أنّ الإمام الحسن (ع) مطلاق ذوّاق في روايات الشيعة الإمامية.

لم يرُق لكثير من ذوي النفوس المريضة إمامة الإمام الحسن عليه السلام وعصمته وطهارته، فكانوا لسفاهتهم يرون أنّ الإمام الهمام الحسن المجتبى عليه السلام كان مطلاقاً ذواقاً؛ إذ اتخذوا منهجاً معوجاً في الاستدلال على مدّعاهم فعمدوا إلى روايات ساقطة عن الاعتبار متناً وسنداً، فاتهموا الشيعة الإمامية باعتمادها والاستناد إليها زوراً وبهتاناً, منها ما رواه الشيخ الكليني في الكافي بسندٍ ينتهي إلى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (إنّ عليّاً قال وهو على المنبر: لا تزوجوا الحسن؛ فإنه رجلٌ مطلاق، فقام رجل من همدان فقال: بلى والله لنزوجنّه وهو ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وابن أمير المؤمنين عليه السلام، فإنْ شاء أمسك وإنْ شاء طلّق)(١). واستدلوا أيضاً بما عقّب به العلامة المجلسي على الخبر في مرآة العقول بقوله: (موثق)(٢). ثم أردفوا الخبر المذكور بتساؤل ينم عن قلوب حقودة خاوية من نور العلم والإيمان: لماذا نهاهم عليّ عليه السلام عن تزويجه؟ فهل المطلاق يفعل شيئاً حراماً أو حلالً عند الرافضة؟  ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل تعداه إلى محاولة يائسة بائسة لإثبات أن الإمام الحسن عليه السلام ممن يبغضه الله عزّ وجلّ ثم يُنسب ذلك زوراً وكذباً إلى أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام برواية وردت في الكافي أيضاً، جاء فيها عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (ما من شيء مما أحله الله عزّ وجلّ أبغض إليه من الطلاق، وإن الله يبغض المطلاق الذوّاق)(٣). ثم أردفوا أيضاً هذه الرواية بعدة تساؤلات: هل فعل الإمام الحسن عليه السلام هذا فيه رضاً لله تعالى أو غضب؟ وهل وقع الإمام الحسن عليه السلام في غضب الله تعالى على ضوء روايات الرافضة؟ وهل يتناسب فعل الإمام الحسن عليه السلام مع العصمة التي يقول بها الرافضة؟  ثم أجابوا عن جميع تلك التساؤلات المذكورة في أعلاه قائلين: نعم؛ لأنّ علياً عليه السلام حذّر من تزويج الحسن عليه السلام بطريقة تدل دلالة واضحة على أنّه كان يفعل فعلاً خاطئاً. هذا وسيتضح للقارئ الكريم بعد أسطر من الآن عور كلامهم هذا وسوء مرامهم. 

: اللجنة العلمية

إن دعوى تبني الشيعة الإماميّة لهذه الرواية المذكورة في أعلاه وغيرها إنما هي من الدعاوى الباطلة والأكاذيب المحضة؛ إذ كلّ منصف بإمكانه الرجوع إلى مصنفات علماء الشيعة الإمامية - رحم الله الماضين منهم وأطال في أعمار الباقين – المتخصصة في علم الدراية والرواية ليطلع على الضابطة العامة في قبول الأخبار والروايات الواردة من جهة المعصومين عليهم السلام. 

وقبل الخوض في الردّ على هذه الشبهة وإماطة اللثام عنها أرى أنْ نمهّد لذلك بمقدمة نستعرض من خلالها ما يتوقف عليه قبول الرواية والعمل بها أو ردّها والإعراض عنها ثم تطبيق ذلك على خطوات الردّ على هذه الشبهة.

مقدمة في بيان ما يتوقف عليه قبول الرواية أو ردّها.

إنّ النصّ الوارد من قبل المعصوم إما أنْ يكون متواتراً أو آحاد, وإليك بيان كلّ واحد منهما:

المتواتر: هو الذي يرويه كثرة من الرواة تبلغ حدّ إحالة العادة اتفاقهم على الكذب.

بمثل هذا صاغه الشهيد الثاني في (الدراية) بقوله: (هو ما بلغت رواته في الكثرة مبلغاً، أحالت العادة تواطؤهم - أي: اتفاقهم - على الكذب.

واستمر ذلك الوصف، في جميع الطبقات حيث يتعدد.، بأن يرويه قوم عن قوم، وهكذا إلى الأول.

