شبهة عدم الفرق بين السب واللعن الواردين في القرآن الكريم.

: السيد مهدي الجابري الموسوي

لا بدّ في المقام من تسليط الضوء على مفهومَين لُحِظ الخلط بينهما إما عن جهل أو عن عمد، وهما مفهوما السبّ واللعن ؛ كيما يتم الوقوف على الفرق بينهما، دفعاً للالتباس الحاصل عند الجُهّال من كونهما بمعنى واحد ، وردّاً على المتجاهل المتعمِّد الذي يحاول إسدال الشُّبَه على مشروعية اللعن بأيّ وسيلةٍ كانت حتى لو استلزم من ذلك نسبةُ التناقض إلى الله عزّ وجلّ  ورسوله (صلى الله عليه وآله) ، ليجادل بالباطل ، ولينصر قوله. 

فإن مشروعية اللعن جاءت على لسان القران الكريم في قوله تعالى: { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }آل عمران61، وفي قوله تعالى:{وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }هود 18، وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}الأحزاب ،8.

 وأما السبُّ فورد النهيُ عنه في قوله تعالى : {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ }،  وورد أيضاً على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله) اللعن في حق المنافقين من الصحابة، ثم الذي يتدبر القرآن ببصره وبصيرته يجد أنّ الآيات التي ورد فيها الأمر باللعن تتناقض مع الآية التي تنهى عن السبّ ، فكيف إذن يفسَّر اللعن الذي صرّحت بجوازه الآيات والروايات على أنه من  السبِّ المنهيِّ عنه في الآية المذكورة ؟! .. ألا يكون هذا تناقضاً يُنسب إلى الله تعالى وإلى رسوله ’ ؟! .. ومن هنا يتضح لك الفرقُ جلياً .

  فبطرحه هذه الفكرة – عدم الفرق بين السبّ واللعن –  اعتقدَ أنه ممن اصطاد عصفورين بحجرٍ واحد ، إلا أنه في الواقع يحاول المحال لنفي الحقائق الثابتة ، والأدلة الواضحة ، كالأخبار الصحيحة الواردة في بني أمية وما جاء في شأنهم من اللعن ، وإليك ما قد ثبت عنه (صلى الله عليه وآله)، من لعن أقطابهم ودعائه عليهم في قنوته، بقوله : " اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سُهيل بن عمر، اللهم العن صفوان بن أُمية " .

وتواتر عنه (صلى الله عليه وآله)، أنه قال : لمّا أقبل أبو سفيان ومعه معاوية : " اللهم العن التابع والمتبوع " ، وفي آخر : " اللهم العن القائد والسائق والراكب"، وكان يزيدُ بن أبي سفيان منهم.

وقد اشتُهرت مقولة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، في مروان بن الحكم وأبيه ، طريد رسول الله: "اللهم العن الوزَغ بن الوزغ" .

فهذه النصوص أوجدت حزازة في نفوسهم ، وبودِّهم أنها لم ترِد ، فكم من حرارة في أكبادهم منها ، وكم من شجىً في حلوقهم من موردها ، فما عساهم أنْ يفعلوا حيالها وغيرها من الأدلة وهي تنصّ على لعن أقطابهم بل على وجوبه أيضاً ، إلا أنْ يتداركوا  معتقَدهم الذي شارف على الزوال بفتاوى مِن دون دليلٍ أو شبهه ، تحرِّم اللعن على أنه من السبّ المحرَّم الذي ورد النهي عنه؛ ومن هنا قلنا : إنه يلزم نسبة التناقض إلى كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله (صلى الله عليه وآله) ، فمن جهة فإنّ القرآن يلعن المنافقين ويأمر بلعنهم ، ومن جهة أخرى يحرِّمه ، ومما لا ينقضي منه العجبُ - وما حييتَ أراك الدهرُ عجباً - أنهم عمدوا إلى تأسيس قاعدة مفادها "عدم جواز لعن المعيَّن"، تقضي بإعفاء المنافقين والكفّار من اللعن ، والأطرف من هذا وذاك أنه حتى إبليس اللعين شمله هذا العفو ، وهذا نصُّ ما صرّح به بعضهم : " في لعن الأشخاص خطرٌ فليُجتنَب، ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس فضلاً عن غيره"(1)  

في بيان معنى السبِّ:

السبُّ: هو الشتم والتعيير، قال ابن منظور: "وفي الحديث : سُباب المسلم فسوقٌ ، وقتاله كفرٌ، السبُّ: الشتم" (2).

