هَلِ التَّعصّبُ لِلدِّينِ أَمرٌ سَلبيٌّ؟

يَقولُ المُلحدونَ: إِنَّ أَحدَ أَسبابِ بَقاءِ الدِّينِ هُوَ التَّعصّبُ، وَلَولا ذَلكَ رُبّما اِنقرَضتِ الدِّياناتُ.

: اللجنة العلمية

لِمناقشةِ هَذا الكَلامِ لَابدَّ أَنْ نَتطرّقَ لِعدّةِ أُمورٍ تَشمُلُ مَعنى التَّعصبِ وَطَبيعتهِ، كَما تَشمُلُ نِسبةَ التَّعصبِ لِلأديانِ، وَأَخيراً مُناقَشةُ المُغالطةِ الَّتي تَقولُ إِنَّ التَّعصّبَ هُوَ سَببُ بَقاءِ الأَديانِ. 

مَفهومُ التَّعصّبِ:

مِنَ الضَّروري قَبلَ الإِجابةِ عَلى هَذا السُؤالِ أَنْ نَتعرّفَ عَلى مَعنى التَّعصّبِ، فَقدِ اشْتبهَ عَلى البَعضِ أَنَّ التَّعصّبَ أَمرٌ قَبيحٌ دَائماً، فَكلّما تَأتي كَلِمةُ تَعصّبٍ فِي أيّ سِياقٍ يَتمُّ تَفسيرُهَا تَفسيراً سَلبيّاً، وَلكي نُفرّقَ بَينَ التَّعصّبِ الحَسنِ وَالتّعصبِ القَبيحِ لَابُدَّ أنْ نَفهمَ أَنَّ الكَلمةَ فِي دَلالتها عَلى الحُسنِ وَالقُبحِ تَنقسمُ إِلى ثَلاثةِ أقسامٍ. 

الأوّلُ: هُناكَ أَلفاظٌ تَدلُّ عَلى مَعانٍ قَبيحةٍ بِذاتِها أو حَسنةٍ بِذاتها، مِثلُ كَلمةِ (عَدلٍ) فَإنَّها تَدلُّ عَلى مَعنىً بِذاتهِ حَسَنٌ، وَكَلمةُ (ظُلمٍ) تَدلُّ عَلى مَعنىً بِذاتهِ قَبيحٌ، فَالعدلُ بِما هُوَ عَدلٌ حَسنٌ وَالظّلمُ بِما هُوَ ظُلمٌ قَبيحٌ وَلا تَتوقّفُ دَلالةُ المَعنى عَلى عُنوانٍ خَارجيٍّ آَخرٍ.

الثَّانِي: مَا كانَ اللَّفظُ يَدلُّ عَلى مَعنىً يَقتضي الحُسنَ أَو القُبحَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتغيَّرُ إِذَا تَغيَّرَ العُنوانُ الخَارجيُّ؛ فَيُصبِحُ مَا كَانَ مُقتضياً لِلحُسنِ دَالَّاً عَلى القُبحِ، وَمَا كَانَ مُقتضياً لِلقُبحِ دَالَّاً عَلى الحُسنِ، مِثلَ (الصِّدقِ) وَ(الكَذبِ) فَالصِّدقُ يَقتضي الحُسنَ إلَّا أَنَّهُ يُمكنُ أَنْ يَكونَ قَبيحاً إِذا طَرَأَ عَليهِ عُنوانٌ خَارجيٌّ مِثلُ الصِّدقِ الَّذي يُؤدِّي إِلى هَلاكِ الأبرياءِ، وَكَذلكَ الكَذبُ يَقتضي القُبحَ إِلّا أَنَّهُ يُصبحُ حُسناً إذَا كَانَ فِيهِ نَجاةُ المُؤمنينَ مَثلاً.

