الذهن البشري.
وبعد أن اتضح للقارئ العزيز معنى (الخواء التصوري) فلنبحث الآن عن أهم الموارد التي مُني بها التفكير الإلحادي، وهو يسوق المفاهيم المغلوطة ضمن بحثه عن وجود الله سبحانه.
تصور الإله:
إن من أخطر تمثلات (الخواء التصوري) التي يرسمها الملحد في ذهنه هي تلك الفكرة التي يحملها عن (الإله) والتي حصلت له نتيجة بعض الانطباعات التي تسربت إليه من الاعتقادات الدينية الخاطئة والفلسفات المزيفة حيث قدمت بعض الأديان (الإله) على أنه محكوم بقوانين الطبيعة، وهو يشبه إلى حد كبير هيئة (الإنسان) ويتصرف بعقلية بشرية، وساهمت -مثلا- بعض الفلسفات في إشباع هذا المفهوم غموضا وتخريفا، مما أدّى إلى أن يتخيل الملاحدة -أو كثير منهم- صورة عن الإله مقاربة لما تصنعه الطفولة الإنسانية حين تتلقى أفكارا عميقة أعلى من المستوى الاعتيادي لدرجة إدراكها، من قبيل ما يتخيله الأطفال عن الجاذبية في الأرض، والشحنات الموجبة أو السالبة في قطعة المغناطيس، أو الكريات البيضاء في الدم من حيث إنها تدافع عن الإنسان، وإلى آخره من الأمثلة التي من هذا القبيل.
إن الذهنية الإلحادية غالبا ما تكرّس في داخل مفهوم الإله المضامين الطبيعية والمادية بما تحمل من قوانين الزمكان والتأثيرات المتبادلة بين المادة والمادة الثانية، وهذا النمط من التصوّر عندما يضفي على (موجود) من المفترض أن يكون هو الصانع لهذا الكون العظيم، ويتمتع بأعلى صفات الكمال، من ناحية العلم والقدرة والعظمة والحكمة والحب والفضيلة... فمن المتوقع جدا أن يقابل بالرفض وعدم القبول، فيصنف الملحد -وباقتناع تام- فكرة الإله وفق تصورات خاطئة، بأنها جزء من التراث والتاريخ الإنساني.
انظر -مثلا- إلى "ستيفن هوكينج Hawking Stephen" حين أدلى في بعض مقابلاته المتلفزة مبرهنته التي لا تقبل وجود الله تعالى حيث قال: إن الزمان يبدأ حين الانفجار العظيم، مما يعني انه لا زمان قبل ذلك، إذن الإله غير موجود لأن كل موجود لا بدّ أن يكون في زمان! وهذا الانطباع -كما نلاحظ- يضمّن عنصر الزمان داخل مفهوم الإله، ومن أجل هذا فقد أنكره حين لم يجد الزمان، ويبدو أن الخواء التصوري الذي يعيشه "هوكينج" كان بسبب تلقيات لاهوت ديني معين، حيث إنه لو تصور الإله كموجود متعالٍ عن الزمكان، ومنعزل عن التأثيرات الفيزيائية، لما تجرأ على ارتكاب مثل هكذا خطأ فظيع.
ومن هذا القبيل ما هو متداول عند كثير من الملاحدة، إذ أدركوا عدم معقولية وجود الإله، لأنهم تصوروه إلها شخصيا، يذهب ويجيء، وينزل من السماء ويصعد إليها، وأنه يجلس على كرسي وله عرش ومن حوله طائفة من الملائكة.
وفي الوقت الذي نؤكد فيه أن هؤلاء وقعوا في خطأ (الخواء التصوري)، نعتقد أيضا أن الإله الذي يستبطن تلك الحيثيات هو إله خرافي لا يعيش إلا في الأساطير وقصص التراث، وكان الأجدر بالباحث الموضوعي أن لا ينساق نحو التلقينات التي تلقاها من قراءة غير مدروسة أو مقال غير اختصاصي، أو من الأجواء المشحونة بالإعلام الموجه.
