هَلْ مَعْرِفَةُ اللهِ أَمْرٌ نَظَرِيٌّ؟
لَوْ كَانَ وُجُودُ اللهِ وَاضِحًا وُضُوحَ الشَّمْسِ لَا يَقْبَلُ الجَدَلَ فَلِمَ الخَوْضُ فِي وُجُودِهِ وَعَدَمِ وُجُودِهِ لِلبَرْهَنَةِ فِي النِّهَايَةِ عَلَى حَقِيقَةِ وُجُودِهِ؟ فَلَا بُرْهَانَ إِلَّا فِي حَالَةِ الشَّكِّ، فَمَا لَمْ يَكْنْ شَكٌّ فَلَا بُرْهَانَ لِإِزَالَةِ الشَّكِّ.
لاَبُدَّ أَنْ نُؤَكِّدَ كَمَا أَكَّدْنَا فِي أَجْوِبَةٍ سَابِقَةٍ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ لَيْسَتْ أَمْرًا نَظَرِيًّا افْتِرَاضِيًّا، وَإِنَّمَا حَقِيقَةٌ فِطْرِيَّةٌ مُتَحَقِّقَةٌ فِي وِجْدَانِ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ القُرْآنُ وَأَكَّدَتْهُ رِوَايَاتُ المَعْصُومِينَ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ)، وَعَلَيْهِ لَا يُصْبِحُ الخِلَافُ حَوْلَ اللهِ اخْتِلَافًا نَظَرِيًّا نَاتِجًا مِنَ الشَّكِّ فِي أَصْلِ وُجُودِهِ، وَإِنَّمَا خِلَافٌ بَيْنَ مُؤْمِنٍ مُصَدِّقٍ بِتِلْكَ المَعْرِفَةِ الفِطْرِيَّةِ، وَبَيْنَ كَافِرٍ مُنْكِرٍ لِتِلْكَ الحَقِيقَةِ، وَالكُفْرُ فِي اللُّغَةِ يَعْنِي التَّغْطِيَةَ، وَالمَقْصُودُ تَغْطِيَةُ الإِنْسَانِ لِفِطْرَتِهِ بِشَهَوَاتِهِ وَرَغَبَاتِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَتْ مَنْهَجِيَّةُ القُرْآنِ لِإِعَادَةِ الإِنْسَانِ إِلَى فِطْرَتِهِ هِيَ التَّذْكِيرَ وَالتَّنْبِيهَ، وَلِذَا نَجِدُ أَكْثَرَ آيَاتِ الذِّكْرِ الحَكِيمِ تُؤَكِّدُ عَلَى هَذَا المَعْنَى، فَالقُرْآنُ لَا يُبَرْهِنُ عَلَى أَمْرٍ غَائِبٍ أَوْ مَجْهُولٍ يُرِيدُ إِثْبَاتَهُ كَأَيِّ فَرَضِيَّةٍ أَوْ نَظَرِيَّةٍ، وَإِنَّمَا يُذَكِّرُ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى رَبِّهِمُ الظَّاهِرِ بِذَاتِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ﴾(1) وَقَالَ: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾(2). وَعَلَيْهِ فَإِنَّ القُرْآنَ كُلَّهُ قَائِمٌ عَلَى التَّذْكِيرِ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾(3)، وَقَوْلِهِ: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾(4)، وَقَوْلِهِ: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ﴾(5)، وَقَوْلِهِ: ﴿طه (1) مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ (6). وَقَدْ لَخَّصَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ مُهِمَّةَ الأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ: (فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهَ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ العُقُولِ، وَيَرَوْهُمْ آيَاتِ المَقْدِرَةِ)(7).
وَكَذَلِكَ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي تُذَكِّرُ الإِنْسَانَ بِرَبِّهِ هُوَ التَّفَكُّرُ فِي آيَاتِ الكَوْنِ وَالنَّفْسِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(8). كَمَا أَنَّ المَصَاعِبَ وَالكَوَارِثَ الَّتِي تُصِيبُ الإِنْسَانَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ بِمَثَابَةِ مُنَبِّهَاتٍ قَوِيَّةٍ تُسَاعِدُ فِي رَفْعِ الحُجُبِ الَّتِي تَرَاكَمَتْ عَلَى الفِطْرَةِ، وَأَحْيَانًا مِنْ هَوْلِ الكَارِثَةِ تَجِدُ الكَافِرَ يَصْرَخُ مُنَادِيًا رَبَّهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوْهَامَ الدُّنْيَا كُلَّهَا تَتَبَخَّرُ عِنْدَمَا يَشْرُفُ الإِنْسَانُ عَلَى الهَلَاكِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ المَعْرِفَةُ حَقِيقَةً فِطْرِيَّةً جُبِلَ عَلِيهَا الإِنْسَانُ، كَيْفَ يَسْتَذْكِرُ الكَافِرُ رَبَّهُ عِنْدَمَا يُشَارِفُ عَلَى الهَلَاكِ.
فَعِنْدَمَا يَتَأَمَّلُ الإِنْسَانُ فِي مُظَاهِرِ الخَلْقِ، يَسْتَنْطِقُ فِطْرَتَهُ الَّتِي حَجَبَتْهَا الغَفْلَةُ، وَعِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالمِحَنِ تَنْقَشِعُ تِلْكَ الحُجُبُ لِيَرَى اللهَ ظَاهِرًا بِذَاتِهِ ومُعرِّفًا عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ رَجُلٌ لِلصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) :يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، دُلَّني عَلَى اللهِ مَا هُوَ؟ فَقَدْ أَكْثَرَ عَلَيَّ المُجَادِلُونَ وَحَيَّرُونِي، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةً قَطُّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةٌ تُنْجِيكِ، وَلَا سِبَاحَةٌ تُغْنِيكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ - هُنَاكَ - أَنَّ شَيْئًا مِنَ الأَشْيَاءِ، قَادِرٌ عَلَى أَنَّ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ؟ فَقَالَ :نَعَمْ. قَالَ الصَّادِقُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): فَذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ اللهُ القَادِرُ عَلَى الإِنْجَاءِ حَيْثُ لَا مُنْجِيٌّ، وَعَلَى الإِغَاثَةِ حَيْثُ لَا مُغِيثٌ)(9).
وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الخِلَافَ حَوْلَ وُجُودِ اللهِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَشْكُوكًا، وَإِنَّمَا لِأَنَّ البَعْضَ حَجَبَتْهُ الدُّنْيَا عَنْ رُؤْيَةِ الحَقِيقَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة/7.
(2) سورة الواقعة/62.
(3) سورة الغاشية/22.
(4) سورة يس/69.
(5) سورة الأنعام/90.
(6) سورة طه/1-3.
(7) نهج البلاغة ج 1 ص 23
(8) سورة فصلت/53.
(9) الاحتجاج للطبرسي 1 / 199، نهج البلاغة- الخطبة الأولى 1 / 40 تحقيق صبحي الصالح.
اترك تعليق