فيكون أوله في هذا الوصف كآخره، ووسطه كطرفيه، ليحصل الوصف: وهو استحالة التواطي على الكذب، للكثرة في جميع الطبقات المتعددة)(٤).

وعليه فالمتواتر هو من تصدى لنقله مجموعة كبيرة من الرواة من الصعب جداً الظن بأنهم جميعاً من الكاذبين, وحينها يكون ذلك طريقاً للعلم بصدور الخبر عن المعصوم عليه السلام, كالذين أخبرونا عن سبب نزول آية التطهير في أصحاب الكساء الخمسة عليهم السلام، وغيرها من الآيات والأحاديث التي لو أخذنا بذكرها لطال بنا المقام, وحينها يقال: إنّ هذا الخبر متواتر، والحكم حينئذ القطع بالمخبَر عنه، واليقين الذي لا يخالطه شك بأن الأمر هو كما أخبروا.

الآحاد: هو الذي لا يبلغ حد التواتر، سواء كان راويه واحداً أو أكثر من واحد(٥).

وعليه, فخبر الآحاد خبر لا يفيد العلم ولا الاطمئنان بالمخبَر به، بل غايته إفادة الظن بذلك, لكونه منقولاً بواسطة راوٍ واحدٍ أو أكثر ولم يـبلغ العدد الموجب للعلم والاطمئنان كما في المتواتر.

ولكي يكون خبر الواحد حجة ويصح الاستناد إليه، فلابد أن تتوفر فيه أصالات ثلاث، وهي:

١-أصالة الصدور.

٢-أصالة الظهور.

٣-أصالة الجهة.

فهلمّ معي إلى بيان كل واحدة من هذه الأصالات: 

فأصالة الصدور: تعني إحراز صدور الرواية عن المعصوم عليه السلام, ومع عدمه لا يمكن الاستناد إليها بل لا يجوز نسبة ذلك إليه عليه السلام.

إذن, فالعمل بأي رواية على أساس صدورها عن المعصوم عليه السلام لا يمكن الاستناد إليها والعمل بها ما لم يتم إحراز صدورها عن المعصوم عليه السلام.

وقد سلك علماء الشيعة الإمامية في ذلك مسلكين:

مسلك الوثاقة: ويقصد بالوثاقة هنا أي وثاقة الراوي نفسه والذي يعدُّ المحور الأساس في حجّية وصحة الرواية.

وعليه, فلا بد من دراسة سند وطرق الروايات لإحراز الاطمئنان بصحتها بناءً على هذا المسلك, فإنْ وردت رواية من قبل المعصوم ولوحظ فيها وثاقة جميع رواتها فتكون الرواية حينها صحيحةً من جهة السند.

إذن, فالراوي على هذا المسلك هو الأساس الذي يحرز من خلاله صحة الرواية. 

ولعل السيد الخوئي قدس سره ممن تبنى هذا المسلك كما هو الملاحظ من كلامه في المعجم، فقد ضعّف بعض من تسالم عليهم المشهور بكونهم ثقات؛ ولكن وفق مبنى الوثوق الذي يأتي بيانه.

ومحصَّل الكلام: فلو كان في سلسلة سند الرواية راوٍ ضعيف فلا يتم حينها إحراز صدورها من جهة المعصوم عليه السلام. 

مسلك الوثوق: ويقصد به الوثوق بصدور الرواية عن المعصوم عليه السلام، عن طريق قرائن تدل على صحتها وتوجب الركون إليها والأخذ بها, كموافقة هذه الرواية للقرآن، وأيضا موافقتها للسنة القطعية، والعقل ومسلمات التأريخ وهكذا.

والفرق بين المسلكين واضح فمن يقول بالوثاقة يرى العبرة بالراوي، والذي يقول بالوثوق يرى العبرة بالرواية وكونها صادرة بنحو ما بقرائن واحتمالات وقد تتراكم كما وكيفاً، وبالنتيجة يحصل الاطمئنان من خلالها بصحة صدور الرواية عن المعصوم عليه السلام.

ولا يخفى أن أصالة الصدور متحققة بالنسبة للخبر المتواتر، فلا معنى للكلام حول صحته أو ضعفه، فمجرد كون الخبر متواتراً يكفي في تحقق صدوره عن المعصوم عليه السلام.

وأما أصالة الظهور: فتعني ظهور ألفاظ المتن في: العموم، أو الإطلاق، أو الحقيقة... إلخ.

