صلح الإمام الحسن (ع) - الأسباب والنتائج -

: السيد مهدي الجابري الموسوي

  لكل صلح أسبابه التي آل إليها ولابدّ له من نتائجٍ تعود بخيرها على الأفراد المنضوين تحته، سواء الصالح منهم أو الطالح وإن جهلوا غايته إلاّ أنّهم سيعلمون بعد حين.

ولصلح الإمام الحسن (عليه السلام) أسبابه التي اضطرته لإبرامه وعقده مع معاوية بن أبي سفيان، غير أنّه عاد على الأمة الإسلامية بالخير والصلاح وعلى الإسلام بحفظ تعاليمه من كيد الطغام وتبييت اللئام.

لمّا تولى الإمام الحسن (عليه السلام) قيادة الأمة الإسلامية بعد أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، كانت قد عصفت فيها الأحداث والفتن التي اعتمد إثارة غبارها الأمويون في الاستيلاء والاستحواذ على الشرعيّة، في وقت كانت معالم النهج الأموي في درس تعاليم الدين خافية على كثير من المسلمين.. وما أن بلغت الأمور حدّاً لا يمكن الاحتمال بعده, جهّز الإمام الحسن (عليه السلام) جيشاً لملاقاة الجيش الأموي وباتت غيوم الحرب تتكدس وطبولها تقرع, بث معاوية والحال هذه عيونه في معسكر الإمام (عليه السلام), وكاتب قادة الجيش بعروض مغرية جعلتهم ينضوون تحت لوائه, وغيرها من أمور أدت بالنتيجة إلى تصديع بنية هذا الجيش، وضعضعة صفوفه، وإضعاف روح القتال لديه أمام جيش الشام, هذا بالإضافة إلى الشائعات الأموية التي ذيعت بين أفراده بأن الحسن بن علي صالح معاوية, الأمر الذي عرّض الإمام (عليه السلام) لعدة محاولات اغتيال, بل إنّ الإمام (عليه السلام) كان مستيقناً استعداد بعض فئات من جيشه لتسليمه اسيراً لمعاوية, حيث كتبوا إليه: (إنّا معك، وإن شئت أخذنا الحسن أسيراً وبعثناه إليك)، وهكذا فعل الزعماء ورؤساء القبائل في الكوفة من أمثال عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وحجر بن عمرو، وعمرو بن حريث، وأبو موسى الأشعري، وعمارة ابن الوليد بن عقبة، والأشعث بن قيس وغيرهم، وهؤلاء جميعاً كانوا قد بايعوا الإمام الحسن (عليه السلام) في أول الأمر، قبل أن تتم المواجهة مع معاوية على السمع والطاعة. 

كل هذه الأمور اضطرت الإمام (عليه السلام) إلى عقد الصلح مع معاوية.

غير أنّ هذا الصلح الذي عقده الإمام الحسن (عليه السلام) شكّل انعطافة تأريخية في مسيرة الأمة الإسلامية تأسست من خلالها مرحلة جديدة كانت سبباً في إماطة اللثام عن وجوه الأمويين، فكشفت عن نوايا وخبايا خطيرة كانوا يضمرونها ويكنونها متحينين فرصة الانقضاض والانقلاب على الشرعية وتمزيق وحدة المسلمين وتشتيت شملهم.

وقد يُساء فهم مبدأ الصلح الذي أبرمه الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية بن ابي سفيان، فيرى بعض أنّه (عليه السلام) تنازل عن الخلافة أو الإمامة لرأس الفئة الباغية، ويرى بعض آخر أنّ الصلح المبرم إنّما هو إذلال للمسلمين وانكسار لهم.. غير أنّ الصلح لا يحمل كل تلك المعاني ولا يصدق عليه واحدة منها، والتاريخ يشهد - رغم كتابته بحبر أموي- بأنّ الصلح الذي أبرمه الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية بن أبي سفيان حقق نتائجاً ما كانت الحرب لتأتي بمثلها.

وما تقدم سينجلي بوضوح بعد بيان الأسباب التي اضطرت الإمام الحسن (عليه السلام) وألجأته للصلح مع معاوية بن أبي سفيان.

أسباب الصلح:

إنّه كثيراً ما تطالعنا كتب السيرة والتاريخ بحوادث غابرة أُسدل على كثير منها ستار التمويه إنْ لم نقل التشويه – رغم أنّ يد التشويه والتحريف قد طالتها-, وإظهارها على غير حقيقتها كحادثة صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية بن أبي سفيان، حيث نجد أنّ أغلبها تستهل قضية الصلح أو تعزوها إلى حديث أخرجه عدة من المحدّثين من طرق مرسلة، وهذا الحديث رواه البخاري، ومدار طرقه على راوي واحد وهو أبو بكرة.

 وأبو بكرة هذا هو أخ زياد بن أبيه من أمه سميّة، وهذا الرجل ناصبي معروف، تكلم فيه أئمة الجرح والتعديل من أهل السنة.

 ويمكن القول بأنّه حديث موضوع تبنّاه الخط الأموي، لما فيه من مآرب تعضد مشروع استحواذهم على الشرعيّة.

 تسرد المصادر التاريخيّة حادثة الصلح على أساس أنّها من الغيبيّات التي أنبأ بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم قال: إنّ ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين...

فالحديث يفسّر حركة الإمام الحسن (عليه السلام) بأنّها حركة محكومة بالرغبة في تحقيق نبوة الرسول (صلّى الله عليه وآله), في وقت أنّ النبوة هي إخبار من النبي عن الغيب بحدث سيحصل بقطع النظر عن أسبابه ومفاعيله, وليست أمراً من الرسول للحسن بأن يخضع للمصالحة!(1).

