ما هوَ موقفُنا نحنُ الشّيعةُ مِن صلاحِ الدّينِ الأيّوبيّ؟ ولماذا قتلَ الفاطميينَ في مصر؟

: اللجنة العلمية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : 

صلاحُ الدّينِ الأيوبيّ منَ الشّخصيّاتِ التي وقعَ حولَها جدلٌ وإختلافٌ، وهناكَ الكثيرُ منَ الكتبِ والبحوثِ التي بحثَت في تاريخِ صلاحِ الدّين بينَ المُعارضِ والمُخالفِ، وما يجبُ الإشارةُ إليه في هذا المقامِ هوَ ضرورةُ المنهجِ الموضوعيّ في دراسةِ الشّخصيّاتِ التّاريخيّةِ بعيداً عن التّقييماتِ المذهبيّةِ والطّائفيّةِ، وبخاصّةٍ الشّخصيّاتِ التي كانَ لها دورٌ في بعضِ المُنعطفاتِ التّاريخيّةِ المؤثّرةِ على المسارِ التّاريخيّ للأمّةِ، حيثُ يجبُ دراستُها مِن خلالِ دورِها التّاريخيّ بعيداً عنِ التّقييمِ الدّينيّ للشّخصيّةِ، فصلاحُ الدّينِ ضمنَ هذهِ الرّؤيةِ لا يمكنُ تجاهلُ التّأثيرِ الذي أحدثَه في تاريخِ الأمّةِ، فقد أقامَ مملكتَه على أنقاضِ الدّولةِ العبّاسيّةِ والفاطميّةِ فمنَ الطّبيعيّ أن يكونَ قد أحدثَ تغييراً في المسارِ التّاريخيّ للأمّةِ، ومِن هُنا لا يجوز الدّفاعُ عنهُ بوصفِه قائداً عسكريّاً تمَّ على يديهِ تحريرُ بيتِ المقدسِ وإنّما يجبُ أن يكونَ التّقييمُ لتمامِ المشهدِ الذي كانَ مُؤثّراً فيهِ، وإلّا يكونُ التّقييمُ مُبتنياً على العاطفةِ الشّعبويّةِ، وهذا ما وقعَت فيهِ الأمّةُ فما يُذكرُ صلاحُ الدّينِ حتّى يُذكرَ معه بيتُ المقدسِ وكأنّه لم يفعَل شيئاً غيرَ ذلك، ولِذا إعتبرَهُ غالبُ المُسلمينَ بطلاً وقائِداً تاريخيّاً أعادَ أمجادَ الأمّةِ الإسلاميّةِ، والإنصافُ يقتضي عدمَ إهمالِ إنتصاره على الصّليبيّينَ في معركةِ حطّينَ سنة 1187م، إلّا أنَّ ذلكَ لا يقتضي التّغافلَ عَن أخطائِه وغفرانَ زلّاتِه ونسيانَ ما أحدثَه مِن مجازرَ في حقِّ المُسلمينَ، بَل حتّى فتحُ بيتِ المقدسِ يجبُ ألّا يُنظرَ إليه مِن خلالِ معركةٍ حطّين فقط وإنما يجب النظر إلى ما فعله بعد تلك المعركة، حيث لم يحافظ صلاح الدين على هذا النصر وإنما سعى للصلح مع الصليبيين معَ أنّهُ كانَ المُنتصر، الأمرُ الذي يفتحُ بابَ التّحقيقِ أمامَ الأسبابِ التي دفعَتهُ لذلكَ، وبخاصّةٍ أنَّ شروطَ الصّلحِ كانَت مُجحفةً في حقِّه، حيثُ أضاعَ الكثيرَ منَ المكاسبِ التي حقّقها بالحربِ، فتنازلَ لهُم عَن كثيرٍ منَ المُدنِ التي فتحَها مثلَ حيفا، يافا، قيسارية، نصفُ اللدِّ، ونصفُ الرّملةِ، وعكّا، وصور، حتّى عادَت فلسطينُ للإفرنجِ إلّا القليلَ منها، يقولُ العلّامةُ حسن الأمين في كتابِه (صلاحُ الدّينِ الأيوبيّ بينَ العبّاسيّينَ والفاطميّينَ والصّليبيّين) في صفحة 144: (لم يكَد يطمئنُ إلى النّصرِ الرّائعِ في تلكَ المعركةِ، حتّى أسرعَ إلى القيامِ بعملٍ لا يكادُ الإنسانُ يُصدّقُه، لولا أنّه يقرأ بعينيهِ تفاصيله الواضحةَ، فيما سجّله مؤرّخو تلكَ الحقبةِ، المُؤرّخونَ الذينَ خدّرَت عقولهم روائعُ إستردادِ القُدسِ، فذهلوا عمّا بعدَه، لم تتخدّر أقلامُهم فسجّلوا الحقائقَ كما هـي، وظلّ تخديرُ العقولِ متواصلاً مِن جيلٍ إلى جيل، تتعامى حتّى عمّا هـوَ كالشّمسِ الطّالعةِ، حصلَ بعدَ حطّين أنّ صلاحَ الدّينِ الأيّوبيّ آثرَ الرّاحةَ بعدَ العناءِ، والتّسليمَ بعدَ التّمرّدِ، فأسرعَ يطلبُ إلى الإفرنجِ إنهاءَ حالةِ الحربِ وإحلالَ السّلام) وبذلكَ أضاعَ كلَّ المكاسبِ التي حقّقها بالحربِ ما عدا بيتِ المقدسِ، الأمرُ الذي جعلَ الكثيرَ منَ الباحثينَ يتّهموهُ بالسّعي لتحقيقِ مكاسبِه الشّخصيّةِ، حيثُ آثرَ التّحالفَ معَ الصّليبيّينَ مِن أجلِ بسطِ سُلطانِه على أنقاضِ الدّولةِ العبّاسيّةِ والفاطميّةِ، والذي يؤكّدُ ذلكَ هوَ خضوعُ العالمِ الإسلاميّ بالفعلِ لسُلطانِه ومملكتِه الخاصّةِ، فبعدَ أن إستتبَّ الأمرُ لصلاحِ الدّين جعلَ العالمَ الإسلاميَّ ورثةً خاصّةً بينَ أولادِه وأقاربِه، وقد نقلَ إبنُ كثيرٍ كيفَ قسّمَ العالمَ إلى إماراتٍ تخضعُ كلُّ إمارةٍ لحُكمِ واحدٍ مِن أولادِه أو أقاربِه، حيثُ قامَ قبلَ وفاتِه بتوزيعِ البلادِ الإسلاميّةِ على هذا النّحوِ: فجعلَ مصرَ لولدِه العزيز عمادِ الدّينِ أبي الفتح. وجعلَ دمشقَ وما حولَها لولدِه الأفضلِ نور الدّين علي. وجعلَ حلبَ وما إليها لولدِه الظّاهر غازي غياثِ الدّين. وجعلَ الكركَ والشّوبكَ وبلادَ جعبر وبلداناً كثيرةً على قاطعِ الفراتِ لأخيهِ العادلِ. وجعلَ حماه ومعاملةً أُخرى معها لإبنِ أخيه الملكِ المنصورِ محمّدٍ بنِ تقي الدّينِ عمر. وجعلَ حمصَ والرّحبةَ وغيرَها لإبنِ عمّه أسدِ الدّينِ بنِ شيركوه. وجعلَ اليمنَ جميعَه بمعاقلِه ومخاليفِه لأخيهِ ظهيرِ الدّينِ سيفِ الإسلامِ طفتكين بنِ أيوب. وجعلَ بعلبكَ وأعمالَها لابنِ أخيهِ الأمجدِ بهرام شاه بنِ فروخ شاه. وجعلَ بُصرى وأعمالَها لـلظّافرِ بنِ الناصر.

