هل الانسان مخيرًا ام مسيرًا بكل افعاله ،الشعورية و اللاشعورية؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنحصرَ الجدلُ التّاريخيّ بينَ القولِ بالجبرِ أو القولِ بالتّفويضِ، ولَم يخطُر على بالِ أيّ إتّجاهٍ فكريٍّ إمكانيّةُ وجودِ منزلةٍ ثالثةٍ تقعُ بينَ الجبرِ والتّفويضِ، ومِن هُنا كانَ هذا سرَّ تميُّزِ مدرسةِ أهلِ البيتِ (عليهمُ السّلام) التي تمسّكَت بالمنزلةِ الثّالثةِ حيثُ لا جبرَ ولا تفويض بَل أمرٌ بينَ أمرين، وقَد إعتقدُوا بأنَّ تلكَ المنزلةَ ليسَت حالةً وهميّةً وإنّما لها مِنَ السّعةِ كما بينَ السّماءِ والأرضِ.
فالإنسانُ يرى بوجدانِه وفي واقعِ فطرتِه أنّهُ غيرُ مجبورٍ على فعلِه، بَل هوَ قادرٌ على الفعلِ والتّركِ، وعلى ذلكَ قوامُ الحياةِ ومعيشةُ العبادِ، فلَو خُلّيَ كلُّ إنسانٍ وفِطرتِه، يرى أنّهُ مالكٌ للعلمِ، والقُدرةِ، والإستطاعةِ، والمشيئةِ، وهذا مِن أوضحِ الأمورِ، بَل مِن بديهيّاتِ القولِ.
وكذلكَ يكتشفُ كلُّ واحدٍ مِنّا في عُمقِ كيانِه، أنّهُ ليسَ مالِكاً للقُدرةِ والإستطاعةِ والعلمِ، مُلكاً حقيقيّاً، أي مِن طبيعةِ ذاتِه ولوازمِ وجودِه؛ لأنّها تُسلَبُ منهُ أحياناً دونَ إختيارٍ منهُ، وكذا في حالةِ كونِنا مالكينَ لها، فإنّها ليسَت طوعَ أيدينا، فهيَ موجودةٌ في حالةِ اليقظةِ دونَ النّومِ، والصّحّةِ دونَ المرضِ، وفي حالِ الشّبابِ دونَ الشّيخوخةِ، كما أنَّ الإنسانَ ليسَ عالِماً بكُلِّ شيءٍ، وليسَ قادِراً على كُلِّ ما يريدُ، وليسَ مُريداً لكُلِّ ما يقدرُ عليه، وقَد يكونُ عالِماً قادِراً ولكنّهُ غيرُ مُريدٍ، أو مُريدٌ وغيرُ عالمٍ قادرٌ، مِمَّا يعني أنَّ الإنسانَ ليسَ بذاتِه عالِماً قادِراً مُريداً، فإن كانَ مِن ذاتِه وبذاتِه كُلُّ ذلكَ، فلا يُعقَلُ أنّهُ يجهلُ أو يعجزُ عَن شيءٍ، وهذا خلافُ واقعِ الإنسانِ الذي ينتابُه الجهلُ والعجزُ، فكيفَ والحالُ هذا يكونُ عالِماً أو قادِراً بمُقتضى ذاتِه؟ فالإنسانُ معَ كونِه واجِداً لهذهِ الكمالاتِ ومالِكا ًلها بتمليكِ اللهِ إلّا أنَّ ذاتَهُ العجزُ والفقرُ.
فيتّضحُ مِن ذلكَ، أنَّ اللهَ تعالى هوَ الذي تفضّلَ على العبادِ بهذهِ الكمالاتِ، قالَ سُبحانَه: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكُم لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾، وقال: ﴿وَمِنْكُم مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَي لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً﴾، وقال: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً﴾.
فالإعطّاءُ بعدَ الفقدانِ والحرمانُ بعدَ العطاءِ، لأعظمُ دليلٍ على أنَّ الإنسانَ ليسَ مالِكاً بذاتِه لهذهِ الكمالاتِ، وإنّما مالكٌ بتمليكِ اللهِ، واللهُ لِما ملَّكهُ أملكُ، مِمّا يدلُّ على أنَّ الإنسانَ فقيرٌ إلى اللهِ، مُحتاجٌ إليهِ دوماً، ولولا فضلُ اللهِ عليهِ لكانَ نسياً منسيّاً، قالَ تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.
ولو تنبّهَ الإنسانُ لحقيقةِ أمرِه، لوجدَ- أيضاً- أنّهُ لولا عونُ اللهِ وهدايتُه وترغيبُه في الحسناتِ وتحذيرُه منَ السّيّئاتِ، وإرسالُ الرُّسلِ وتمهيدُ الطّريقِ للإنسانِ، لما حصلَ لهُ الإيمانُ والعملُ الصّالحُ، وهكذا لولا خذلانُ اللهِ للعبدِ وتركُه ونفسه حينَما يُعرِضُ عَن هُدى اللهِ، لما عصاهُ أحدٌ معَ القُدرةِ على تركِ المعصيةِ.