الثَّالثُ: بَعضُ الألفاظِ تَدلُّ عَلى مَعنىً لَا يُفهمُ مِنهُ الحُسنُ أو القُبحُ، وَإنَّما يَدورُ دَائماً مَدارَ العُنوانِ الّذي تُشيرُ إليهِ، مِثلُ (الضَّربِ) فَالضَّربُ لَا يُقالُ عَنهُ حَسَنٌ وَلا يُقالُ عَنهُ قَبيحٌ، وَإنَّما يَتوقَّفُ ذَلكَ عَلى العُنوانِ فَلو كَانَ الضَّربُ مِن أجلِ الإيذاءِ فَهوَ قَبيحٌ، وَإذا كَانَ مِن أجلِ رَدعِ الظّالمِ فَهوَ حَسَنٌ. وَكَلمةُ (التَّعصُّبِ) مِن هَذا القَبيلِ فَلو كَانَ التَّعصُّبُ للحقِّ فَهوَ حَسنٌ وَلو كَانَ للباطلِ فَهوَ قَبيحٌ.

وَبِهذا لَا يُمكنُ أَنْ يُحمَلَ التَّعصُّبُ عَلى المَعنَى السَّلبيّ مَا لَم يُعرَفِ السَّببُ الّذي يَقِفُ خَلفَ هَذا التَّعصُّبِ، فَالتَّعصُّبُ الّذي يَكونُ نَاتجَاً عَنِ الحُبِّ وَالعَاطفةِ وَبَعيداً عَنِ الحَقِّ وَالإنصافِ يَختلِفُ تَماماً عَنِ التَّعصُّبِ النَّاتجِ عَنِ العِلمِ الجَازمِ وَالمَعرفةِ الحَقَّةِ وَالرُّؤيةِ الوَاضحةِ، فَكُلّمَا اِزدادَ الإنسانُ يَقيناً كُلّمَا اِزدادَ تَصلُّبَاً عَلى مَوقفهِ، وَمِنْ هُنا لَا يُمكنُ أَنْ يُعَدَّ التَّعصُّبُ لِلدِّينِ الَّذي يُمثِّلُ الحَقَّ أَمراً سَلبيَّاً وَإنَّمَا يُعَدُّ مَوقِفَاً صَحيحَاً يُمليهِ وُضوحُ الحَقِّ وَثَباتهُ.

مَوقِفُ الدِّينِ مِنَ التَّعصُّبِ:

عَمِلَ الإِسلامُ عَلى تَربيةِ النَّفسِ الإنسَانيَّةِ وَحَضِّهَا عَلى قُبولِ الحَقِّ وَالتَّسليمِ بِهِ وَرَدعِهَا عَنِ الهَوى وَالشَّهواتِ، وَقَدْ أكَّدَتْ نُصوصٌ كَثيرةٌ عَلى تَهذيبِ النَّفسِ وَتَربيتِهَا، بَل أرادَ القُرآنُ أَنْ يَرتقيَ المُسلمُ إلى مُستوىً يَكونُ الحَقُّ فِيهِ هوَالمِعيَارَ حَتَّى لَو كَانَ عَلى نَفسِهِ أَو عَلَى أَهلِهِ وَأَقرَبِ النَّاسِ إِلَيهِ قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (135 النِّساءُ)، وَمَعْ هَذا المُستَوى مِنَ الإنصافِ لَا يُمكِنُ أَنْ يُتَّهَمَ المُؤمِنُ بِالتَّعصُّبِ للبَاطِلِ؛ إِذْ كَيفَ يَكونُ ذَلكَ وَقَدْ أمَرَهُ القُرآنُ أَنْ يَكونَ مُنصِفَاً حَتَّى لَو تَضرَّرتْ مَصالِحُهُ؟ بَلْ هُوَ مُطَالَبٌ بِالعَدلِ وَالإنصَافِ حَتَّى مَعَ الأعْدَاءِ مِمَّا يَدُلُّ عَلى أَنَّ المُسلِمَ لَا تَتحكَّمُ فِيهِ الرَّغبَاتُ النَّفسيَّةُ وَحُبُّ الانتِقَامِ، وَهَذا الأمرُ يَحتاجُ إلى مُستوىً عَالٍ مِنَ التَّربيَةِ الإيمَانيَّةِ، قَالَ تَعالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللهَ ۚ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (8 المَائِدةُ). وَمَعْ وُجودِ كُلِّ هَذِهِ النُّصوصِ الّتي تَعملُ عَلى تَهذيبِ الإنسَانِ وَتَربيتِهِ ليَتَعامَلَ مَعَ الآخَرينَ بِإنصَافٍ إِلَّا أنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّفريطُ فِي الحَقِّ وَالتَّنازُلُ عَنهُ تَحتَ أَيِّ ظَرفٍ مِنَ الظُّروفِ، قَالَ تَعالَى: (فَذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ) (32 يُونُسَ). فَالثّباتُ عَلَى الحَقِّ وَالدِّفاعُ عَنهُ أَمرٌ حَسنٌ وَمَطلوبٌ فِي ذَاتِهِ، وَهوَ الّذي يَكونُ سَبباً فِي استِمرَارهِ وَبَقائهِ وَلا يَعنِي هَذا تَعصُّباً أعْمَى مِنْ غَيرِ بَصيرَةٍ وَإدرَاكٍ، قَالَ تَعَالَى: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (54 الحَجُّ). وَعَلَيهِ فَإنَّ المُعادَلَةَ الدِّينيَّةَ قَائِمةٌ عَلَى نَبذِ البَاطِلِ وَعَدمِ التَّعصُّبِ للهَوى وَفِي الوقْتِ نَفسِهِ يَدعُو إلَى عَدمِ التَّفريطِ فِي الحَقِّ تَحتَ أيِّ حُجةٍ أو ذَريعَةٍ. 