فكيفَ يُهملُ كلُّ ذلكَ في تقييمِ تاريخِ صلاحِ الدّين؟ فعلى أقلِّ تقديرٍ يجبُ ألّا يُقيّمَ تقييماً دينيّاً فيُجعلَ منَ الصّالحينَ أو منَ القياداتِ الرّبّانيّةِ التي يقومُ عليها الولاءُ والبراءُ بينَ أبناءِ الأمّةِ، وإنّما هوَ رجلٌ مِن عامّةِ المُسلمينَ إستطاعَ أن يطوّعَ التّاريخَ لتحقيقِ مشروعِه الخاصّ، وقد تمكّنَ بالفعلِ مِن بسطِ نفوذِه وتأسيسِ مملكتِه الأيّوبيّةِ، وحتّى لو إفترضنا أنّهُ قاتلَ الصّليبيّينَ مِن أجلِ الإسلامِ وإعادةِ أمجادِ الأمّةِ فقد نالَ أجرَ ذلكَ مِن خلالِ بسطِ سيطرتِه على العالمِ الإسلاميّ، وعليهِ فإنَّ الإختلافَ والشّحناءَ بينَ أبناءِ الأمّةِ حولَ صلاحِ الدّين لا ترتكزُ على أيّ مبرّرٍ دينيٍّ أو أخلاقيٍّ، فهوَ ليسَ قدّيساً أو قائداً ربّانيّاً حتّى يكونَ الإصطفافُ حولَه بينَ مؤمنٍ وكافر، وإنّما هوَ رجلٌ مِن عامّةِ المُسلمينَ يجبُ دراستُه وتقييمُه سياسيّاً وليسَ دينيّاً وأخلاقيّاً، وبيتُ المقدسِ وإن كانَ رمزاً دينيّاً إلّا أنَّ فتحَه وتحريرَه يجبُ أن يُقيّمَ سياسياً؛ لأنَّ نيّةَ القُربى للهِ بهذا العملِ لا يعلمُها غيرُ اللهِ تعالى، والأمرُ الوحيدُ الذي يمكنُ تقييمُه دينيّاً وأخلاقيّاً هيَ المظالمُ التي صدرَت مِن صلاحِ الدّينِ في حقِّ المُسلمينَ، لأنَّ الظّلمَ والتّعدّي على حقوقِ الآخرين مدانٌ بحكمِ الدّينِ والأخلاقِ، وصلاحُ الدّينِ ليسَ بريئاً مِن دماءِ المُسلمينَ والتّعدّي على حقوقِهم ومُصادرةِ حُرّيّاتِهم كما فعلَ في مصر، فبينَما كانَ حريصاً على مُصالحةِ الصّليبيّينَ نجدُه كانَ شديداً على الفاطميّينَ، حيثُ تعدّى عليهم وأسرفَ في قتالِهم وسفكِ دمائِهم مِن دونِ أيّ مبرّرٍ لذلكَ، سوى توسيعِ مُلكِه وسلطانِه، ولم يقِف عندَ هذا الحدِّ وإنّما تعدّى حتّى على الكتبِ والمكتباتِ وكانَ مِن بينِها مكتبةُ الفاطميّةِ في القصر الفاطميّ حيثُ قامَ بإحراقِها، وهيَ تحتوي على ما يزيدُ عَن مئتي ألفِ مجلدٍ في سائرِ العلومِ والفنونِ، منَ الفقهِ والحديثِ واللّغةِ والتّاريخِ والأدبِ والطّبِّ والكيمياءِ والفلكِ وغيرِها، الأمرُ الذي يكشفُ عَن حقدِه على كلِّ ما يتعلّقُ بتراثِ الفاطميّين.  

وفي المُحصّلةِ يجبُ دراسةُ تاريخِ صلاحِ الدّين مِن زاويةٍ سياسيّةٍ بعيداً عنِ التّقييماتِ الدّينيّةِ والمذهبيّةِ، ولا مانعَ مِن وجودِ شيعيٍّ يُقيّمُ صلاحَ الدّين بشكلٍ إيجابيٍّ كما هناكَ سُنّةٌ يقيّمونَه بشكلٍ سلبيّ، فالأمرُ ليسَ لهُ علاقةٌ بالمذاهبِ بقدرِ ما لهُ علاقةٌ بالدّراسةِ الموضوعيّةِ للحقائقِ التّاريخيّةِ بعيداً عنِ التّحزّباتِ الدّينيّة.