غيبةُ الإمام المهدي ( ع ) لا تنافي الغاية من تنصيبه.
غاية الله من إرسال الأنبياء (صلوات الله عليهم) وتنصيب الأئمة (عليهم السلام) هو هداية النّاس وتعليمهم، ألا تعتبرُ غيبة الإمام عن النّاس مناقضةً للغاية من تنصيبه؟
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
إنّ غيبة إمامنا المهدي ( عليه السلام ) ليست بدعاً عن غيبات أنبياء الله وأوليائه، فهاهو نبيّ الله موسى ( عليه السلام ) يغيبُ عن قومه أربعين ليلة ثمّ يعود إليهم، قال سبحانه وتعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) } سورة الأعراف .
وها هو نبيّ الله يونس ( عليه السلام ) يغيبُ عن قومه ثمّ يعود إليهم.. قال سبحانه وتعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} سورة الأنبياء.
فهؤلاء كانوا في مقام النّبوة وغابوا عن قومهم، فأيّ ضير أن يغيبَ الإمام المهديّ (عليه السّلام) عن قومه أَيضاً وهو في مقام الإمامة؟!
قد تقول: إنّ غياب الامام المهدي مخالفٌ لِلّطف، فالنّاس بحاجةٍ إليه، وأنتم تقولون بأنّ الإمامةَ لطف؟!
نقول: وكذلك النّبوّة هي لطفٌ أيضاً، ومع ذلك حصلتْ هذه الغيبات من هؤلاء الأنبياء عن قومهم، بل حصلَتْ عند غياب بعضهم ـ كموسى عليه السلام ـ أمورٌ خطيرةٌ جداً، وهي عبادة النّاس العجل، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (51)} سورة البقرة، وهنا نسأل: هل كان الله سبحانه وتعالى يعلم حين استدعى نبيّه موسى (عليه السلام) للمناجاة وغيّبهُ عن قومه أنّهم سيعبدون العجلَ من بعده أَو لا؟!
فإن قلتم: إنّه لا يعلم فقد كفرتم، وإن قلتم هو يعلم فهذا معناهُ لا توجد منافاةٌ بين اللّطف وغيبة النبيّ أَو الإمام عن قومه!
فإن قالَ قائل: إنّ موسى (عليه السلام) قد أخلفَ على قومه أخاهُ هارون ولم يتركهم هملاً!
قلنا: كذلك إمامنا المهديّ (عليه السلام) قد أخلفَ سفراءهُ الخاصّين به في فترةِ غيبتهِ الصّغرى، ثمّ أخلفَ سفراءهُ العامّين، وهم الفقهاء العدول، في فترة غيبته الكبرى، ولم يترك أمرَ الأمّة هملاً من بعده.. فاللّطف من هذه النّاحية لم ينقطع تماماً.
قد تقولون: إنّ غيبة الإمام المهدي قد طالَ أمدُها، خلافَ غيبات أنبياء الله الوارد ذكرُهم فهي كانت لمدّة قصيرة ؟!
قلنا: طولُ غيبته (عليه السلام) مشكلتها ليست عند الإمام المهدي بل مشكلتها هي عند الأمّة نفسها، فمتى ما كانت الأمّةُ مؤهّلةً لأن يحكمَها إمامٌ من أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) سيخرجُ هذا الإمام إليها ويجعلُ دنياها في أبهى صورها.. وهذا المعنى قد يحتاجُ إِلى شيءٍ من البيان والتّوضيح، فنقول:
إنّ الأمة لم تحسن التّعامل مع أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) بالشكل المطلوب، فهي قامتْ بإقصاء الإمام الأوّل ـ أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ لمدّة خمسة وعشرين عاماً عن ممارسة دوره الفعلي في قيادة الأمّة، وذلك بعد أن تحايلتْ على الإستيلاء على منصبه، فيما ثبتَ له من حديث الغدير وإلتفافِ البعض عليه ومسارعتِهم إِلى تنصيب خليفةٍ لهم في سقيفة بني ساعدة والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يدفنْ بعد، ثمّ قاموا بالهجوم على داره وأرادوا إحراقهُ على من فيه وكانت فيه البضعةُ الزّهراء (عليها السّلام) ( كما يذكرُ ذلك بسند صحيح ابنُ شيبة في مُصنّفه :579)، وثمّ عند تسنّمه المسؤوليّة ـ بعد مدّة الاقصاء هذه ـ قامَ عليه النّاكثون والقاسطون والمارقون حتّى اغتالوهُ صِدّيقاً شهيداً وهو في محرابه ساجدٌ يصلّي!!
ثمّ جاءَ بعدهُ إبنهُ الحسن (عليه السلام) وهو ـ كذلك ـ لاقى من خُذلان الأمّة الذي لاقاهُ حتّى اضطرّ إِلى أن يسلّمها إِلى ألدِّ أعداء الدّين وهو معاوية بن أبي سفيان، قائدُ الفئة الباغية بنصّ حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المعروف عن عمّار بن ياسر بأنّه تقتلهُ الفئةُ الباغية الدّاعية إِلى النّار وقد قُتِلَ عمّار على يد جيش معاوية في صفّين.. ولم يتركوا الإمام الحسن ( عليه السلام ) حتّى سقوه السُّم على يد زوجته جعدة بتحريضٍ من معاوية، كما يذكر ذلك صريحاً إبنُ عبد البرّ في كتابه "الاستيعاب" 1: 233! . أمّا الإمام الحسين (عليه السلام) ففاجعتهُ أشهرُ من أن تُذكر أَو يشار إليها، وقد بكتْ عليه السّماوات والأرض وبكاهُ حتّى محجرُ الحجر، كما يذكر ذلك السّيوطي وغيره.