فلا يمكن العمل بأي نص يأتينا من قبل الشارع المقدس، سواء كان هذا النص آية أو رواية إلا بعد معرفة مقصده وفهم مراده من خلال الألفاظ الواردة في ذلك النص بأقرب المعاني إلى اللفظ لغةً.

فمعرفة مقصود الشارع المقدس من اللفظ الوارد في آية ما أو رواية ما يسمى ظهوراً؛ إذ هو المعنى المستفاد من ذلك اللفظ، فيكون هو المراد للمتكلم.

إذن فالظهور انسباق معنى اللفظ إلى ذهن السامع بمجرد سماعه له.

وأما أصالة الجهة: فتعني إحرز أن النص الشرعي قد صدر لبيان المراد، ولم يكن صدوره من باب اختبار السامع وامتحانه، أو من باب التقية، بل صدوره من المتكلم وهو قاصد لمعنى كل كلمة قالها في كلامه.

إذا اتضح هذا فهلمَّ معي إلى خطوات الردِّ على الشبهة المذكورة في المقام مع تطبيق ما ذكرناه في هذه المقدّمة، ثمَّ ننظر هل تلك الروايات مقبولة عند المسلكين أو أحدهما أو لا؟. 

الخطوة الأولى: مصادر روايات كثرة زواج الإمام الحسن عليه السلام وطلاقه.

لا يخفى أنّ مجموع ما ورد من روايات في كتب الشيعة بخصوص كثرة زواج وطلاق الإمام الهمام الحسن المجتبى عليه السلام لا يتجاوز عدد أصابع اليد(٦)، وما عداها إما نقل عن مصادرها أو لا يمتّ للموضوع بصلة؛ لذا أعرضنا عن ذكرها, وإليك ما يختص بالمقام وهو ثلاث روايات تضمنت ما ظاهره أن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام كان كثير الزواج والطلاق, فإليك ذكرها:

الرواية الأولى: ما نقله الشيخ الكليني في الكافي عن (عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن عليّاً قال وهو على المنبر: لا تزوجوا الحسن فإنه رجل مطلاق، فقام رجل من همدان فقال: بلى والله لنزوجنّه، وهو ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وابن أمير المؤمنين عليه السلام، فإنْ شاء أمسك وإنْ شاء طلّق)(٧). 

الرواية الثانية: ما نقله الشيخ الكليني في الكافي أيضاً عن (يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الحسن بن علي عليهما السلام طلق خمسين امرأة فقام علي عليه السلام بالكوفة فقال: يا معاشر أهل الكوفة لا تنكحوا الحسن؛ فإنه رجل مطلاق، فقام إليه رجل فقال: بلى والله لنُنكحنّه؛ فإنه ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وابن فاطمة عليها السلام، فإنْ أعجبته أمسك وإنْ كره طلّق)(٨).

الرواية الثالثة: وهي ما نقله أحمد بن أبي عبد الله البرقي في (المحاسن) عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: جئتك مستشيراً، إن الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر خطبوا إلي, فقال أمير المؤمنين عليه السلام: المستشار مؤتمن، أما الحسن فإنه مطلاق للنساء، ولكن زوجها الحسين فإنه خير لابنتك)(٩).

الخطوة الثانية: مناقشة الروايات سنداً ودلالة.

إنّ ما ذُكرَ من روايات في خصوص كثرة زواج الإمام الحسن عليه السلام وطلاقه كان من الآحاد، وقلنا في المقدِّمة أنّه لكي يكون خبر الآحاد حجّة ويصح الاستناد إليه، فلابدّ أن تتوافر فيه أصالات ثلاث، أصالة الصدور, وأصالة الظهور, وأصالة الجهة, وقلنا إنّ أصالة الصدور تعني إحراز صدور الرواية عن المعصوم عليه السلام, ومع عدمه لا يمكن الاستناد إليها بل لا يجوز نسبة ذلك إليه عليه السلام, وذكرنا أنّ علماء الشيعة سلكوا في ذلك مسلكين، هما مسلك الوثاقة, ومسلك الوثوق وبيّنّا في محله ما المراد منهما, ولا بأس بالتَّذكير بذلك:

فالمقصود بمسلك الوثاقة هو وثاقة نفس الراوي والذي يعدُّ المحور الأساس في حجّية وصحّة الرواية.

وبناءً على هذا المسلك لا بدَّ من دراسة سند وطرق الروايات لإحراز الاطمئنان بصحّتها, فإنْ وردتْ روايةٌ مِنْ قِبَل المعصوم، ولوحظ فيها وثاقة جميع رواة سندها تكون الرواية حينها صحيحة من جهة السند.

