لِماذا لم تُجمِع المذاهبُ الأربعةُ على كلمةِ سوآءٍ بينهم حتّى اختلفوا فيما بينهم وانقسموا على أقسامٍ أربعةٍ وتشعّبوا على شُعَبٍ؟
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته : لم تكن هذهِ المذاهبُ وليدةَ الصّدفة، بَل إنَّ العاملَ السّياسيَّ لعبَ دوراً كبيراً في تأسيسِها وبلورتها، وبعضُ أئمّتها كانوا منَ المُقرّبينَ للحكّامِ الجائرين.
يقولُ أحمد أمين:
"كانَ للحكوماتِ دخلٌ كبيرٌ في نصرةِ مذهبِ أهل السّنّةِ، والحكوماتُ عادةً إذا كانتْ قويّةً وأيّدتْ مذهباً من المذاهبِ تبعهُ النّاسُ بالتّقليدِ، وظلّ سنداً إلى أن تزولَ الدّولة "
فهذا الإمامُ مالك المعروفُ بإمامِ دارِ الهجرة قد حثَّ المنصورَ الدّوانيقي على إرغامِ أهل العراق ـ وهم شيعةٌ كُثر ـ على اعتناقِ مذهبهِ مُكرهين.
يقولُ مالكٌ : فقلتُ له (أي المنصور) : أصلحَ اللهُ الأمير، إنّ أهلَ العراقِ لا يرضونَ عِلمنا، ولا يرونَ في عملهم رأيَنَا.
فقالَ أبو جعفرٍ: يُحمَلون عليهِ، ونضربُ عليهِ هاماتِهم بالسّيفِ، ونقطعُ طيَّ ظهورهم بالسّياطِ، فتعجَّل بذلكَ وضَعها فسيأتيكَ مُحمّد المهدي ابني العامَ القابلَ إن شاءَ اللهُ إلى المدينةِ ليسمعها منكَ، فيجدُكَ وقَد فرغتَ مِن ذلكَ إن شاءَ اللهُ.
قالَ مالكٌ: ثمّ أمرَ لي بألفِ دينارٍ عيناً ذهباً، وكسوةً عظيمةً، وأمرَ لابني بألفِ دينار، ثمّ استأذنتهُ فأذنَ لي، فقمتُ فودّعني ودعا لي، ثمّ مشيتُ مُنطلقاً، فلحقني الخصيّ بالكسوةِ فوضعها على منكبي، وكذلكَ يفعلونَ بمَن كسوهُ وإن عَظُم قدره، فيخرجُ بالكسوةِ على النّاس فيحملها ثمّ يُسلّمها إلى غُلامه .
ثُمَّ إن هذا التّوجّهَ الذي حذاهُ مالكٌ قَد قطعَ الطّريقَ على فقهاءَ كبارٍ اِتّفقت كلمةُ أئمّةِ أهلِ السّنّةِ على أنّهم كانوا أفقهَ مِن مالكٍ.
وقَد قامَ المنصورُ يوماً منَ الأيّامِ بطردِ العالمَينِ ابنِ أبي ذُؤيبٍ وابنِ سمعانٍ بسببِ حُلمٍ كانَ قد رآهُ، فأمّا الأوّلُ فقَد وصفَ المنصورَ بأنّهُ ظالمٌ مُستبدٌّ وأمّا الآخرُ فمدحهُ خشيةَ القتلِ، وكِلا الرّجلينِ أفقهُ مِن مالكٍ واختلى المنصورُ بمالكٍ وحده وأمّنَه وقالَ له:
يا أبا عبدِ اللهِ انصرِف إلى مِصركَ راشداً مهديّاً، وإن أحببْتَ ما عندنا، فنحنُ لا نُؤثرُ عليكَ أحداً، ولا نعدلُ بكَ مَخلوقاً .
ولمّا كانَ أبو جعفرٍ المنصورُ داهيةً عُظمى تراهُ عملَ على رفعِ مكانةِ مالكٍ وفرضِ مذهبهِ، وقضى على مذهبِ ابنِ أبي ذُؤيبٍ بالرّغمِ مِن أنّ ابنَ أبي ذؤيبٍ كانَ أعلمَ مِن مالكٍ وأفضلَ منهُ، كما اعترفَ بذلكَ الإمامُ أحمدُ ابن حنبل .