وَإذا اتَّضحَ كُلُّ ذَلكَ تَتَّضحُ أيضَاً المُغالطَةُ الَّتي أرَادَ تَمريرَهَا تَحتَ عُنوانِ التَّعصُّبِ، وَهِيَ أَنَّ الدِّينَ نَجحَ فِي الاسْتِمرارِ بِسبَبِ تَعصُّبِ المُؤمِنينَ، وَالمُغالَطةُ تَكمُنُ فِي التَّفسيرِ السَّلبيِّ للتَّعصُّبِ فِي حِينِ أَنَّنَا لَا نُسلِّمُ بِهذا التَّفسيرِ طَالمَا كَانَ التَّعصُّبُ بِمعنَى الثَّباتِ عَلى الحَقِّ وَالتَّمسُّكِ بِهِ، فَالتَّعصُّبُ القَائِمُ عَلى المَصَالحِ وَالشَّهواتِ لَا يَكونُ مُساهِمَاً فِي الاستِمرَارِ لِكونِ المَصلَحةِ أَمراً ظَرفِيَّاً تَتبدَّلُ مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ بِسببِ تَبدُّلِ الزَّمَانِ، وَعَليهِ لَا تُشَكِّلُ ضَمانةً للاستِمرارِ، بِعكسِ الحَقِّ القَائمِ عَلَى العِلمِ وَالمَعرفةِ فَإنَّهُ أَمرٌ ثَابتٌ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الظّروفُ وَتَبدُّلُ الأزمَانِ. 

وَلو لَم يَكنْ هَذا التَّفسيرُ لِمعنى التَّعصُّبِ مَقبولاً وَكانَ التَّعصُّبُ دَائماً أَمراً سَلبيَّاً، فَحينَهَا لَا بُدَّ أنْ يَكونَ مَحصورَاً فَقط فِي التَّمسُّكِ بِالبَاطلِ وَحِينهَا يُمكنُنَا وَبِكلِّ بَساطةٍ نَفيُ هَذهِ التُّهمةِ عَنِ المُؤمنينَ لِأنَّ القُرآنَ أَمرَ بِالحقِّ وَدَعَا إلَيهِ وَنَهَى عَنِ البَاطِلِ وَعَاقبَ عَليهِ، وَحِينَهَا يَكونُ التَّعصُّبُ فِي الإسْلامِ أَمرَاً مُحَرَّمَاً فَلَا يُمكِنُ وَالحَالُ هَذا أنْ يُجْعَلَ سَبَباً لاستِمرَارِ الإسْلامِ.