والمقصود بمسلك الوثوق هو الوثوق بصدور الرواية عن المعصوم عليه السلام عن طريق قرائن تدلّ على صحتها وتوجب الركون إليها والأخذ بها, كموافقة هذه الرواية للقرآن، وأيضاً موافقتها للسنة القطعية والعقل ومسلّمات التأريخ وهكذا.

وهذا أوان تطبيق ما ذكرناه على الروايات الثلاث التي تُخبر عن كثرة زواج الإمام الحسن عليه السلام وطلاقه, فإليك دراستها واحدة تلو الأخرى:

الرواية الأولى: وهي ما نقله الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن محمد بن زياد بن عيسى، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام...

قال العلامة المجلسي في مرآة العقول: موثق, ولهذا نسب إليه أنه ممن يتبنى القول بأن الإمام الحسن عليه السلام كان كثير الزواج والطلاق، وسيأتي بيان بطلان هذه النسبة.

فلندرس هذه الرواية على مسلك الوثوق ومسلك الوثاقة، ونستبين ما إذا كانت صالحة للاحتجاج أو لا:

الرواية سنداً ودلالةً على مسلك الوثوق: 

إنّ الرواية - بناءً على مسلك الوثوق – لا تتوافر فيها أصالة الجهة؛ لذلك ناقشها العلامة المجلسي قائلاً: (ولعلّ غرضه عليه السلام كان استعلام حالهم، ومراتب إيمانهم، لا الإنكار على ولده المعصوم المؤيد من الحي القيوم)(١٠).

ودعوى أنَّ النص قد صدر لبيان المراد، وهو نهي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أهل الكوفة عن تزويج الإمام الحسن عليه السلام لكونه مزواجاً ذواقاً, مع توثيق العلامة المجلسي قدس سره لهذا النص - يعتقد أولئك - أنه زاد في دلالة مدّعاهم, ولكنك - كما ترى – فإن العلامة قدس سره مع قوله: (موثَّق) ناقش النصّ لعدم توافر أصالة الجهة فيه, بمعنى أنّ النصّ لم يكن قد صدر لبيان المراد, بل من باب اختبار السامع وامتحانه، أي إن الإمام الحسن عليه السلام لم يكن مطلاقاً ذوّاقاً كما ورد في كلام أبيه أمير المؤمنين عليه السلام - بحسب الرواية - بل غاية ما في الأمر أن أمير المؤمنين عليه السلام كان بصدد اختبار وامتحان أهل الكوفة في مدى استجابتهم وانصياعهم لأمره ونهيه.

وبما أنّ العلاّمة المجلسي لا يرتضي ما ظاهره أنّ الإمام الحسن عليه السلام كثير الزواج والطلاق, حاول تأويل ذلك الظاهر على أنّ ذلك قد صدر من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام لأهل الكوفة على نحو الاختبار والامتحان. 

ويَرِد على تأويل العلامة قدس سره المذكور إشكال يؤدي إلى سقوط الرواية من رأس, وإليك بيانه:

جاء في الرواية قول أمير المؤمنين عليه السلام وهو على المنبر مخاطباً أهل الكوفة: لا تزوجوا الحسن فإنه رجل مطلاق... وهذا لا ينسجم مع توجيه العلامة المجلسي قدس سره في قوله: (ولعل غرضه عليه السلام كان استعلام حالهم، ومراتب إيمانهم، لا الإنكار على ولده المعصوم)؛ إذ يستلزم ذلك محذور كذب الإمام عليٍّ عليه السلام (حاشا أمير المؤمنين) في إخباره عن أمرٍ لا أساس له قد نسبه لولده الإمام الحسن عليه السلام, وأمير المؤمنين عليه السلام - كما لا يخفى على كل مسلم - لا يفعل ذلك مع أعدائه فضلاً عن أوليائه، فما بالك في ولده الإمام المعصوم الذي سيليه في إمامة الأمة من بعده!!

وكيف كان, فتأويل العلامة المجلسي لظاهر النص مع الإشكال الوارد عليه يؤديان إلى سقوط الرواية عن الاعتبار وعدم جواز الاعتماد عليها.

