هل الدين ظاهرة اجتماعية؟

سؤال: الدين ظاهرة جغرافية والدليل على ذلك أن 99% من البشر يبقون على نفس دين آباءهم و يموتون عليه دون تغييره، فمن ولد ووجد نفسه على الدين الصحيح لا يكون له فضل لأنه لم يختاره بجهد شخصي، وفي المقابل لا يكون ملاماً من ولد ووجد نفسه على الدين الباطل، وليس في ذلك عدل لعدم تكافؤا الفرص.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

يبدو أنّ السائلَ يقصدُ أن يقول: الدينُ ظاهرة اجتماعية وليس جغرافية، فالجغرافيّا لا علاقةَ لها بما يرتبط بمضمون سؤاله، وإنّما المجتمع هو الذي يؤثر على خيارات افراده فيما يرتبط بقناعاتهم الدينية، ويبدو أنّ المدرسة الوضعية في علم الاجتماع والتي تأسّست على يد «أوجست كونت» ومن بعده «إميل دور كايم» هي التي أصّلت للقول بأنّ الدين ظاهرة اجتماعية، ومن هنا فمن المناسب قبل الاجابة بشكل مباشر على السؤال أنْ نقدّم بشكل مختصر بعض مزاعم هذه المدرسة الوضعية في علم الاجتماع.

لا تعترف الوضعية الاجتماعية من الأساس بوجود حقيقة غيبية متعالية، ولذا من باب أولى أن لا تعترفَ بوجود دين يمثل انتماءً اصيلاً لتلك الحقيقة الغيبية، فالدين في نظر هذه المدرسة ليس إلا تمثلات اجتماعية لوقائع جماعية، أي أنّ الدين لا يعدو أن يكونَ شيئاً إجتماعياً ولكن بشكل محايث أو مفارق، ولذا نجد أنّ الدّين في نظر دور كايم يتحقق متى ما كان هناك تمييزٌ بين المقدّس والدنيوي، وهذا التمييز لا يحدث عنده بسبب وجود مقدس في الحقيقة والواقع وإنّما يحدث أيضاً بفعل المجتمع، ففي كتابه (الأشكال الآلية للحياة الدينية) قدّم بحثاً نظرياً عن المقدّس ليصل إلى أنّه ليس أمراً مفارقاً للسياق الاجتماعي بل هو أمرٌ عاديّ بطبعه إلا أنّ المجتمعَ هو الذي جعله مقدساً، فالمقدس عنده هو شيءٌ من العالم الدنيوي أُمْحِيِتْ طبيعتُه الأولى وتغيّرت ملامحه تحتَ رغبةِ البشر أنفسِهم، ثم يقدّرون أنّ ذلك الشيء أو تلك الأشياء باتت مستقلة عن إرادتهم، فالناس هم من ينتجون المقدس مثل آلهتهم، وبذلك يكون دور كايم همش الإنسان كفرد وجعل المجتمع هو الإله الذي يتحكم فيه، فالفرد ليس له قدرةٌ على التفكير بشكل مستقل وإنّما المجتمع هو مَنْ يفكر نيابة عنه!!

وهذه النظرة المتطرفة لتأثير المجتمع لم ولن يُسلّم بها العلماء والباحثون، وقد أثبت المنهج الوضعي برمته فشلَه الذريع في العلوم الإنسانية.

فما نحتاج معرفته هو الإنسان في ذاته، والإنسان كفرد إجتماعي، من دون إهمال أيّ واحد منهما أو تضخيمه على الآخر، فعندما نتعرف على الإنسان بوصفه كائن عاقل مثلاً، سوف نتسائل عن تأثيره الفكري في المجتمع وتأثير المجتمع فيه، أمّا إذا أهملنا حقّه وقدرته في التعقل والتفكير، ونظرنا له بوصفه حالة إجتماعية محضة، حينها لا يعدو أن يكون الفرد مجرد متلقٍ سلبي لما يمليه عليه المجتمع.

وما توصّل له دور كايم هو نتاج طبيعي لهذا الإهمال الذي لم يعترفْ بوجود للإنسان خارج حدود المجتمع، ومن هنا أصبح الدّين في نظره حالةً يفرضها الإجتماع الإنساني دون أنْ يكون في عمق شعور الفرد دافع داخلي يكون منتجاً لهذا الارتباط الديني، أو أنْ يكون الفرد قادراً بعقله وبشكل مستقل على تمييز الحق عن الباطل، وبالتالي لا تُصادرُ هذه المدرسة الدّين فحسب وإنّما تصادر الإنسان أيضاً، فكل ما تجمعه هذه المدرسة من شواهد لا يرتقي لتجريد الإنسان عن خصوصياته الفكرية والمعرفية، فمهما تعاظمت ضغوطات المجتمع يبقى الفرد يشعر باستقلاله الفكري والمعرفي.

وعليه فإنّ الدينَ ليس حالةً نسبيةً وفي تحول دائم بحسب ما يلميه العقل الجمعي، وإنمّا هو سعيٌ أصيل للارتباط بالحقيقة المقدّسة بوصفها علةً للكون والوجود، والإنسان في سعيه هذا إمّا أنْ يصيبَ وإمّا أنْ يخطئَ، ومِنْ هنا فالإنسان مطالب دوماً بالبحث الذي يوصله لليقين الجازم بالدّين الحقّ، ولا يكون معذوراً بمجرد مسايرة ما عليه المجتمع.

ومن خلال هذه المقدمة المقتضبة يتضح أنّ السؤال مبنيّ من الأساس على التسالم بكون الفرد منزوعَ الارادة اتجاه ما يمليه المجتمع من قناعات دينية، وهذا تصور خاطئ بحسب منطق العقل، وبحسب التجربة البشرية.

وقد اكّدت النصوص الإسلامية على دور العقل في معرفة الحق وتمييزه عن الباطل، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "كن مع الحق حيث كان، وميز ما اشتبه عليك بعقلك فإن حجة الله عليك وديعة فيك وبركاته عندك". وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: "العقل رسول الحق". وعنه (عليه السلام) قال: "العقل شرع من داخل، والشرع عقل من خارج". وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل". وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم: "يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول" (العقل والجهل في الكتاب والسنة، محمد الريشهري ص 74)

وعليه فإن الإنسان العاقل يظل قادراً وفي جميع الظروف على معرفة الدين الحق وتمييزه عما هو باطل، فالعقل هو حجة الله على جميع العباد ولا عذر لمن يهمل عقله بحجة تأثير المجتمع وضغوطه.

وقد عمل القرآن على تحرير العقل من تأثيرات المحيط الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، وعمل على تحطيم كل الاغلال التي تمنع العقل من رؤية الحقائق كما هي، يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىَ عَذَابِ السّعِيرِ}. ويقول:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}، وغير ذلك من الآيات التي لم تعترف بمنهج التقليد الاعمى للمجتمع.

فمسؤولية الإنسان هي التحرر من ضغط المجتمع واتباع الحق سواء كان هذا الحقّ موافقاً لما عليه المجتمع أو مخالفاً له، وهذه المسؤولية ليست خاصة بمن يولد مثلاً في مجتمعات كافرة وإنما تشمل حتى من يولد في مجتمع مسلم، فالذي ينتمي للإسلام لمجرد أنّه وُجِدَ في مجتمع مسلم لا يكون معذوراً أيضاً ما لم يَقُمْ هو بنفسه بالبحث الذي يورثه العلم واليقين بأحقية الإسلام، وهذا عين العدالة التي يسأل عنها السائل؛ وذلك لأنّ الجميع مطالبٌ بتحصيل العلم اليقينيّ بما هو عليه من دِين.