وفي مختار الصحاح: "س ب ب السبُّ: الشتم والقطع والطعن ، وبابه ردّ، والتسابُّ التشاتم والتقاطع. وهذا سُبّةٌ عليه بالضم أي عارٌ يُسبُّ به ، ورجل سُبّة ، يَسبُّه الناس . وسُبَبةٌ كهُمَزةٍ يَسبُّ الناس "(3).

وفي المصباح المنير : " س ب ب : سبّه سبّاً فهو سبّابٌ ، ومنه قيل للإصبَع التي تلي الإبهام سبّابةٌ ؛ لأنه يُشار بها عند السبِّ ، والسُّبّة العار وسابّه مسابّة وسباباً ، واسم الفاعل منه سِبّ بالكسر " (4).

وقال ابن فارس : (سبّ) السين والباء حَدَّهُ بعضُ أهل اللغة ـ وأظنّه ابنَ دريد ـ أنَّ أصل هذا الباب القَطع ، ثم اشتُقَّ منه الشَّتم. وهذا الذي قاله صحيحٌ. وأكثر الباب موضوعٌ عليه. من ذلك السِّبّ: الخِمار، لأنّه مقطوع من مِنْسَجه.

فأمّا الأصل فالسَّبّ العَقْر؛ يقال سَبَبْت الناقة، إذا عقرتَها. قال الشاعر:

فما كان ذنبُ بني مالكٍ *** بأنْ سُبّ منهم غلامٌ فَسبّْ

يريد معاقرة غالب بن صعصعة وسُحيم. وقوله سُبَّ أي شُتِمَ. وقوله سَبّ أي عَقَر. والسَّبّ: الشتم، ولا قطيعة أقطع من الشَّتم. ويُقال للذي يُسابّ سِبّ. قال الشاعر:

لا تَسُبَّنَّنِي فلستُ بِسبّي *** إنَّ سَبِّي من الرجال الكريمُ

ويقال: "لا تسبُّوا الإِبلَ، فإنَّ فيها رَقوءَ الدّم"، فهذا نهيٌّ عن سبّها، أي شتمها. وأما قولهم للإبل: مُسَبَّبَة فذلك لما يُقال عند المدح: قاتلَها الله فما أكرمها مالاً! كما يُقال عند التعجُّب من الإنسان: قاتله الله! وهذا دعاءٌ لا يُراد به الوقوع. ويقال : رجلٌ سُبَبَة، إذا كانَ يسُبُّ الناسَ كثيراً. ورجلٌ سُبَّة، إذا كان يُسَبُّ كثيراً. ويقال : بين القوم أُسْبُوبة يتسابُّون بها. ويقال مضت سَبَّة من الدهر، يريد مضت قطعة منه.. 

وقال الراغب الأصفهاني : السبُّ: الشتم الوجيع، قال: {ولا تسبّوا الذين يَدعون من دون الله فيَسبوا الله عدواً بغير علم} [الأنعام/108]، وسبُّهم لله ليس على أنهم يسبّونه صريحاً، ولكنْ يخوضون في ذكره فيذكرونه بما لا يليق به، يتمادون في ذلك بالمجادلة، فيزدادون في ذكره بما تنزّه تعالى عنه. وقول الشاعر:

فما كان ذنب بني مالك**بأن سبّ منهم غلاماً فسبّ

بأبيض ذي شُطَبٍ قاطعٍ ** يقُطُّ العظام ويبري العصب

 والتحقيق: أنّ الأصل الواحد في هذه المادة (السبّ): القطع ثم صار شتماً؛ لأن السبّ خرقٌ للأعراض(5). 