فإن قلت: وماذا تقول في عبارة المحقق البحراني في الحدائق الناضرة عن الخبر السابق بأنه موثق(١١) الذي لأجله نسب إليه أنه ممن يقول بأن الإمام الحسن عليه السلام كان كثير الزواج والطلاق؟ 

قلت: بعد أن ذكر المحقق البحراني عدة روايات تضمنت الإخبار بكون الإمام الحسن عليه السلام كان كثير الزواج والطلاق عقّبها بقوله الآتي: (وربما حمل بعضهم هذه الأخبار على ما تقدم في سابقها من سوء خلق في أولئك النساء أو نحوه مما يوجب أولوية الطلاق، ولا يخفى بُعدُه؛ لأنه لو كان كذلك لكان عذراً شرعياً، فكيف ينهى أمير المؤمنين عليه السلام عن تزويجه والحال كذلك.

وبالجملة فالمقام محل إشكال، ولا يحضرني الآن الجواب عنه، وحبس القلم عن ذلك أولى بالأدب)(١٢).

ومنه تعرف أن المحقق يرى عدم توافر أصالة الجهة في هذه الرواية وأخواتها، فأخذ يناقش من قال - مبرراً كثرة زواج الإمام وطلاقه - إنه ما كان ذلك إلا لسوء خلق في تلك النساء... فاستبعد هذا التبرير ورأى أن المقام محل إشكال، وأوضح بأنه لا يحضره الجواب.

إذن فالمحقق البحراني يرى أن جهة الصدور غير متوفرة في هذه الرواية، وبه يتضح كذب نسبة تبنيه القول بكثرة زواج الإمام عليه السلام وطلاقه.

الرواية سنداً ودلالة على مسلك الوثاقة:

ذهب الشيخ الإيرواني دام ظله إلى أن الكتب الأربعة وغيرها فيها أحاديث قد لا يمكن التصديق بصدورها, من قبيل ما نقله الكليني في الكافي في كتاب الطلاق من أن أمير المؤمنين عليه السلام ارتقى المنبر وقال: لا تزوجوا ولدي الحسن عليه السلام فإنه مطلاق.

وقال: إننا لا نرضى بتقديس كتاب الكافي ولا غيره بثمن باهض يحط فيه من كرامة إمامنا الحسن عليه السلام.

وإذا قيل بأن أمثال هذه الروايات لا بدَّ من رفع اليد عن ظاهرها وتأويلها بشكل من الأشكال، من قبيل تأويل الرواية التي تضمنت ارتقاء أمير المؤمنين عليه السلام وقوله: لا تزوجوا الحسن فإنه مطلاق، بأن بعض العوائل الكوفية كانت تحاول تزويج الإمام الحسن عليه السلام من بعض بناتها، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يحذر على ولده من تلك البنات؛ لذا ارتقى المنبر وقال: لا تزوجوا ولدي الحسن فإنه مطلاق حذراً منه على ولده.

أجبنا: ما الفائدة في الحفاظ على الصدور وإلغاء الظهور؟!! إن تقديس أهل البيت عليهم السلام وأخبارهم يلزم أن يدعونا للحفاظ عليها صدوراً وظهوراً، أما التسليم بصدورها مع عدم العمل بظهورها فهو رفع بالتالي لليد عن أخبار أهل البيت عليهم السلام ويعني عدم عملنا بها(١٣).

فالرواية بناء على مسلك الوثاقة فيها حميد بن زياد والحسن بن سماعة، وهما - كما لا يخفى - من الواقفة، ولا يمكن الأخذ بما يرويه هؤلاء وغيرهم من المخالفين إلا وفق شروط وضوابط معينة أشار إليها السيد الخوئي قدس سره في معجمه - وكذا غيره من أعلام الطائفة- حيث قال قدس سره في ترجمة عمار الساباطي ما يأتي: 

(قال الشيخ: قد ضعفه (عمار الساباطي) جماعة من أهل النقل، وذكروا أن ما ينفرد بنقله لا يُعمل به؛ لأنه كان فطحياً، غير أنا لا نطعن عليه بهذه الطريقة؛ لأنه وإن كان كذلك فهو ثقة في النقل، لا يطعن عليه فيه... وذكر في العدة وجوب العمل برواية سائر فرق الشيعة إذا كان الراوي موثوقاً به ومتحرجاً في روايته، ولم يكن على خلافها رواية من العدل الثقة، ولم يعرف من الطائفة العمل بخلافها، وقال: ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية، وأخبار الواقفة)(١٤).

ولهذا حكم المحقق الأردبيلي في إحدى الروايات الواقع في سندها حميد بن زياد والحسن بن محمد بن سماعة الواقفيان بعدم صحة سندها إليهما(١٥).