فمن جملة القراءات غير المدروسة والتي تضمنت خواء تصوريا فادحا ما قام به الفيلسوف الأميركي "مايكل مارتن Michael L. Martin" و"ريكي مونييه Ricki Monnier" حيث كتبا أن الله بما أنه -بحكم التعريف- كائن لا يمكن أن يكون من هو أعظم منه، فهو عظيم الفضل ولأنه عظيم الفضل فلا يوجد من هو أفضل منه، مع أنه لو كان كذلك فسوف لا يتعرض للآلام والخطر، والحال أن الله يعاني الألم ويطرأ عليه التلف(3)!!
ليس غريبا -عزيزي القارئ- أن تسمع أو تقرأ مثل هكذا ترهات ولكن الغريب أن يصدر هذا الكلام من أشخاص موسومين بالفلسفة والكتابات المنطقية. فمن أين علم هؤلاء أن الإله المفترض يعاني الألم ويطرأ عليه التلف؟! ثم لو كان يطرأ عليه التلف، فما الذي أبقاه طوال الأمد الازلي وإلى ساعتنا الحاضرة؟!
وجاء عن الكاتبين أيضا، إن كان الله موجودا فهو غير مادي، وبما أنه -لو كان موجودا- ذو ذات، إذن هو مادي، لأن كل ذي ذات يجب أن يكون ماديا.
إن هذه الطريقة من الاستدلال المحبط، تلقن الذهن ومن دون سابق إنذار شمولية غير مبرهن عليها وهي (ان كل ذات يجب أن تكون مادية) بيد أننا -كباحثين- نحتاج إلى رصيدٍ عالٍ من الإثباتات من أجل أن نصحح هذه الكلية.
فمعظم ممن وقع في شباك (الخواء التصوري) كان ضحية مدونات من قبيل النماذج أعلاه، ونحن بدورنا نؤكد على أن البحث العلمي والفلسفي يجب أن يحذر من مساهمة أي تأثير خارجي في صناعة مفهوم غير مقصود، وأن يبحث عن موجود - كلي العلم والقدرة والحكمة- كان هو المسؤول عن إيجاد هذا الكون وقد يتدخل أحيانا في مجرياته إذا اقتضت حكمته الكلية ذلك. ويوافقنا في هذا التصور أكثر الملحدين وجميع اللاأدريين، وأن المخالف فئة قليل من الملاحدة، وهم خصوص من جزم بعدم وجود المصمم الذكي وإلا فالانطباع العام لأكثر الملحدين هو أنهم لا يرون وجود الإله راجحا، ولكنه محتمل بدرجة ما، ويقدرون نسبة احتمالية لوجوده، وهذا رأي أشرس الملاحدة المعاصرين "ريتشارد دوكينز".
إن هذه النسبة الاحتمالية تعني ببساطة إمكانية ومعقولية ذلك الكائن الموسوم بالمواصفات المذكورة.
نماذج أخرى:
وهناك نماذج أخرى لـ (الخواء التصوري) قد وقع فيها التفكير الإلحادي، وعلى سبيل المثال نذكر ما ارتكبه الفيزيائي الأميركي "لورانس كراوس" حين أعطى تصورا ملحوظا عن مفهوم (العدم) والذي أشرنا إليه في المقال السابق(4)، إذ كانت محاولته تركز على أن الكون من الممكن أن يخرج من العدم، سعيا منه للاستغناء عن وجود الخالق، ولكنه اعترف بأن هذا العدم ليس هو العدم الفلسفي، أي العدم الحقيقي بمعناه المعروف، وإنما هو عدم علمي والذي هو نوع من الوجود. ومن ثم استرسل في كلامه إلى أن انتهى بـ (جواز خروج الشيء من العدم). ولكن أيّ عدمٍ هذا الذي خرج منه الوجود؟! في الوقت الذي يحاول فيه أن يقنع القارئ بأنه العدم الصفري (الفلسفي) إلا أنه في عموم كتابه(5) إنما تحدث عن العدم العلمي. وهذا مما يؤسف له، نوعٌ من الخداع المؤدلج حيث يؤثر في المتلقي ويوهمه بأن الخروج من العدم الفلسفي فرضية علمية ممكنة إلى حد ما.