والفرق بين الشتم والسبّ: أن الشتم تقبيح أمر المشتوم بالقول، وأصله من الشتامة ، وهو قبح الوجه ، ورجلٌ شتيم ، قبيح الوجه، وسمي الأسد شتيماً لقبح منظره، والسبّ هو الإطناب في الشتم والإطالة فيه واشتقاقه من السبّ وهي الشقة الطويلة ، ويُقال لها سبيب أيضاً، وسبيب الفرس شعر ذنَبه ، سُمِّي بذلك لطوله خلاف العرف ، والسبّ العمامة الطويلة، فهذا هو الأصل ، فإنِ استعمل في غير ذلك فهو توسُّع(6).

في بيان معنى اللعن:

قال صاحب المصباح: لعنَه لعناً من باب نفع: طرده وأبعده أو سبّه ، فهو لعينٌ وملعون، ولَعن نفسه ، إذا قال ابتداءً : عليه لعنة الله ، والفاعل لعان. قال الزمخشري: والشجرة الملعونة: هي كلُّ من ذاقها كرِهها ولعَنها. وقال الواحديّ: والعرب تقول لكلّ طعامٍ ضارٍّ: ملعون ، ولاعنه ملاعنة ولِعاناً ، وتلاعنوا: لعن كلُّ واحدٍ الآخر ، والملعنة: موضع لعْن الناس لما يؤذيهم هناك ، كقارعة الطريق ومتحدثهم ، (أي أعلاه الذي يقرعه المارّون بأرجلهم.وكذا الموضع الذي يجلسون فيه للحديث والمكالمة) والجمع الملاعن، ولاعن الرجلُ زوجته: قذفها بالفجور .

وقال ابن فارس : لعن – أصلٌ صحيح يدلّ على إبعادٍ وطرد، ولعن الله الشيطان: أبعده عن الخير والجنة . ويُقال للذئب : لعينٌ، والرجل الطريد لعينٌ، ورجل لعْنةٌ بالسكون : يلعنه الناسُ. ولعَنة : كثير اللعن. واللِّعان: الملاعنة .

وقال صاحب اللسان : اللعن – الإبعاد والطرد من الخير، وقيل: الطرد والإبعاد من الله ، ومن الخلْق السبُّ والدعاء، واللعنة: الاسم، والجمع لعان ولعنَات. واللعين: المطرود، والرجل اللعين لا يزال منتبذا عن الناس، شبّه الذئب به. واللعين: الشيطان ، صفة غالبة ؛ لأنه طُرد من السماء. والملاعنة: المباهلة. وفي الحديث اتقوا الملاعن وأعدّوا النبْل. الملاعن: جوادُّ الطريق وظلال الشجر ينزلها الناس ، أو جانب النهر ، فإذا مرّ الناس لعنوا فاعله.

والتحقيق: أن الأصل الواحد في المادة: هو الإبعاد والطرد عن الخير بعنوان السخط عليه ، وهذا من الله تعالى إبعادٌ عن رحمته ولطفه ، ومن الناس إبعادٌ عن رحمته تعالى بالدعاء عليه والمسألة من الله بسخطه وغضبه عليه.

فبعد الذي تقدّم يتضح : أن مفهوم السبّ يغاير مفهوم اللعن ، لأنه إذا أُطلق يُراد به الطرد والإبعاد إذا كان من الله تعالى ، والدعاء بالطرد والإبعاد إذا كان من الناس .