هذه الحقائقُ التي يجدُها الإنسانُ بفطرتِه، هيَ الأساسُ للقولِ بالأمرِ بينَ الأمرينِ، فلا يمكنُ أن يكونَ مَجبوراً، لأنَّ اللهَ ملَّكَهُ الإختيارَ وأقدرَهُ على المعصيةِ والطّاعةِ، وهوَ مالكٌ لِما مُلِّكَ، فيكونُ الفعلُ صادِراً عنهُ، كما أنّهُ غيرُ مُفوَّضٍ؛ لأنَّ اللهَ مالكٌ لِما ملَّكهُ من دونِ تفويضٍ مِنه، والإنسانُ في أشدِّ الحاجةِ إليهِ في دوامِ لُطفِه وإنعامِه وتفضُّلِه، لحظةً بلحظةٍ، وثانيةً بثانيةٍ، قالَ تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وفي هذهِ الآيةُ إثباتٌ للمنزلةِ بينَ المَنزلتين، فإيّاكَ نعبدُ نفيٌ للجبرِ، وإيّاكَ نستعينُ نفيٌّ للتّفويضِ.
وقَد وردَتِ الكثيرُ منَ الأخبارِ عَن أهلِ البيتِ (عليهمُ السّلام) في تأكيدِ ذلكَ مِنها:
روى الكُلينيّ عَن صالحٍ النّيليّ، قالَ: سألتُ أبا عبدِ اللهِ: هَل للعبادِ مِنَ الإستطاعةِ شيءٌ؟ قالَ: فقالَ لي: (إذا فعلُوا الفعلَ، كانُوا مُستطيعينَ بالإستطاعةِ التي جعلَها اللهُ فيهم، قالَ: قلتُ: وما هيَ؟ قالَ: الآلةُ، مثل الزّاني، إذا زنى كانَ مُستطيعاً للزّنا حينَ زنى، ولَو أنّهُ تركَ الزّنا ولَم يزنِ، كانَ مُستطيعاً لتركِه إذا تركَ..).
وروى الصّدوقُ بسندِه، عَن أبي الحسنِ الرّضا (عليه السّلام) قالَ: ذُكِرَ عندَه الجبرُ والتّفويضُ، فقالَ: (ألا أعطيكُم في هذا أصلاً لا تختلفونَ فيهِ ولا تُخاصِمونَ عليهِ أحداً إلّا كسرتموه؟ قُلنا: إن رأيتَ ذلكَ، فقالَ: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لَم يُطَعْ بإكراهٍ، ولَم يُعصَ بغلبةٍ، ولَم يُهمِلِ العبادَ في مُلكِه، هوَ المالكُ لِما ملّكَهم، والقادرُ على ما أقدرَهُم عليهِ، فإن إئتمرَ العبادُ بطاعتِه لَم يكُنِ اللهُ عنها صادّاً ولا مِنها مانِعاً، وإنَّ إئتمرُوا بمعصيتِه فشاءَ أن يحولَ بينَهُم وبينَ ذلكَ فعَل، وإن لَم يَحل وفعلُوه فليسَ هوَ الذي أدخلَهُم فيهِ، ثُمَّ قالَ: مَن يضبطُ حدودَ هذا الكلامِ فقَد خصمَ مَن خالفَه).
وعَن صفوانَ بنِ يحيى، عَن أبي الحسنِ عليهِ السّلام قالَ: قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: (ابنَ آدمَ، بمشيئتي كُنتَ أنتَ الذي تشاءُ وتقولُ، وبقوَّتي أدّيتَ إلى فرائضِي، وبنعمتِي قَوِيتَ على معصيتي، ما أصابكَ مِن حسنةٍ فمِنَ اللهِ، وما أصابكَ مِن سيّئةٍ فمِن نفسِك، وذاكَ أنّي أولى بحسناتِكَ منكَ، وأنتَ أولى بسيّئاتِكَ منّي..).
وقالَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلام، وقد سُئلَ عن معنى قولِهم: (لا حولَ ولا قوةَ إلّا بالله): إنّا لا نملكُ مع اللهِ شيئاً، ولا نملكُ إلا ما ملَّكنا، فمتى ملّكَنا ما هو أملكُ به منّا كلّفنا، ومتى أخذهُ منّا وضعَ تكليفهُ عنّا).
رُويَ أنّ الفضلَ بن سهل سألَ الرّضا عليهِ السلامُ بينَ يدي المأمون فقال: يا أبا الحسن الخلقُ مجبورون؟ فقال: اللهُ أعدَلُ من أن يجبرَ خلقهُ ثمّ يعذّبهم، قال: فمُطلَقون؟ قال: اللهُ أحكَمُ من أن يهملَ عبدهُ ويكلَه إلى نفسه).
رَوى الكلينيّ عن أبي جعفر وأبي عبدِ الله عليهِما السّلام، قالا: (إنّ اللهَ أرحمُ بخلقهِ منْ أن يجبرَ خلقهُ على الذّنوب ثمّ يعذّبهم عليها، واللهُ أعزّ من أن يريدَ أمراً فلا يكون، قال: فسُئلا عليهِما السّلام هل بينَ الجبرِ والقدرِ منزلةً ثالثة؟ قالا: نعم أوسع ممّا بينَ السّماء والأرض).
والخلاصةُ إذا كانَ المقصودُ من كونِ الإنسانِ مخيّراً بمعنى أنّهُ مسؤولٌ عن عملهِ فهو مخيّرٌ بالقطعِ واليقين، وإن كانَ المقصودُ بأنّهُ قد خرجَ بهذهِ الإستطاعة عن سلطانِ الله واستقلّ بقدرتهِ وفعلهِ عن الله من دونِ حاجةٍ منه إليه، فهو ليسَ مخيّراً وفي نفسِ الوقتِ ليس مجبوراً على فعلهِ لأنّ اللهَ ملّكَهُ ما يقدرُ به على الفعلِ لا على نحو الإستقلالِ عنهُ تعالى.
اترك تعليق