دليلُ عصمةِ النّبيِّ والأئمّةِ مِن أهلِ بيتهِ (ع) مِنَ القرآنِ الكريم.

Abbas Flamerz: سلامٌ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ .. إذا مُمكِن سؤالٌ: جماعةٌ مِن أهلِ السّنّةِ يقولونَ أنَّ محمّداً والَ محمّدٍ غيرُ معصومينَ. هل يمكنُ أن تعطونا آيةً قرآنيّةً تثبتُ ذلكَ؟ ولكم جزيلُ الشّكرِ.

: اللجنة العلمية

الأخُ المحترمُ، السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ

مَا أسهلَ الدّعاوى، إذ لا يَعجزُ أحدٌ عنهَا، ولو يُعطى النّاسُ بِدعاواهُم لاختلَّ ميزانُ الحقِّ والعدلِ، ومهمَا كانتْ هذهِ الدّعاوى فإنّهَا تَتساقطُ وتَتلاشى أمامَ الحُججِ والبَراهينِ، فكلُّ مَن ناوأَ عصمةَ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ) وعِصمةَ الائمَّةِ مِن أهلِ بيتهِ (عليهمُ السّلام) لم يأتِ بشيءٍ يَستندُ إليهِ ويَعتمدُ عليهِ فيمَا ذهبَ إليهِ.

أوّلاً: عِصمةُ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ) منَ القرآنِ الكريمِ:

القرآنُ الكريمُ نصَّ على عِصمةِ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) في أكثرِ مِن آيةٍ، منهَا وأهمّهَا قولهُ تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:٣ ـ ٤].

فكَلمةُ (ما) نافيةٌ, وكلمةُ (ينطقُ) نَكرةٌ، والنّكرةُ في سياقِ النّفي تُفيدُ العُمومَ، فيكونُ المَعنى: أنّهُ لا يَنطقُ عنِ الهوى فِي سائرِ حالاتِهِ مُطلقاً، فكلُّ مَا يتكلّمُ أو ينطقُ بهِ النّبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) لا يَصدرُ إلّا عَن وَحيٍ وتَعليمٍ، مِن دونِ أنْ يَذكرَ لذلكَ التّعليمِ حدَّاً، وللوحيّ قَيداً، بَل إنَّ كلَّ ما ينطقُ بهِ هوَ الوحيُ منَ اللهِ يُلقيهِ في رَوعهِ ويُوحيهِ إلى قلبهِ، وإذا كانَ هذا النّبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) يَعتمدُ فِي مَنطقهِ على الوحيّ، لا بدَّ وأن يكونَ مَحفوظاً ومَصوناً عنِ الزّللِ أو الخَطأِ أو السّهوِ فِي كلِّ مَا يأخذُ عنِ اللهِ، وكلِّ ما يبلّغُ بهِ، وكلِّ ما يقولهُ ويفعلهُ.

 وفي قولهِ تعالى: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) [النّجمُ:١١]، وقولهِ تعالى: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) [النجم:١٧]. إشارةٌ واضحةٌ لا غُموضَ ولا تعقيدَ في ألفاظِهَا ومَعانيهَا، إلى أنَّ النّبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) لا ينطقُ عَن ميولٍ وأهواءٍ نفسانيّةٍ فِي كلِّ أحوالهِ، وأنَّ ما ينطقُ بهِ هوَ وحيٌ أُلقِيَ فِي رَوعهِ وأُوحيَ في قلبهِ.

فمُقتضى إطلاقِ الآيةِ الكريمةِ أنَّ جميعَ مَا يَصدرُ عنِ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) هوَ في الأعمِّ مِن الوحيّ التّشريعيِّ والتّسديديّ مِن عندِ اللهِ سُبحانِهِ، دلَّ على ذلكَ قولهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} [الشورى 42:52]، فإنَّ المُرادَ بـقولهِ تعالى: (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً) أي تسديدُهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) بذلكَ الرّوحِ لا صرفَ الوحيّ التّشريعي، بقرينةِ ذكرِ كلٍّ منَ الكتابِ والإيمانِ، فإنَّ الإيمانَ فِعلٌ تَسديديٌّ نظيرُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}، مُضافاً إلى أنّهُ جعلَ متعلّقَ الوحيّ في قولهِ تعالى: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} هوَ نفسُ الرّوحِ، ممَّا يُدلّلُ على إرسالهِ لِيلتحمَ بِروحِ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ).

