القرآنُ يكشفُ غرورَ الكافرِ وتكبُّرَهُ.
مقولةٌ لَطالَما أحببْتُ أنْ أذكرَها: "كلَّما قرأْتُ القرآنَ ازدَدْتُ إلحاداً"، ففي كلِّ قصَّةٍ منْ قصصِ القرآنِ تلاحظُ استحالةَ فرضيَّةِ كونِ هذا القرآنِ كلامَ إلهٍ ما، يمجِّدُ نفسَهُ ونبيَّهُ في كلِّ آيةٍ، يخبرُنا مِراراً وتَكراراً أنَّهُ هوَ القويُّ القادرُ على كلِّ شيءٍ، ويخبرُنا في كلِّ موضعٍ عمّا سيفعلُهُ بمنْ لا يؤمنُ بنبيِّهِ ويتّبعُ أوامرَهُ، وكيف أنَّهُ يمكرُ، ينتقمُ، يغضبُ، يشتمُ، يتوعَّدُ، يفرحُ، يحزنُ، يستحيي، يتحسَّرُ، يبرُّ أوامرَ عبادِهِ، يصلِّي على نبيِّه، وغيرُها منَ الأمورِ.
إنَّ الكلامَ الذي يخرجُ منَ الإنسانِ قولاً أوْ نصّاً يكشفُ ما عليْهِ صاحبُهُ منْ نضجٍ واتِّزانٍ على مستوى الوعيِ والإدراكِ، أوْ على مستوى كمالِ النَّفسِ والطِّباعِ. والتَّحليلُ النَّفسيُّ للنُّصوصِ يحاولُ الكشفَ عنْ (أنا) الكاتبِ، واللاوعيِ المتجلِّي في النَّصِّ. وقدْ تكونُ هذهِ المَهمَّةُ عسيرةً في النُّصوصِ الأدبيَّةِ المعقَّدةِ، إلّا أنَّها يسيرةٌ جدّاً في النُّصوصِ ذاتِ الطّابَعِ النَّفسانيِّ، التي تحاولُ التأكيدَ على الذّاتِ. والإنسانُ الذي يسكنُهُ هَوَسٌ منَ الآخَرِ، أوِ الذي يلاحقُهُ الشُّعورُ بالدُّونيَّةِ لا يجدُ متنفَّساً إلّا منْ خلالِ الكلماتِ ذاتِ العناوينِ الصّارخةِ، فكلَّما أحدثَ ضجَّةً لفتَ أنظارَ الآخرينَ إليْهِ، فمَنْ يعاني منْ مركَّباتِ نقصٍ في شخصيَّتِهِ يسعى دائماً للانتقامِ منَ المجتمعِ الذي همَّشَهُ، ولذا نجدُهُ يستهدفُ المجتمعَ في قيَمِهِ المقدَّسَةِ سواءٌ أدينيَّةً كانتْ أمْ غيرَ دينيَّةٍ.
وهذا النَّصُّ الذي أمامَنا يبدأُ بعبارَةِ: (مقولةٌ لَطالما أحبَبْتُ أنْ أذكرَها)، والفكرةُ لا تكونُ محبوبةً للإنسانِ إلى درجةٍ تجعلُهُ يُشيدُ بِها دائماً إلّا إذا صادفتْ هوىً في نفْسِهِ، وبالتالي لا تكونُ تعبيراً عنْ حقيقةٍ واضحةٍ، بلْ تعبيراً عنْ شعورٍ نفسيٍّ خاصٍّ بصاحبِهِ. ونحنُ هنا لا نمنعُ منَ التَّعلُّقِ الوجدانيِّ بالحقائقِ، وإنَّما نمنعُ منَ التَّدليلِ على الحقِّ بمقاييسِ الحبِّ والبغضِ. فالفكرةُ بما هي حقٌّ مِلْكٌ للجميعِ، وليستْ خاصَّةً بأحدٍ، ولا تحتاجُ إلى رابطٍ شخصيٍّ؛ لأنَّها تمتلكُ مقوِّماتِ الحضورِ بذاتِها، وعليْهِ فإنَّ التَّحليلَ النفسيَّ لمثلِ هذهِ المقولةِ يقودُنا للكشفِ عنِ الخلفيّاتِ النفسيَّةِ التي تحرِّكُ صاحبَها. فحالةُ الإطراءِ على الذّاتِ تنمُّ عنْ شخصيَّةٍ نرجسيَّةٍ متكبِّرةٍ، والإنسانُ يعبِّرُ عنْ حبِّهِ لذاتِهِ بإظهارِ الحبِّ لِما يعزِّزُ الأنا فيهِ، وعندَما تتضخَّمُ هذهِ الذّاتُ عندَ الإنسانِ لا يشبعُ غرورَها إلّا الكفرُ باللهِ. فقولُ القائلِ: أنا أحبُّ الإلحادَ، هو تعبيرٌ آخرُ عنْ القولِ: أنا أحبُّ ذاتِي إلى درجةٍ لا أعترفُ فيها بوجودِ مَنْ هوَ أفضلُ منِّي. فمشكلةُ الكفرِ ليستْ ناشئةً عنْ عدمِ المعقوليَّةِ في الإيمانِ، وإنَّما هيَ فيما يصنعُهُ الإيمانُ منْ تواضعٍ في النَّفسِ، والنَّفسُ المتكبِّرةُ لا تطيقُ مَنْ يذكِّرُها بفقرِها وحاجتِها. ولذا نجدُ أنَّ آياتِ القرآنِ الكريمِ أرجعتِ الكفرَ إلى التكبُّرِ والاستكبارِ والغرورِ الذي تعاني منْهُ النُّفوسُ المريضةُ، قالَ تعالى: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾ (سورة النحل 22، 23). وقدْ أرجعَ القرآنُ أسبابَ الكفرِ بآياتِهِ إلى التكبُّرِ أيضاً في قولِهِ تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ (سورة الأعراف 146). وقالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ (سورة الأعراف 40). ومِنْ هُنا لا يحتاجُ الكافرُ إلى معالجاتٍ فكريَّةٍ، وإنَّما يحتاجُ إلى معالجاتٍ نفسيَّةٍ تعيدُ توازنَ النَّفسِ منْ جديدٍ، ولذا ركَّزَ كثيرٌ منْ آياتِ القرآنِ على تهذيبِ النَّفسِ وتزكيتِها حتّى يتخلَّصَ الإنسانُ منَ الأمراضِ التي تصيبُهُ، قالَ تعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾ (سورة الإسراء 37).
أمّا القولُ: (كلَّما قرأتُ القرآنَ ازددْتُ إلحاداً) فهيَ:
أوَّلاً: تكشفُ عنْ موقفٍ سابقٍ، فالإلحادُ لمْ يكنْ نتاجَ قراءةٍ موضوعيَّةٍ للقرآنِ، وإنَّما كانَ موجوداً ثمَّ يزدادُ بحسبِ هذهِ العبارةِ، وغفلَ عنْ أنَّ القرآنَ كتابُ هدىً للمؤمنينَ، فمَنْ يأتِ القرآنَ وهوَ يتعمَّدُ الضَّلالَ لا يزِدْهُ القرآنُ إلّا ضلالاً، قالَ تعالى: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (سورة البقرة 2 - 3). أيْ إنَّ القرآنَ كتابٌ لا ريبَ فيهِ للمتَّقينَ الذينَ يؤمنونَ باللهِ، أمّا الكافرُ الجاحدُ فلا نصيبَ لهُ منْ ذلكَ الهدى، (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (سورة البقرة 118)، وقالَ: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (سورة البقرة 10).
ثانياً: تكشفُ هذهِ المقولةُ عنْ نفسيَّةٍ مهزومةٍ تعيشُ حالةً منَ الاضطرابِ والحَيْرَةِ، فعندَما يقولُ صاحبُها: (أزدادُ إلحاداً) يدلُّ على أنَّ الإلحادَ ليسَ مستقرّاً عندَهُ بما يكفي، فمعَ أنَّهُ يهوى الإلحادَ ويحبُّهُ، إلّا أنَّهُ في حاجةٍ لكلِّ ما يعزِّزُ لهُ هذا الحبَّ، وهذا الموقفُ السلبيُّ منَ القرآنِ ناتجٌ منْ موقفِ القرآنِ السلبيِّ منْ هذهِ النفسيَّةِ المتكبِّرةِ، ولأنَّ القرآنَ يسبِّبُ لهُ قلقاً ويعرِّيهِ. أمّا نفسيَّتُهُ المغرورةُ المتكبِّرةُ، فجعلتهُ يعمِدُ إلى مهاجمةِ القرآنِ في حالةٍ منَ اليأسِ والإحباطِ لعلَّهُ يريحُ نفسَهُ، ولأنَّ المتكبِّرَ لا يحبُّ المدحَ إلّا له، فلا يطيقُ آياتِ القرآنِ التي تمجِّدُ اللهَ وتعظِّمُهُ، فكانَ هجومُهُ على القرآنِ منْ نقطةِ ضعفِهِ هوَ لا منْ ضعفٍ موجودٍ في القرآنِ الكريمِ، ولذا لا أجدُ نفسِي مضطرّاً أنْ أخبرَهُ بفلسفةِ آياتِ الكمالِ والجمالِ التي تشهدُ بعظمةِ اللهِ وتفرُّدِهِ، لأنَّ ذلكَ لا يفيدُ إلّا منْ تواضعَ للحقِّ، وعشِقَ الكمالَ في غيرِهِ، واعترفَ بنقصِهِ وحاجتِهِ.
اترك تعليق