وقال: إن حميد بن زياد واقفي، والحسن بن محمد بن سماعة أيضاً واقفي شديد العناد مع هذه الطائفة ومع أبي إبراهيم عليه السلام، فيمكن رد الرواية لهذا، وهو كافٍ(١٦).

إذن فحميد بن زياد والحسن بن محمد بن سماعة من الواقفة، وتوثيقهما مردود فيما يتعلق بالعقائد المخالفة لنا, ولا يخفى أنّ من الأمور المجمع عليها نظرياً بين الفقهاء والعلماء هو أن أخبار الآحاد لا تصلح للاستشهاد والاستنباط العقائدي وما يتعلق به من مسائل حتى لو كان هذا الخبر صحيح السند, فتنبه.

الرواية الثانية: وهي ما نقله الشيخ الكليني في الكافي أيضاً بسند ينتهي إلى يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله عليه السلام...

قال العلامة المجلسي قدس سره: يحيى بن أبي العلاء مجهول. 

وقال السيد الخوئي قدس سيره في (معجم رجال الحديث):ثم إن الظاهر أن يحيى بن أبي العلاء الذي عده الشيخ من أصحاب الباقر عليه السلام, مغاير ليحيى بن أبي العلاء الذي ذكره في الفهرست؛ وذلك لأن حميداً المتوفى سنة (٣١٠) يروي كتاب يحيى بن أبي العلاء بواسطة القاسم بن إسماعيل, ولا يمكن أن يروي حميد عن أصحاب الباقر عليه السلام بواسطة واحدة, فلا محالة يكون من عده الشيخ في أصحاب الباقر عليه السلام مغايراً لمن عنونه في الفهرست.

والمتلخص من ذلك: أن يحيى بن أبي العلاء رجل من أصحاب الباقر عليه السلام, وليس له كتاب, ويحيى بن أبي العلاء رجل آخر من أصحاب الصادق عليه السلام, وهو صاحب الكتاب على قول الشيخ, ويحيى بن العلاء أيضا من أصحاب الصادق عليه السلام, وهو صاحب الكتاب على قول النجاشي.

ثم إن الظاهر أن ما ذكره الشيخ من أن صاحب الكتاب هو يحيى بن أبي العلاء الرازي هو الصحيح, وذلك لأن المذكور في الروايات كثيراً هو يحيى بن أبي العلاء, ولم نجد ليحيى بن العلاء حتى رواية واحدة.

وقد ذكر الصدوق في المشيخة يحيى بن أبي العلاء, وذكر طريقه إليه وهو: محمد بن الحسن - رضي الله عنه -, عن الحسين بن الحسن بن أبان, عن الحسين بن سعيد, عن فضالة بن أيوب, عن أبان بن عثمان عنه, والطريق صحيح, إلا أن طريق الشيخ إليه ضعيف بأبي المفضل, والقاسم بن إسماعيل.

بقي هنا شيء: وهو أن يحيى بن أبي العلاء الرازي لم يرد فيه توثيق, ويحيى بن العلاء وإن وثقه النجاشي في ترجمته وفي ترجمة ابنه جعفر, إلا أنك قد عرفت مغايرته ليحيى بن أبي العلاء, فيحيى بن أبي العلاء مجهول(١٧).

وعليه, فالرواية ضعيفة على المسلكين لجهالة يحيى بن أبي العلاء.

ويمكن رد هذه الرواية من حيث الدلالة أيضاً؛ ذلك لمعارضتها الأدلة القطعية التي تدل على إمامة الإمام الحسن عليه السلام وعصمته, ولا يتصور بحال من الاحوال اختلافه مع أبيه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بل استحالة صدور ذلك منه عليه السلام؛ لمقتضى تلك الأدلة.

ومنها ما رواه الكليني أيضا في الكافي: 

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن إسحاق بن غالب، عن أبي عبد الله عليه السلام في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة عليه السلام وصفاتهم:....اصطفاه الله بذلك واصطنعه على عينه في الذر حين ذرأه، وفي البرية حين برأه، ظلاً قبل خلق نسمة عن يمين عرشه، محبواً بالحكمة في علم الغيب عنده، اختاره بعلمه، وانتجبه لطهره، بقية من آدم عليه السلام وخيرة من ذرية نوح، ومصطفى من آل إبراهيم، وسلالة من إسماعيل، وصفوة من عترة محمد صلى الله عليه وآله لم يزل مرعياً بعين الله، يحفظه ويكلؤه بستره، مطروداً عنه حبائل إبليس وجنوده، مدفوعاً عنه وقوب الغواسق ونفوث كل فاسق، مصروفاً عنه قوارف السوء، مبرءاً من العاهات، محجوباً عن الآفات،، معصوماً من الزلات مصوناً عن الفواحش كلها، معروفاً بالحلم والبر...)(١٨).