كما أنّ ليثاً بنَ سعدٍ كانَ أفقهَ مِن مالكٍ، كما اعترفَ بذلكَ الإمامُ الشّافعي .
والحقيقةُ في ذلكَ العصرِ أنَّ الإمامَ جعفراً الصّادقَ كانَ أفضلَ وأعلمَ وأفقهَ منهُم جميعاً وقَد اعترفوا كلّهم بذلكَ، وهل يتجرّأُ أحدٌ مِنَ الأُمّةِ أن يُباريهُ في علمٍ أو في عملٍ، في فضلٍ أو في شرفٍ، وجدّهُ عليٌّ بنُ أبي طالب هوَ أفضلُ وأعلمُ وأفقهُ مِنَ الخلقِ كلّهم بعدَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم)؟
ولكنَّ السّياسةَ هيَ التي ترفَعُ قوماً وتضعُ آخرينَ، والمالُ هو الذي يُقدّمُ قوماً ويُؤخّرُ آخرينَ.
ولا يختلفُ الحالُ كثيراً بالنّسبةِ لإمامِ الحنابلةِ أحمد بنِ حنبلٍ، حيثُ أنّهُ كانَ على خلافٍ معَ المأمونِ العبّاسيّ القائلِ بخلقِ القُرآن، وهوَ خلافُ عقيدةِ ابنِ حنبلٍ وتعرّضَ بسببها إلى التّضييقِ والسّجنِ، (فلمّا تولّى المتوكّلُ الحُكمَ انقلبَ الأمرُ وصارتِ الظّروفُ مُناسبةً لصالحِ المُحدّثينَ، وفي هذا الجوِّ أعلنَ إمامُ الحنابلةِ عقيدتهُ في القرآنِ بالقولِ بعدمِ كونهِ مخلوقاً.
وقالَ محقّقُ كتابِ «الأُصولِ الخمسةِ» للقاضي عبدِ الجبّار: الحديثُ في القرآنِ وكلامُ اللهِ مِن أهمّ المشاكلِ التي عرضت لمُفكّري الإسلامِ....
وتراجعَ القائلونَ بخلقِ القُرآنِ تحتَ ضغطِ النّاسِ، وخرجَ أحمدُ بن حنبلٍ منَ المِحنةِ ظافراً يُضربُ بهِ المثلُ في الثّباتِ على العقيدةِ ).
وأما المآسي التي حدثت لأتباعِ هذهِ المذاهبِ فحدّث عنها ولا حرجَ، حيثُ كانت تقعُ المعاركُ الطّاحنةُ بينَ أتباعِها، فيذكرُ ابنُ الأثيرِ في حوادثِ 446 هـ :
وفيها وقعَت الفتنةُ بينَ الأشاعرةِ والحنابلةِ فقويَ جانبُ الحنابلةِ قوّةً عظيمةً بحيثُ إنّهُ كانَ ليسَ لأحدٍ منَ الأشاعرةِ أن يشهدَ الجُمعةَ ولا الجماعاتِ .
وفي سنةِ 469 هـ وفي شوّالٍ منها وقعتِ الفتنةُ بينَ الحنابلةِ والأشعريّةِ وذلكَ أنَّ ابنَ القشيريّ قدمَ بغدادَ فجلسَ يتكلّمُ في النّظاميّةِ وأخذَ يذمُّ الحنابلةَ وينسبهم إلى التّجسيمِ وساعدهُ أبو سعدٍ الصّوفي ومالَ معهُ الشّيخُ أبو إسحاق الشّيرازي وكتبَ إلى نظامِ المُلكِ يشكو إليهِ الحنابلةَ ويسألهُ المعونةَ عليهم وذهبَ جماعةٌ إلى الشّريفِ أبي جعفرٍ بن أبي موسى شيخِ الحنابلةِ وهوَ في مسجدهِ فدافعَ عنهُ آخرونَ واقتتلَ النّاسُ بسببِ ذلكَ وقُتِلَ رجلٌ خيّاطٌ من سوقِ التّبنِ وجُرحَ آخرونَ وثارتِ الفتنةُ .