 ولا يخفى على ذوي الأفهام أن اللفظ إذا كان مردَّدا بين المعنى اللغويّ والمعنى الشرعي فيُحمل على الشرعي؛ لأنه أضيق دائرةً من المعنى العرفيّ واللغوي ، والمعنى العرفيّ أوسع دائرةً من المعنى الشرعي وأضيق دائرة من المعنى اللغوي ، والمعنى اللغويّ أوسع دائرة منهما على الترتيب ، نظراً لدخول المجاز فيها والمشترك اللفظي ، قال الأسنويّ في (التمهيد) : "إذا تردّد اللفظ الصادر من الشارع بين أمورٍ فيُحمل أولاً على المعنى الشرعيّ ؛ لأنه عليه الصلاة و السلام بُعث لبيان الشرعيّات ، فإنْ تعذّر حُمل على الحقيقة العرفية الموجودة في عهده عليه الصلاة والسلام ؛ لأنّ التكلم بالمعتاد عرفاً أغلب من المراد عند أهل اللغة ، فإنْ تعذّر حُمل على الحقيقة اللغوية لتعيُّنها بحسب الواقع"(7)، إذن فالشرع حاكمٌ على العرف واللغة ، والعرف لا يحكم إلا على اللغة ، واللغة لا تحكم على الشرع ولا على العرف وإنما فيها الحقيقة والمجاز.

 وعليه ، فاللعن له محملٌ شرعيٌّ ، ولا بدّ من حمله عليه ، وإلى هذا المعنى أشار الشوكاني في (إرشاد الفحول)، قال : "إذا كان للفظ محملٌ شرعيٌّ ومحمل لُغوي فإنه يُحمل على المحمل الشرعي .. وهكذا إذا كان له مسمىً شرعيٌّ ومسمى لغوي ، فإنه يُحمل على الشرعي"(8)، والمحمل الشرعي لمفهوم اللعن هو الطرد عن جهة الحق وعن الرحمة والخير ، فيكون استعمال المادة في طرد الناس وإبعادهم استعمالاً حقيقياً إنْ كان النظرُ إلى كونه في مورد سخطٍ وغضبٍ من جانب الله تعالى بعصيانٍ أو ظلم ونحو ذلك ،  وليس هو السبّ أو الشتم.

 واللعن بمسألةٍ من الناس جاء على لسان القرآن الكريم في قوله تعالى: { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }آل عمران61، وفي قوله تعالى:{وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }هود 18، وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}الأحزاب ، 68.

 إذن فاللعن بمسألة الناس هو طلبُ طرد الملعون من رحمة الله لا مطلق السبّ والشتم ، كما صرّح بذلك سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في ( كتاب التوحيد) رداً على أحد أسلافه حين قال : "أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله ، ومن الخلق السبّ والدعاء ، قلت (القائل ابن عبد الوهاب) : الظاهر أنه من الخلق طلب طرد الملعون وإبعاده من الله بلفظ اللعن، لا مطلق السبّ والشتم"(9).

ويزيدك على ذلك وضوحاً ما قاله شارح كتاب التوحيد المتقدِّم ذكره ، ما هذا نصُّه : "السبّ هو الشتم والتقبيح، وهو غير اللعن ... مثال السبّ: أنْ يقول : قبّحه الله، أو يذكر فيه صفات قبيحة"(10).

 وبلحاظ ما تقدم اتضح أنّ اللعن بمسألة الناس من الله بإبعاده عن رحمته تعالى؛ إذ ليس هو مطلق السبّ و الشتم ، فإذا تقرر هذا بانَ لك بيتُ القصيد ، وهو أنّ السبّ: "كلام يدلّ على تحقير أحدٍ أو نسبته إلى نقيصة أو معرّة ، بالباطل أو بالحقّ ، ... وليس من السبّ النسبةُ إلى خطأ في الرّأي أو العملِ ، ولا النّسبة إلى ضلالٍ في الدّين إنْ كان صدر من مخالفٍ في الدّين"(11) ، وليس هو اللعن كما اتضح .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)- إحياء علوم الدين –  للغزّالي- 3: 134-135 .

(2)- لسان العرب , 1 : 455 .

(3)- مختار الصحاح : 136 .

(4)- المصباح المنير, 1 : 262. 

(5)- انظر : جمهرة اللغة – لابن دريد – 1 : 69.

(6)- الفروق اللغوية , ص52.

(7)- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول – للأسنوي- 228 .

(8)- إرشاد الفحول – للشوكاني- 2 : 23 .

(9)- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد, ص211.

(10)- المعتصر شرح كتاب التوحيد –علي خضير الخضير- 278 .

(11)- تفسير التحرير والتنوير, 7: 427.