ومِن أوضحِ الشّواهدِ على عِصمةِ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) قولاً وفِعلاً، قولهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) لمَّا أشكلَ عليهِ الصّحابةُ بقولهم لهُ: إنّكَ تُمازِحنا يا رسولَ اللهِ، فقالَ لهم: «إنِّي لا أقولُ إلّا حقّاً»، قالَ الهيثميُّ فِي مجمعِ الزّوائدِ [ج9 ص 17]: رواهُ الطّبرانيُّ فِي الأوسطِ وإسنادهُ حسنٌ. وقالَ المباركفوريّ شارحاً: «لا أقولُ إلّا حقّاً»، أي عَدلاً وصِدقاً لِعصمتي منَ الزّللِ فِي القولِ والفعلِ ولا أحدَ منكُم قادرٌ على هذا الحَصرِ لعدمِ العصمةِ فيكُم. تحفةُ الأحوذي في شرحِ التّرمذي [ج6 ص 108]، وصحّحَ الحديثَ الشّيخُ الألبانيُّ [المصدر نفسه].

ثانياً: عصمةُ أئمّةِ أهلِ البيتِ (عليهمُ السّلام) منَ القرآنِ الكريمِ.

الإمامُ يجبُ أن يكونَ (مثلَ النّبيِّ) معصوماً مِن كلِّ خطأٍ ومعصيةٍ، وتدلُّ «آيةُ التّطهيرِ» على عصمةِ أئمَّةِ أهلِ البيتِ وهم عليٌّ وبنوهُ الأحدَ عشرَ (عليهمُ السّلام).

وآيةُ التّطهيرِ هيَ قولهُ تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، [سورةُ الأحزابِ 33:33]. فمِنَ الثّابتِ المسلَّمِ بهِ بينَ الفريقينِ نزولُهَا في الرّسولِ الأكرمِ وعليٍّ وفاطمةَ والحسنِ والحُسينِ (صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهم) خاصَّةً، وخروجُ بقيّةِ بني هاشمٍ وأقرباءِ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) وزوجاتهِ مِن مُرادِ الآيةِ.

قالَ فخرُ الدّينِ الرّازي فِي مفاتيحِ الغيبِ [ج13 ص432]: «وأنا أقولُ: آلُ محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم همُ الذين يؤولُ أمرُهم إليهِ، فكلُّ مَن كانَ أمرُهم إليهِ أشدَّ وأكملَ كانوا همُ الآلَ، ولا شكَّ أنَّ فاطمةَ وعليّاً والحسنَ والحُسينَ كانَ التّعلُّقُ بينَهم وبينَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم أشدَّ التّعلُّقاتِ، وهذا كالمَعلومِ بالنّقلِ المُتواترِ، فوجبَ أنْ يكونوا همُ الآلَ». اه

هذا، وقد نصَّ على نُزولهَا فيهم (صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهم) ستينَ عالِماً مِن علماءِ أهلِ السّنّةِ في مصادرهم [انظر: موسوعةُ الإمامِ الحسنِ (عليهِ السّلام) فِي القرآنِ الكريمِ ج2 ص 166-  176، الإمامُ الحسنُ (عليهِ السّلامُ) في آيةِ التّطهيرِ].

فقولهُ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ أي إنَّمَا يريدُ اللهُ بالإرادةِ التّكوينيّةِ الحتميّةِ أنْ يُذهبَ – والإذهابُ هنا دفعيٌّ لا رفعيٌّ - عنكم الذّنوبَ أهلَ البيتِ، ويطهّركم منهَا تطهيراً، ومعنى الرّجسِ فيمَا نحنُ فيهِ فَواضحُ الدّلالةِ، وحسبيَ أنْ أسوقَ بعضَ أقوالِ علماءِ أهلِ السّنّةِ دونَ شرحٍ أو تعليقٍ، فهيَ كافيةٌ في إيضاحِ المرادِ، وإليكَ هذهِ النّماذجَ مِن أقوالهم: 

قالَ الإيجيّ في جامعِ البيانِ [ج3 ص351]: "(إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ): خبائثُ القلبِ، أو ما ليسَ للهِ فيهِ رضاً ". اه