تكفيرُ الطّوائفِ السّنّيّةِ بعضُهم بعضاً
إنّ دائرةَ التّكفيرِ عندَ العديدِ منَ الطّوائفِ السّنيّةِ لَم تقتصِر على تكفيرهم الشّيعةَ، بَل شملت تكفيرَ بعضهم بعضاً، فكلُّ طائفةٍ تدّعي أنّها على الحقِ وغيرُها لا يملكُ منهُ شيئاً، وأنَّ أتباعها هُم (أهلُ السّنّةِ والجماعة) وغيرُهُم خارجونَ عَن ذلكَ العنوانِ، والأمثلةُ في هذا المجالِ كثيرةٌ نُشير إلى بعضِهَا على سبيلِ الإشارةِ والاختصارِ:
1ـ تكفيرُ غيرِ الأشاعرةِ منَ المُسلمين
قالَ أبو إسحاق الشّيرازي إمامُ الشّافعيّةِ في عصره: «فمَن اعتقدَ غيرَ ما أشرنا إليهِ مِن اعتقادِ أهلِ الحقِّ المُنتسبينَ إلى الإمامِ أبي الحسنِ الأشعري (رضي اللهُ عنه) فهوَ كافرٌ ».
2ـ تكفيرُ غيرِ الحنابلةِ منَ المُسلمين
أوردَ الذّهبيُّ في التّذكرةِ عَن أبي حاتمٍ بنِ خاموش الحافظِ بالرّيّ والذي كانَ مُقدّمَ أهلِ السّنّةِ فيها ، قولهُ: «فكلُّ مَن لَم يكُن حنبليّاً فليسَ بمُسلمٍ ».
فهُم بذلكَ يُكفّرونَ المُسلمينَ قاطبةً باستثناءِ طائفتهم، وليسَ بخافٍ على أحدٍ أنَّ ابنَ تيميّةَ يُكفّرُ كلَّ المُسلمين بحُجّةِ أنّهم يتوسّلونَ بالنّبيّ، أو يستغيثونَ بهِ أو يزورونَ قبرهُ.
3ـ تكفيرُ الحنابلةِ
قالَ ابنُ عساكر: «إنّ جماعةً منَ الحشويّةِ والأوباشِ الرّعاعِ المُتوسّمينَ بالحنبليّةِ أظهروا ببغدادَ منَ البدعِ الفظيعةِ والمخازي الشّنيعةِ مَا لَم يتسامح بهِ مُلحدٌ فضلاً عَن موحّدٍ ».
وقالَ إبن الأثيرِ عندَ ذكرهِ الفتنةَ التي وقعت بين الشّافعيّةِ والحنابلة: «وردَ إلى بغدادَ هذهِ السّنةَ الشّريفُ أبو القاسم البكري المغربي الواعظ، وكان أشعريّ المذهب، وكان قد قصدَ نظامَ الملكِ فأحبّهُ ومالَ إليه وسيّرهُ إلى بغدادَ وأجرى عليهِ الجرايةَ الوافرة، فوعظ بالمدرسةِ النّظاميّة، وكان يذكرُ الحنابلةَ ويعيبُهم ويقول: (وما كفر سُليمان ولكنَّ الشّياطين كفروا) واللهِ ما كفر أحمد ولكنّ أصحابهُ كفروا .
4 ـ تكفيرُ أبي حنيفةَ وأتباعه
عَن سفيان الثّوري، قالَ: «إستُتيبَ أبو حنيفةَ منَ الكُفرِ مرّتين »، وفي الإنتقاءِ لابن عبدِ البرّ: «وقالَ نعيمٌ عن الفزّاري: كنتُ عندَ سفيانَ بن عُيينة، فجاءَ نعيُ أبي حنيفة، فقالَ: لعنهُ اللهُ، كانَ يهدمُ الإسلامَ عُروةً عروة، وما ولدَ في الإسلامِ مولودٌ أشرُّ منه ».
وروى الخطيبُ البغداديّ بإسناده عنِ الحنيني، قالَ: «سمعتُ مالكاً يقولُ: ما ولدَ في الإسلامِ مولودٌ أشأمُ مِن أبي حنيفة ».
روى الخطيبُ البغداديّ بسنده عن أبي بكرٍ السّجستاني يقولُ لأصحابه: «ما تقولون في مسألة اتّفقَ عليها مالكٌ وأصحابه، والشّافعيّ وأصحابه، والأوزاعيّ وأصحابه، والحسنُ بن صالح وأصحابه، وسفيانُ الثّوريّ وأصحابه، وأحمدُ بن حنبل وأصحابه؟ فقالوا له: يا أبا بكر، لا تكونُ مسألةٌ أصحّ من هذه، فقال: هؤلاء كلّهم اتّفقوا على تضليلِ أبي حنيفة ».
