سؤالٌ عنِ التّقيّة

رائد رائد/: هلِ التّقيّةُ يُعمَلُ بها مع الكفّارِ فقط ؟ أم مع غيرِهم منَ المسلمين ؟ وما مظمونُها وتعريفُها اللّغويُّ و الإصطلاحي ؟ معَ الدّليل .

: اللجنة العلمية

الأخُ رائدٌ المحترم, السّلامُ عليكُم ورحم اللهِ وبركاتهُ 

تُعرّفُ " التقيّةُ "  في كتبِ اللّغةِ بالحذرِ والحيطةِ من الضّرر ، والإسمُ : التقوى ، وأصلها : إوتَقى ، يُوتَقي ، فقُلبتْ الواو إلى ياءٍ للكسرةِ قبلِها ، ثمّ اُبدلَتْ إلى تاءٍ واُدغمتْ ، فقيلَ : اتّقى ، يتَّقي  [  تاجُ العروس للزُبيدي ١٠ : ٣٩٦ ـ « وقي »]

وفي الاصطلاحِ ، قالَ إبنُ حجرٍ الشّافعي : «التقيّةُ : الحذرُ من إظهارِ ما في النّفسِ ـ منْ مُعتقَدٍ وغيرهِ ـ للغيرِ » [فتحُ الباري بشرحِ صحيحِ البخاري ،إبنُ حجرٍ العسقلاني ١٢ : ١٣٦ ]

وعنِ الآلوسي الحَنبلي  في تفسيرِ قولهِ تعالى : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) آلُ عِمران :28 : « وفي الآيةِ دليلٌ على مشروعيّةِ التقيّةِ وعَرّفوها  بمحافظةِ النّفسِ أو العِرضِ ، أو المالِ من شرِّ الأعداء ».

وعرّفها الشيخُ المراغي المصري بقولهِ : « التقيّةُ ، بأن يقولَ الإنسانُ ، أو يفعلَ ما يخالفُ الحقّ ، لأجلِ التوقّي منْ ضررِ الأعداءِ ، يعودُ إلى النّفسِ ، أو العِرضِ ، أو المال ». [ تفسيرُ المراغي : ٣ : ١٣٧]

وفي هذا الجانبِ قالَ ابنُ تيميّةَ في " مجموعِ الفتاوى " : ( فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَجَدَ قُدَّامَ وَثَنٍ وَلَمْ يَقْصِدْ بِقَلْبِهِ السُّجُودَ لَهُ بَلْ قَصَدَ السُّجُودَ للهِ بِقَلْبِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُفْراً وَقَدْ يُبَاحُ ذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَ مُشْرِكِينَ يَخَافُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَيُوَافِقُهُم فِي الْفِعْلِ الظَّاهِرِ وَيَقْصِدُ بِقَلْبِهِ السُّجُودَ للهِ كَمَا ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَعَلَ نَحْوَ ذَلِكَ مَعَ قَوْمٍ مِن المُشْرِكِينَ حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْ مُنَافِرَتَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ) .انتهى [ مجموعُ الفتاوى 14 : 120]

وهنا نجدُ ابنَ تيميّةَ يبيحُ السّجودَ للأوثانِ تقيّةً .

أمّا أنّ التقيّةَ هلْ تختصُّ بالتقيّةِ منَ الكافرينَ أم تشملُ المسلمينَ أيضاً ، بحيثُ يجوزُ على المسلمِ أن يتّقيَ من المسلمِ إذا خشيَ على نفسهِ أو مالهِ أو عرضهِ منَ الهلاك ؟!

الجوابُ :  قالَ الفخرُ الرّازيّ في تفسيرِ قولهِ تعالى : ( إلّا أنْ تتّقوا منهم تُقاةً ) : ظاهرُ الآيةِ يدلُّ على أنَّ التقيّةَ إنّما تحلُّ مع الكفّارِ الغالبينَ ، إلّا أنّ مذهبَ الشّافعي -رضيَ اللهُ عنهُ - : أنّ الحالةَ بينَ المسلمينَ إذا شاكلتِ الحالةَ بينَ المسلمينَ والكافرينَ  حلّتِ التّقيّةُ محاماةً عنِ النّفسِ ، وقالَ : الّتقيّةُ جائزةٌ لصونِ النّفسِ ، وهل هي جائزةٌ لصونِ المالِ ؟ يُحتَملُ أن يحكمَ فيها بالجوازِ لقولهِ (ص) : ( حرمةُ مالِ المسلمِ كحرمةِ دمهِ ) ، وقولهِ (ص) : ( من قُتِلَ دونَ مالهِ فهوَ شهيد ) . [ مفاتيحُ الغيبِ ، الفخرُ الرازي 8: 13]

وعنِ المراغي في تفسيرِ قولهِ تعالى : ( منْ كفرَ باللهِ من بعدِ إيمانهِ إلّا منْ أكرِهَ وقلبهُ مطمئنٌّ بالإيمانِ ) : ويدخلُ في التّقيّةِ مداراةُ الكفرَةِ والظلمَةِ والفسقَةِ وإلانَةُ الكلامِ لهم ، والتّبسّمُ في وجوههِم وبذلُ المالِ لهم ، لكفِّ أذاهُم وصيانةِ العِرضِ لهم ، ولا يُعدُّ هذا منَ الموالاةِ المنهيّ عنها ، بل هو مشروعٌ ، فقد أخرجَ الطّبراني قوله "ص" : ( ما وقى المؤمنُ به عرضَهُ فهو صدقةٌ ) . [ تفسيرُ المراغي 3: 136] .

وقالَ الآلوسي : « وعدَّ قومٌ من بابِ التّقيّةِ مداراةَ الكفّارِ والفسقَةِ والظلمَةِ وإلانَةَ الكلامِ لهم والتّبسّمَ في وجوههِم والانبساطَ معهُم وإعطاءَهم لكفّ إذاهُم وقطعَ لسانِهم وصيانةَ العرضِ منهم ولا يُعدُّ ذلكَ من بابِ الموالاةِ المنهيّ عنها بل هيَ سُنّةٌ وأمرٌ مشروع ».[ روحُ المعاني ، الآلوسي ٣ : ١٢١]

ودُمتُم سالِمينَ.