قال العلامة المجلسي في مرآة العقول: صحيح(١٩).

ومنها ما رواه أيضاً الشيخ الكليني في الكافي: (محمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ما علامة الإمام الذي بعد الإمام؟ فقال: طهارة الولادة وحسن المنشأ، ولا يلهو ولا يلعب)(٢٠).

وقال العلامة المجلسي أيضاً في مرآة العقول: صحيح(٢١).

فهاتان الروايتان صريحتان في نفي اللهو عن الإمام عليه السلام, وهذا كله فيما يخص الإمام الحسن عليه السلام. 

أما ما يخص الإمام أمير المؤمنين علياً عليه السلام فإنه لا يتصور أن يصدر عنه فعل كالذي ورد في الرواية بحق ولده وفلذة كبده والإمام الذي سيلي أمر الأمة من بعده؛ لأنّه عليه السلام إن كان يريد من ولده الإمام الحسن عليه السلام عدم الزواج فمن السهل أن يقول له ذلك سراً، لا أن يطلب ذلك من الناس بصورة تحريضية مشينة, فالعاقل المنصف يجزم بعدم صدور مثل هذا الفعل عن سيد العقلاء أمير المؤمنين عليه السلام بحق الأبعدين فضلاً عن الأقربين.

ولو صح ما روي – ولا نُسلِّم به - لكان ذلك مما يشين الإمام الحسن عليه السلام ولكان معاوية وجلاوزته أول من طبّل لذلك وزمّر وزاد فيه واستكبر, إلا أن ذلك لم يحصل ولم ينقل لنا التاريخ شيئاً عنه رغم أن كتابته كانت بحبر أموي.

الرواية الثالثة: وهي رواية المحاسن, وقد يتذرع بها البعض ويشكل بالآتي:

إنه إذا كان النص الوارد في رواية الكافي المذكورة (الرواية الأولى والثانية) قد صدر على نحو الاختبار والامتحان من قبل الإمام عليٍّ عليه السلام لأهل الكوفة, أي إن الرواية لم يحرز فيها أصالة الجهة, وعلى فرض أنه بذلك يرتفع إشكال كون الإمام الحسن عليه السلام مطلاقاً ذواقاً, فإن أصالة الجهة متوافرة ومُحرزة في رواية أخرى قد نقلها البرقي في المحاسن بسندٍ ينتهي إلى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام, أنه قال: (أتى رجل أمير المؤمنين عليا عليه السلام فقال له: جئتك مستشيراً، إن الحسن عليه السلام والحسين عليه السلام وعبد الله بن جعفر خطبوا إلي فقال أمير المؤمنين عليه السلام: المستشار مؤتمن، أما الحسن فإنه مطلاق للنساء، ولكن زوجها الحسين فإنه خير لابنتك)(٢٢), والأصل في السؤال الحقيقة وفي الجواب البيان, فأمير المؤمنين عليه السلام في هذه الرواية في مقام البيان، وهذا يلزم منه كون الإمام الحسن عليه السلام مطلاقاً للنساء.

فأقول: يلاحظ على رواية المحاسن أمران:

الأمر الأول: تزاحم الثلاثة - الإمامان الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن جعفر- على خطبة امرأة واحدة مما دفع أباها إلى أخذ الاستشارة من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام فجاء جوابه بأنْ زوّجْها الحسين ولا تزوجها الحسن لكونه مطلاقاً, إلا أن اللافت للنظر أن الرواية لم تذكر أن الإمام عليّاً عليه السلام بيّن علة عدم تزويج المرأة لعبد الله بن جعفر كما فعل مع الإمام الحسن عليه السلام مع أن الاستشارة كانت في خصوص الثلاثة!!.

الأمر الثاني: إن الشخص الذي جاء مستشيرا ًلأمير المؤمنين عليه السلام هو (المسيب بن نجبة) كما كشفت عنه رواية ابن عساكر في تأريخه وجاء فيها أن الامام علياً عليه السلام أشار أباها بأن يزوجها عبد الله بن جعفر(٢٣).

