هل للإسلام تأثير في الحضارة الإنسانية؟

السؤال: كل الحضارات التي سبقت الاسلام بقرون تركت معالم آثارية كبيرة وكثيرة تدل على حضارة حقيقية. أما محمد، ففي حياته لم يَبنِ أي مَعلم حضاري، ومن اتوا بعده لم يتركوا لنا شيئا طيلة 14 قرن، لا في مهد الاسلام (مكة والمدينة)، ولا في كل جزيرة العرب، والعراق، والشام وشمال افريقيا. لا آثار معمارية ولا علم ولا طب (الطب النبوي هو مقتبس من الصين ومن عادات العرب قبل محمد) ولا شيء.. صفر ! ولا نجد الا الاندلس، وهو بلد أوروبي، شعبه أوروبيون.. استعادوه بعد تحررهم من العرب.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

كان من المفترض أن يعرّف لنا السائلُ معنى الحضارة قبل أنْ يَسُوق هذه الكلمات والتي بُنيت على تحامل واضح وإسفاف في المعايير الموضوعية، الأمر الذي يؤكد وبشكل دائم بأنّ الإلحاد في العالم العربي يُعاني من أزمة نفسية وأحقاد شخصية!

والذي يظهر لنا من خلال كتابات الملحدين العرب أنّ هناك عُقدةً ما تُحرّكهم للانتقام من المجتمع في أعزّ ما يملك وهو دينه، ولو لا أننا نخشى من عدم الموضوعية وإطلاق الأحكام الكلية لقلنا إنّ معظم الملحدين في عالمنا يعانون من مظالم إجتماعية دفعتهم لهذا النوع من الانتقام، وما جاء في هذا السؤال أو في مثل هذا العرض يمثل شاهداً على هذا الاستنتاج، فبدل هذه النتائج الجاهزة والاحكام المطلقة والتحامل الظاهر كان بإمكانه تقديم دراسة علميّة حول وجود أو عدم وجود حضارة إسلامية، فتقديمُ أوراقٍ علمية من أهل الإختصاص يخدم بلا شكّ الحِراك الفكريّ والمعرفيّ حتى لو كانت نتائجها على خلاف ما نرغب، أمّا تطاول مَنْ ليس له اختصاص أو خبرة وشحن الاجواء بإطلاقات جوفاء، لا يزيد واقعنا إلا تخلفاً ورجعية.

ومع أنّ هذا الكلام لا يحمل أيّ شواهد موضوعيّة على تلكم الأحكام التي أطلقها إلا أننا نرى أنفسنا ملزَمين بالردّ عليها ولو بشكل مختصر وعابر.

أولاً: الحضارة في الاصطلاح العلميّ تشمل جميعَ المظاهر العلميّة والمعرفيّة ومجملَ الفنون والآداب التي يعبّر الإنسان من خلالها عن ذاته، فهي فعل إنسانيّ يشمل جميع مظاهر الحياة بما فيها الفعل السياسي والاقتصادي والنظام الاجتماعي.

واختصار الحضارة في المعمار خلل كبير، يعبّر عن نظرة قاصرة لمفهوم الحضارة.

ثانياً: بما أنّ الحضارات هي فعل الإنسان بما هو إنسان فلا يمكن أنْ تستغني أيّ حضارة عن بقية الحضارات الأُخرى بوصفها جميعاً منجزاً إنسانياً مشتركاً، فمثلاً ما هو موجود اليوم من فنون ومسرح وآداب هو نتاج خبرات بشرية متراكمة أسهمت فيه مجموعة من الحضارات المختلفة، وكذلك الحال في العلوم والمعارف والمعمار وغير ذلك.

ثالثاً: المشكلة الكبرى التي يعاني منها الإنسان على المستوى الحضاري هي المشكلة الأخلاقية، فالبشر يَعرفون كيف يبنون مدنهم ويزرعون أراضيهم ويؤسسون المصانع والمسارح والأندية الرياضية، إلا أنهم يفشلون دائماً أخلاقيّاً، فالاهتمام بالجانب الإنساني في الإنسان والإرتقاء به قِيَميّاً وأخلاقيّاً يشكّل حاجة ملحّة لجميع الحضارات الإنسانية، ولذا تظل الحضارات دوماً في حاجة إلى الأديان لتُقوِّمُها سلوكيّاً وأخلاقيّاً، فلو نظرنا مثلاً للحضارة المعاصرة والتي نعيش فيها نجد أنّها مع ما أحدثته من تقدّم مُذهل وفي جميع المجالات الماديّة، إلا أنّها لا زالت تعيش في الحضيض أخلاقيّاً وقِيَميّاً، وما نشهده من حروب ومظالم وأمراض إجتماعيّة خير شاهد على هذا النقص الذي تعاني منه هذه الحضارة، ولا يمكن لهذه الحضارة أنْ تستقيم إلا بالرجوع للدّين الذي يضبط سلوكها وفق القِيَم والمبادئ الاخلاقيّة.