وعلى الرغم من ذلك فأن الكل مطبق ومتفق على نتائج ذلك الصلح بصورة اجمالية وهو أمر طبيعي فحلول الصلح محل الحرب محض خير يراد بالمسلمين، ووأد فتنة كادت تُشعل فتيل حرب يروح ضحّيتها آلاف مؤلفة من المسلمين.. لكن الأسباب باتت محل خلاف، بل لا مجال للاتفاق عليها البتة.

فمن قائل إنّ الامام الحسن (عليه السلام) صالح معاوية مختاراً راغباً في تحقيق نبوءة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال: ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين!

ومن قائل أنّه (عليه السلام) صالح مضطراً لأسباب ألجأته الى ذلك.

أمّا الأول فمحض كذب وافتراء على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى سبطه الامام الحسن (عليه السلام) وقد بان ذلك بوضوح فيما تقدم.

وأمّا الثاني فهو الحق المؤكد بلسان الإمام الحسن (عليه السلام)، الذي تناقلته أغلب المجاميع الحديثية والمصادر التاريخيّة الشيعيّة منها والعامية.  

نتائج الصلح: 

لا شك إنّ قرار الصلح قد انطوى على نتائج هامة تصب في صالح الأمة الإسلامية وحركتها التاريخيّة، فنشوب حرب بين فئتين يؤدي لا محالة إلى تشتيت الدولة الإسلامية وتفتيت وحدتها، وهنا نلمس دور الصلح وأثره في توحيد الدولة الإسلامية وتوحيد كلمة المسلمين، وجمع قلوبهم على غايةٍ واحدة، وتوحيد صفوفهم.

وإنّ نشوب حرب بين المسلمين بمثابة سرطان ينخر في جسد الأمة الإسلامية، ومما لا شك فيه إنّ الحرب التي تكاد تندلع إنّما هي حرب استنزاف تزهق فيها أرواح المئات، بل الآلاف من المسلمين من كلا الطرفين ولا يلوح لنهايتها أفق.. لكن الصلح الذي أبرمه الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية أدى الى قلب الأمور رأساً على عقب فاستأصل ذلك السرطان الذي كاد أن ينتشر في جسد الأمة الواحدة، بإخماد نار الفتنة وإطفاء فتيل الحرب، والذي يؤدي بالنتيجة الى حقن دماء المسلمين، يقول: (عليه السلام) (وقد رأيت أنّ حقن الدماء خير من سفكها، ولم أرد بذلك إلاّ إصلاحكم وبقاءكم) (2).

وإذا كان لكل حرب استحقاقاتها الخاصة، فإنّ دخول الإمام الحسن (عليه السلام) في حرب مع معاوية بن أبي سفيان يعني وضع جميع إمكانات الدولة الإسلامية وقوّتها العسكريّة في صراع يأكل الوجود الإسلامي من الداخل، وبالتالي سيكون هذا الوجود ضعيفاً منهكاً يتهاوى لمجرد أيّ ضربة متوقعة من الخارج، أو فتنة من الداخل وعليه فقد خطر الصلح في نفسه لأول مرة، كيف لا والإسلام يواجه خطر أعدائه إلى جانب خطر المفروضين عليه باسمه (3). 

والصلح يعني بقاء الصفوة الخيّرة في وسط الأمة؛ من أجل تنظيم صفوفها وتنسيق برامجها في الإصلاح والتغيير، وتحكيم المفاهيم والقيم الإسلامية الأصيلة، والوقوف بوجه الزيف والتدليس وتحجيم الانحراف والتآمر على الإسلام باسمه.

والإمام الحسن (عليه السلام) عندما هادن معاوية وتنازل عن الحكم اتجه إلى تغيير الأمة وتحصينها من الأخطار التي كانت تهددها، والإشراف على القاعدة الشعبيّة وتوعيتها بمتطلبات الشخصيّة الإسلاميّة وتعبئتها بمستوى التغيير الرسالي للإسلام ولبعث الأمة من جديد (4). 

ومن نتائج الصلح:

1- أسس قاعدة رصينة انبثقت منها النهضة الحسينيّة لإحياء الدين وكل القيم الانسانيّة يوم نقض معاوية العهود والمواثيق التي اشترطها الإمام الحسن (عليه السلام) عليه، عندما خلّف ابنه يزيد (لعنه الله) على المسلمين أميراً فعاث في الأرض فساداً. 

2- كشف للمسلمين حقيقة معاوية والحكم الأموي، حيث أقّر في خطابه قائلا: "إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنّكم تفعلون ذلك، إنّما قاتلتكم لأتأمر عليكم", فهذه الحقيقة أسقطت الحكم الأموي من شاهق، وكشفت أوراقه وأزالت القناع عن وجه حكامه وأرسلتهم الى الحضيض.

3- أتاح للإمام الحسن (عليه السلام) فرصة تمهيد أرضيّة ملائمة لنشر علوم جده وأبيه (صلوات الله عليهم أجمعين) لاسيما مسألة الإمامة، الأمر الذي من شأنه توسيع القاعدة الشعبيّة لأهل البيت (عليهم السلام). 

4- كان سبباً في انفتاح الشام على البلاد الإسلامية بعد ما كانت موصدة الأبواب منعزلة عن مراكز الوعي الإسلامي.

_____________________

  1- صلح الامام الحسن(ع) من منظور آخر - ص81.

  2- باقر شريف، حياة الإمام الحسن، ص264.

  3- سليمان كامل، الحسن بن علي، ص105.

  4- الأديب عادل، دور أئمة أهل البيت في الحياة الإسلامية، ص198.