وابنة المسيب هذه هي (جمانة) كما هو الثابت تأريخياً عند الفريقين وإنها زوجة عبدالله بن جعفر عليه السلام.

قال النمازي في مستدركات علم الرجال: (عون بن عبد الله بن جعفر الطيار: من شهداء الطف ومتشرف بسلام الناحية المقدسة. قيل: وهذا عون الأكبر وأمه زينب العقيلة. وعون الأصغر مقتول يوم الحرة وأمه جمانة بنت المسيب بن نجبة الفزاري)(٢٤).

وقال التستري في القاموس: (وعدّ نسب قريش مصعب الزبيري أولادها من زوجها عبد الله بن جعفر ثلاث بنين، وهم: جعفر الأكبر وعون الأكبر وعليّ وبنتين أُمّ كلثوم وأُمّ عبد الله. هذا، وعدّ مقاتل أبي الفرج المقتولين بالطفّ من ولد عبد الله بن جعفر ثلاثة (محمّداً وعبيد الله) من الخوصاء بنت خصفة، و(عون الأكبر) من زينب.

وأمّا الطبري والزبيري فلم يذكرا فيهم من ولدها، بل جعلا المقتول (عوناً الأصغر) من جمانة بنت المسيّب بن نجبة(٢٥).

وقال ابن حبان في السيرة النبوية: (وكانت أم عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب جمانة بنت المسيب بن نجبة)(٢٦).

وقال ابن الصباغ المالكي في الفصول: (وقُتل عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأُمّه جمانة بنت المسيّب، قتله عبد الله بن قطنة الطائي)(٢٧).

وهذا بحدِّ ذاته دليل قاطع على سقوط رواية المحاسن التي ورد فيها قول الإمام علي عليه السلام: زوِّجها الحسين فهو خير لابنتك..

وعليه فالروايات الثلاث ساقطة عن الحُجّية سنداً ودلالة على كلا المسلكين.

 

 

الهوامش:

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) الكافي – للشيخ الكليني – ٦: ٥٦.

(٢) مرآة العقول – العلامة المجلسي – ٢١: ٩٦.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) الرعاية في علم الدراية – الشهيد الثاني – ص٥٢.

(٥) وممن عرف خبر الواحد بهذا الشهيد الثاني في (الدراية)، والشيخ المامقاني في(المقباس ١ / ١٢٥)، والشيخ المظفر في ( أصول الفقه ٢ /٦٩ )، والسيد معروف في (الدراسات ٤٠)، وغيرهم.

(٦) سيأتي الكلام عنها في غير هذه الشبهة.

(٧) الكافي – الشيخ الكليني – ٦: ٥٦.

(٨) المصدر نفسه.

(٩) المحاسن – للبرقي – ٢: ٦٠١, وسائل الشيعة – ١٢: ٤٣, ٤٤, باب وجوب نصح المستشير.

(١٠) مرآة العقول – للعلامة المجلسي – ٢١: ٩٦.

(١١) الحدائق الناظرة – للمحقق البحراني – ٢٥: ١٤٨.

(١٢) المصدر نفسه.

(١٣) ينظر: دروس تمهيدية في القواعد الرجالية – الشيخ الإيرواني – ص٢٢٢, بتصرف يسير.

(١٤) معجم رجال الحديث – السيد الخوئي – ١٣: ٢٧٩.

(١٥) ينظر: مجمع الفائدة والبرهان – المحقق الأردبيلي – ١٠: ٢٦٢.

(١٦) ينظر: المصدر نفسه, ١٠: ٤٧٩.

(١٧) معجم رجال الحديث – السيد الخوئي – ٢١: ٢٦.

(١٨) الكافي, ١: ٢٠٣.

(١٩) مرآة العقول – العلامة المجلسي – ٢: ٤٠٠.

(٢٠) الكافي, ١: ٢٨٤.

(٢١) مرآة العقول – العلامة المجلسي – ٣: ٢٠٦.

(٢٢) المحاسن – البرقي – ٢: ٦٠١.

(٢٣) تاريخ دمشق – ابن عساكر – ٢٧: ٢٦٢.

(٢٤) مستدركات علم الرجال – للنمازي – ٦: ١٤٣.

(٢٥) قاموس الرجال – للتستري – ١٢: ٢٧٣.

(٢٦) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء – لابن حبان – ٢: ٥٥٩.

(٢٧) الفصول المهمة في معرفة الأئمة – ابن الصباغ المالكي – ص٨٤٦.