ولابدّ أن نشير هنا إلى أنّ هناك اختصاراً مخلاً حدثَ لمعنى الأخلاق، بحيث أصبح لا يتجاوز أنْ يكون وصفاً لبعض السلوكيات، في حين أنّ الأخلاقَ هي نظام للحياة؛ بل لا يمكن أن تستقيم الحياة بالنسبة للإنسان العاقل مالم تقم هذه الحياة على نظام أخلاقيّ، والأخلاق ليست شيئاً آخر غير القِيَم، فقيمة الإنسان الحقيقية في ما يحمله من قِيَم، وفلسفة وجود الإنسان تقوم على أنّه كائن أخلاقي، وتكامل الإنسان والمجتمعات والحضارات لا يكون إلا على أساس القِيَم.

رابعاً: إنّ مهمّة الأنبياء لم تكن بناء المدن وتشييد الحصون كما هو حال ملوك الحضارات القديمة مثل الحضارة اليونانية والفرعونية وغيرها من حضارات، وإنما كانت مهمتهم الإنسان والعمل على إصلاحه فكرياً واخلاقياً وسلوكياً، وآثار ذلك مازالت حاضرة إلى اليوم، وبالتالي من الخطأ البحث عن الأثر المادي لمساهمة الأنبياء حضارياً، وإنما يجب البحث عن ذلك في آثارهم الثقافية والأخلاقية والتربوية.

خامساً: كلّ الحضارات البشرية احتاجت بشكل أو بآخر إلى الدّين، الأمر الذي يؤكّد على الجانب الحضاري الذي يقوم به الدين ويعجز عن القيام به غيره؛ بل حتى الحضارات العظمى مثل الحضارة اليونانية والرومانية والتي يبدو أنها تشكل مثارَ إعجابٍ للسائل احتضنت المسيحية وجعلت منها عنواناً لحضارتها.

سادساً: إنّ الدارسَ لتاريخ الحضارة الإسلامية، والإسهام الكبير الذي أضافه المسلمون للحضارة الإنسانية، يقفُ على منجزات عظيمة لا يتجاهلها إلا الحاقد، وقد كشف تاريخ هذه الحضارة عن الدور الذي قام به العرب والمسلمون في تقدّم العلوم وتطورها، فالحضارة الغربية التي يعتبرها بعضهم إنجازاً للعلم والعقل، هي في الواقع واحدة من ثمرات تأثر العقل الإنساني بما في القرآن الكريم من قِيَم ومبادئ، فلولا هذا الكتاب لَما كانت الحضارة الغربيّة قائمة اليوم، وهذا ما يعترف به محقّقوهم وكتّابهم الذين أرّخوا للعلوم وللحضارات، فهذا ارنست بانرث المستشرق الالماني يقول: "لا شك أنّ الحضارة الإسلامية ارتفعت في القرون الوسطى إلى علوم لم ينتهِ إليها قوم آخرون. ولا يخفى أنّ هذا الاعتلاء كان ثمرة الاجتهاد في كل نواحي الثقافة وتطبيق الطرق العلمية" (تأثير الفلسفة الاسلامية في تطور الفكر الاوروبي ، ص 7- 9).

وتقول الباحثة الألمانية (زيفريد هونكه): "إنّ العرب طوّروا بتجاربهم وأبحاثهم العلمية وما أخذوه من مادة خام عن الإغريق وشكّلوه تشكيلاً جديداً، فهم في الواقع الذين ابتدعوا طريقة البحث العلمي الحق القائم علي التجربة... فعندهم فقط بدأ البحث الدائب الذي يمكن الاعتماد عليه يتدرج من الجزئيات الي الكليات... وعلي هذا الأساس ساروا في العلوم الطبيعية شوطاً كبيراً أثّر فيما بعد بطريق غير مباشر علي مفكري الغرب وعلمائه أمثال روجر باكون وماكنوس وقيتليو ودافنشي. إنّ العرب [المسلمين] هم مؤسسو الطرق التجريبية في الكيمياء والطبيعة والحساب والجبر والمثلثات وعلم الإجتماع وبالإضافة الى عدد لا يُحصى من الإكتشافات والإختراعات في مختلف فروع العلوم والتي سُرِق أكثرها ونُسِب لآخرين. قدّم العرب [المسلمون] أثمن هدية وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهّدت أمام الغرب طريقة لمعرفة اسرار الطبيعة وتسلطه عليها اليوم" (قرارات في التراث المعرفي الاسلامي، د. عماد الدين خليل، عن شمس الله تسطع علي الغرب، ترجمة فاروق بيضون وكمال الدسوقي، ص 400- 402)

وكثيرة هي شهادات علماء الغرب عن مدى تأثير الحضارة الإسلامية على بناء الحضارة الغربية الحديثة، حتى أنّ المؤرخ الغربي غوستاف لوبون يقول: لو لم يظهر المسلمون على مسرح التاريخ لتأخّرت نهضة أوروبا عدّة قرون.

ونحن بدورنا نقول إذا لم يظهر المسلمون على مسرح التاريخ لما كانت هناك نهضة أوربية من الأساس، ولظلت البشرية تعيش في عصور الجهل والظلام.