وأحاديث غدر الأمّة وقتلها لهؤلاء الأئمّة واضحةٌ وصريحةٌ ولا يمكنُ التّحايلُ أَو التّلاعبُ بها بأيّ حال من الأحوال.
فقد روى الحاكمُ في مستدركه بسندٍ صحيح عن أبي ادريس الأودي عن علي عليه السلام أنّه قال: (إنّ ممّا عهد إليّ النبي أنّ الأمة ستغدرُ بي بعده) [المستدرك على الصحيحين 3: 150، صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي].
وعن البوصيري في "اتحاف الخِيَرة المهَرة" في حديث جبرئيل للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) بحقّ الحسين (عليه السلام): (إنّ أمّتك ستقتله) . قال البوصيري: رواهُ عبد بن حميد بسند صحيح.[ إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 238]
نقول: هذا هو شأنُ ثلاثةٍ من كبار أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وهم قد قلّدهم رسولُ الله من أوسمة الفضل ما لم يُقلّد غيرهم، ومع ذلك لقوا من هذه الأمّة ما لقوه، فما بالكَ بمن هم دونهم من أئمّة العترة الطّاهرة من الذين عانوا من الاضطهاد والتّضييق حتّى قضوا حياتهم بين:
ـ مُراقَبٍ مُضطهَد، كالسّجاد والباقر والصّادق (عليهم السلام).
ـ ومسجونٍ مُعذّب، كالإمام الكاظم (عليه السلام).
ـ ومسؤولٍ فاقد الصّلاحيات كالرّضا (عليه السلام) .
ـ ومَنفيّ مُحتجز، كالجواد والهادي والعسكري (عليهم السّلام).
فماذا تتوقّعُ أن يكونَ مصيرُ الإمام المهدي (عليه السّلام) فيما لو بقيَ بين ظهراني هذه الأمّة التي لم تتوانَ عن قتلِ وغدر واضطهاد أهل بيت نبيّها ما استطاعتْ؟!
من الواضح جداً أنّ استمرارَ حضور الامام المهدي (عليه السلام) بين ظهراني هذه الأمّة معناهُ أن ينتهيَ إِلى ماانتهى إليه آباؤه الطّاهرين من القتل أَو الحبس أَو النّفي والاضطهاد..، ومن هنا اقتضتْ حكمةُ المولى سبحانه تغييبَ هذا الإمام الهادي المهدي حتّى تصلَ الأمّة إِلى درجة تعرفُ معها أهميّة وجود إمامٍ من أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) بين ظهرانيها فتلتفَّ حولهُ وتمتثلَ أوامرهُ ولا تفرّطَ فيه كما فرّطت في حقّ آبائه من قبل!
ولكن متى يكون ذلك؟!
الجواب: يكونُ ذلك بعد أن يفشلَ الجميع في قيادة الأمّة، وبعد أن تتوالى عليها صنوفُ الخيبة والحرمان نتيجةً لتحكيمها تيارات الضّلال من ملوك فاشلين ورؤوساءَ انتهازييّن وقومييّن كافرين وداعشييّن مُتطرفين وغيرهم، فيطلبونهُ حينئذ لينقذهم ممّا هم فيه من مِحنٍ وعذاب.
تقولُ الرّواية عن أمّ سلمة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : "يكونُ اختلافٌ عند موت خليفة، فيخرجُ من بني هاشم فيأتي مكّة، فيستخرجهُ النّاس من بيته بين الرُّكن والمقام، فيجهز إليه جيشٌ من الشْام حتّى إِذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فيأتيهِ عصائبُ العراق وأبدالُ الشّام، وينشأُ رجلٌ بالشّام أخوالهُ من كلب، فيجهزُ إليه جيش فيهزمهم الله فتكون الدائرةُ عليهم، فذلك يوم كلب، الخائب من خاب من غنيمة كلب، فيستفتحُ الكنوز، ويقسم الأموال، ويلقي الإسلام بجرانه إِلى الأرض، فيعيشونَ بذلك سبع سنين". أَو قال: "تسع".
قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح .[ مجمع الزوائد 7: 315]
فلاحظ قول النبيّ (عليه أفضل الصلاة والسلام): (فيستخرجه النّاس من بيته)، أَيّ أنّ النّاس تصلُ إِلى مرحلةٍ من الاختلاف ما إن تسمعُ بخروجه، كما تقولُ الرّواية: (فيخرجُ من بني هاشم فيأتي مكة)، حتّى تأتي إليه الأمّة بنفسها تطلبهُ وتستخرجهُ من بيته ليحكم فيها بالحقّ..
يقول السفاريني الحنبلي في كتابه لوامع الأنوار البهيّة عن دولة الإمام المهدي : «يعملُ بسنّة النبي لا يوقظ نائماً، ويقاتل على السنّة لا يترك سنّةً إلاّ أقامها ولا بدعةً إلا رفعها، يقوم بالدّين آخر الزمان كما قام به النبيّ أوّله، يملكُ الدنيا كلها كما ملك ذو القرنين وسليمان بن داود ، يكسرُ الصّليب ويقتلُ الخنزير ويردُّ إِلى المسلمين أُلفتهم ونعمتهم، يملأُ الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، يحثو المالَ حثواً ولا يعدّه عداً، يقسمُ المال صحاحاً بالسّوية، يرضى عنه ساكن السّماء وساكنُ الأرض والطّير في الجو والوحش في القفر والحيتان في البحر» انتهى.
[لوامع الأنوار البهية 2: 75، 76.. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4: 38]
ودُمتم سالمين.
اترك تعليق