وفي كتابِ السّنّة عن سفيانَ أنّه ذكرَ أبا حنيفة، فقالَ: «اِستُتيبَ أصحابهُ منَ الكفرِ غير مرّةٍ ».
وعن شريكٍ أنّه كان يقول: «لأن يكونَ في كلّ حيٍّ من الأحياءِ خمّارٌ خيرٌ من أن يكون فيه رجلٌ من أصحابِ أبي حنيفة ».
ومسألةُ تكفير أبي حنيفةَ وأتباعهِ وتضليلهم وتبديعِهم ممَّا امتلأتْ بها كتبُ الرّجالِ والدّرايةِ والمجامعِ الحديثيّة.
وفي هذا العصرِ لم ينتهِ النّزاعُ بل أخذ شكلاً آخر، حيثُ برزَ المذهبُ الوهابيُّ الذي هو مِن بقايا فكرِ حشويّة الحنابلةِ، واليومَ الصّراعُ على أشدّهِ بينهم وبين بقيّةِ المذاهبِ السّنّيّةِ، وكلُّ واحدٍ منهم يرمي الآخرَ بما شاءَ منَ التّهمِ والشّتائم، فكيفَ يُرجى لهم التّوحّدُ والسّياسةُ تلعبُ لعبتها في أوساطِهِم لقرونٍ مُتمادية ؟!!
[1] ظهرُ الإسلام 4: 96، الفصلُ الثّالث.
[1] تاريخُ الخلفاءِ لابنِ قُتيبة 2: 201.
[1] تاريخُ الخلفاءِ لابنِ قُتيبة 2: 196.
[1] تذكرةِ الحُفّاظ 1: 191.
[1] راجع تهذيبَ التّهذيبِ لابن حجر 8: 415، البدايةُ والنّهاية 10: 178.
[1] المللُ والنّحلُ للسّبحانيّ 2 / 255 .
[1] البدايةُ والنّهاية 12 / 66 .
[1] نفسُ المصدر.
[1] أبو إسحاق إبراهيم الشّيرازي، شرحُ اللمع: ج1 ص111، النّاشر: دارُ الغربِ الإسلاميّ ـ بيروت.
[1] هوَ أحمد بن الحسين بن محمّد، قالَ عنهُ الذّهبي: «المحدّثُ، الإمامُ، أبو حاتم بن خاموش الرّازي البزاز، مِن عُلماء السّنّةِ». تاريخُ الإسلام: ج29 ص303، النّاشر: دارُ الكتابِ العربيّ ـ بيروت.
[1] الذّهبي، تذكرةُ الحُفّاظ: ج3 ص1187، النّاشر: دارُ إحياءِ التّراثِ العربي ـ بيروت. واُنظر: الذّهبي، سيرُ أعلامِ النّبلاءِ: ج18 ص508، النّاشر: مؤسسةُ الرّسالة ـ بيروت. وتاريخ الإسلام للذّهبي: ج33 ص58، النّاشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت. واُنظر: الذّيل على طبقات الحنابلة للإمامِ عبد الرّحمن بن أحمد بن رجب: ج1 ص120، النّاشر: مكتبةُ العبيكان ـ الرّياض.
[1] ابنُ عساكر، تبيين كذب المُفتري: ص310، النّاشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت.
[1] إبنُ الأثير، الكاملُ في التاريخ: ج10 ص124، النّاشر: دار صادر ـ دار بيروت.
[1] عبدُ الله بن أحمد بن حنبل، كتاب السّنّة: ج1 ص193، دار البصيرة ـ مصر.
[1] إبن عبد البرّ، الإنتقاء في فضائل الثّلاثة الأئمّة الفقهاء: ص149ـ150، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
[1] الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج13 ص401، النّاشر: دار الكتب العلمية ـ بيروت.
[1] الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج13 ص382ـ 383، النّاشر: دار الكتب العلمية ـ بيروت.
[1] الشّيباني، كتاب السّنّة: ج1ص194، النّاشر: دار ابن القيم ـ الدّمّام.
[1] الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: ج13 ص397
اترك تعليق