وكذلك من نماذج (الخواء التصوري) فكرة تطبيق "اللانهائية Infinity" في تصورات الفيلسوف المعاصر "كيث بارسونز Keith Parsons" حيث قال: "فالإشارة إلى أن عمر الكون لانهائي تعني أنه كان بلا بداية، لا أن له بداية كانت منذ أمد لا نهائي"(6). ولا نحمل اعتراضا على تفسيره لنفس مفهوم (اللانهائية)، بل هو ذات التفسير الذي نادت به الفلسفات القديمة والأديان الكبرى.. وإنما ننقد توصيف الكون بوصف اللانهائية، فكيف تمكن من إيقاع الإنسجام بين الكون المحكوم بالمحدوديات الزمكانية والبنيوية وبين اللانهائية التي لا تقبل الانقطاع وعدم الديمومة؟ فلو كنا قد افترضنا أن الكون لا بداية له أزلاً، لكان "يحتاج إلى زمن لا نهائي كي يصل للحاضر" ولا يفترق في ذلك الحال بين افتراض بداية أمد لا نهائي أو أنه لم يكن بذات بداية، بل الأمر أسوء فيزيائيا في الفرض الثاني لأنه سوف يعني ان نفترض زمانا أزليا على نسق اللابداية الكونية، وهذا مرفوض فلسفيا وعلميا، وغير مقبول حتى عند "كيث بارسونز" و"فيكتور ستينجر" الذي نقل كلام "كيث" كما أنه يصطدم مع بعض المشاكل العلمية كـ "مبدأ الانتروبي Entropy" وما يتعلق ببداية الكون وبنية المادة وما إلى ذلك.
النتيجة:
إن أهم النتائج التي يمكن أن نستخلصها في هذا المقال، تتمثل في الأمور التالية:
1- يتوجب على الباحث الموضوعي أن يكون دقيقا -إلى حد بعيد- حيث يكون بصدد إثبات أو نفي كل قضية تخضع للبحث العلمي أو الفلسفي، لا سيّما في قضايا الرؤية الكونية وموقفنا من الكون، بداية ونهاية.
2- ان كثيرا من الإشكاليات التي تطرح من قبل الملاحدة إنما هي نتاج تصورات خاطئة ومفاهيم مغلوطة انعكست في أذهانهم بسبب التأثيرات النفسية والإيديولوجية وهذا هو ما عبرنا عنه بـ (الخواء التصوري).
3- ينبغي التمييز والحذر، على الصعيدين الفلسفي والعلمي، بين ما هو (معقول) وما هو (لا معقول)، كما يتوجب التفريق بين ما يقع خارج حدود الإدراك البشري وما يكون مخالفا للبديهة والحس السليم العام.
_______________________
(1) وهي النظرية المعبر عنها ب (نظرية الاوتار الفائقة) وقد شرحت في كثير من كتب الفيزياء، ويمكن مراجعة كتاب (ستة ارقام لا غير) لـ"مارتن ريس" وهو عالم بريطاني في الكونيات والفيزياء الفلكية.
(2) لست معنيا بإبداء قناعة في أصل هذه النظرية إثباتا او نفيا، فإنما ذلك مجال اختصاص علم الفيزياء، وانما اريد ان اقرر انه وعلى تقدير صحتها فإنها لا تتنافى مع البداهة وإمكان ثبوتها.
(3) Michael L. Martin and Ricki Monnier, eds, The Impossibility of God (Amherst,Ny: Prometheus books,2003) نقلا عن كتاب( الفرضية الفاشلة)ص36-37 لـ"فيكتور ستينجر"
(4) وهو مقال (فضول الاختصاص) حيث تم فيه طرح مناقشة عابرة لتصورات "لورانس كراوس" وقد ناقشنا كلامه بشكل مفصل في كتابنا (وجود الله بين العلم والمنهج العلمي) ص142-164
(5) (كون من لا شيء) للفيزيائي الأمريكي " لورانس كراوس"
(6) نقلا عن كتاب (الفرضية الفاشلة) ص121
اترك تعليق