وقالَ ابنُ حجرٍ في الصّواعقِ المُحرقةِ [ج 2 ص 426]: "الرّجسُ الَّذِي هُوَ الْإِثْمُ أَو الشَّكُّ فِيمَا يجبُ الْإِيمَانُ بِهِ عَنهُ وتطهيرُهم مِن سَائِرِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ المذمومةِ". اه

وقالَ الرّاغبُ الاصفهانيُّ في تفسيرهِ [ص 127]: "قالَ تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، ومعلومٌ أنّهُ تعالى لم يُرِدْ تطهيراً عَن نجاسةٍ في ثَوبٍ وبَدَنٍ، وإنّمَا أرادَ تطهيرَ النّفسِ الذي يُستحَقُّ بهِ المدحَ والخلودَ والبقاءَ الدّائم". اه

وقالَ الثّعالبيُّ في تفسيرهِ [ ج4ص346]، ومثلهُ إبنُ عطيّةَ في تفسيرهِ [ج4 ص384]: "الرّجسُ إسمٌ يقعُ على الإثمِ وعلى العذابِ وعلى النّجاساتِ والنّقائصِ، فأذهبَ اللهُ ذلكَ عَن أهلِ البيتِ". اه

وجاءَ في تفسيرِ الجَلالَينِ [ص557]: أنّ معنى الرّجسِ الإثمُ. اه

وفي تفسيرِ البَيضاويّ [ج4 ص371]: معنى الرّجسِ المعاصِي. اه

إذن، فالمرادُ مِن لفظِ الرّجسِ فِي الآيةِ الشّريفةِ هوَ الأمورُ المعنويّةُ دونَ المادّيـّةِ الظّاهريّةِ، أو الأعمُّ منهُما؛ لأنّهُ لا مَعنى لِحصرِ الإرادةِ الإلهيّةِ بإذهابِ الرّجسِ عنِ المُخاطَبِينَ على أنّهُ القذارةُ الظّاهريّةُ المحسوسةُ، فهوَ مِن تَحصيلِ الحاصلِ؛ إذِ المُخاطَبونَ وغيرُهم مأمورونَ بإزالةِ القذارةِ الظّاهريّةِ، فثبتَ أنَّ المرادَ مِن مُفردةِ الرّجسِ فِي الآيةِ الشّريفةِ مَا هوَ أعمُّ منَ القذارةِ المادّيـّةِ والمعنويّةِ.    

هذا، وتأكيدُ دلالةِ الفعلِ (يُطَهِّرَكُمْ) بالمفعولِ المطلقِ (تَطْهِيرًا) فيهِ دلالةٌ على أنّهُم (عليهمُ السّلام)، قد نالوا أعلى مراتبِ التّطهيرِ وأكملِهَا، قالَ إبنُ حجرٍ في الصّواعقِ (ج2 ص427): "حكمةُ ختْمِ الآيةِ (تطهيراً) المبالَغةُ في وصولِهم لأعلاهُ وفي رفعِ التّجوّزِ عنهُ ثمَّ تنويهُ تنوينِ التّعظيمِ والتّكثيرِ والإعجازِ المفيدِ إلى أنّهُ ليسَ مِن جنسِ ما يُتعارفُ ويُؤلفُ ثمَّ أكّدَ ذلكَ كلّهُ بتكريرِ طلبِ ما في الآيةِ لهم بقولهِ: اللهمَّ هؤلاءِ أهلُ بيتي إلى آخرِ ما مرَّ وبإدخالهِ نفسِهِ معهم في العدِّ لتعودَ عليهم بركةُ إندراجهم فِي سلكهِ، بَل في روايةٍ أنّهُ إندرجَ معهم جبريلُ وميكائيلُ إشارةً إلى عليِّ قدرِهم". اه

فقولهُ تعالى: (تطهيراً)، إنّمَا هوَ للإشارةِ إلى كونِ تطهيرهِ إيّاهم نوعاً مميّزاً ليسَ ممّا يَعهدُ الخلقُ مثلهُ، ولا ممّا يحيطونَ بهِ دَركاً وهذا هوَ مَقامُ العِصمةِ.

ودمتُم سالِمينَ.