ما السّببُ الذي جعل إستماع الموسيقى ـ الأغاني ـ منَ الذّنوبِ الكبيرة معَ العلم أنّها لا تضرُّ أحداً؟ وما هوَ تأثيرُها على المُستمعِ؟ وما جزاءُ مُستمع الأغاني عندَ اللهِ تعالى؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ممّا لا شكَّ فيه أنَّ الغناءَ وما يُصاحبُه مِن موسيقى منَ الظّواهرِ الرّائجةِ في المُجتمعاتِ الحديثة، وقد ساعد التقدّمُ العلميُّ والتقنيّ في تحويلها إلى ثقافةٍ تفرضُ نفسَها على الجميع، فقديماً كان الغناءُ له مناسباتُه الخاصّة وفي الأماكنِ التي تُناسبُ أهلَ التّرفِ والمُجون، أمّا اليومَ فقد أصبحَ مُتاحاً في كلِّ مكانٍ وزمان، فشبكاتُ الإنترنت وأجهزةُ الموبايل الحديثة وشبكاتُ البثّ التلفزيونيّ وأجهزةُ التّسجيلِ ومكبّرات الصّوت لا يخلو منها مكانٌ، منَ البيتِ إلى وسائل المواصلات إلى الأسواق والمحلّات التجاريّة والشوارعِ العامّة، وقد يكونُ منَ المُستحيل أن يمضي يومٌ ولا يطرقُ سمعَ الإنسانِ الغناءُ والموسيقى بقصدٍ أو من دونِ قصد، ولذا يمكنُنا أن نقول أنَّ الحضارةَ الحديثةَ قد وصلَت إلى درجةِ الإدمانِ، بحيثُ لو إفترضنا توقّف الغناءِ والموسيقى في كلِّ العالم ولمدّةِ يومٍ واحدٍ لشهدنا إضطراباتٍ إجتماعيّةً ونفسيّةً تجتاحُ العالم بأجمعِه، ولذا فإنَّ مُقاربةَ هذا الموضوع تفتقدُ للكثيرِ مِن عوامل الحياديّة والموضوعيّة، ممّا يجعلُ الغالبيّةَ في حالةٍ منَ الإستسلامِ للضّغوطِ الهائلةِ التي تُحدثُها هذهِ الظّاهرةُ على نمطِ الحياةِ العصريّة، ومنَ الواضحِ أنَّ المساحةَ الكبيرة التي تتمتّع بها هذه الظّاهرة ناتجةٌ مِن كونِ الغرائزِ والرّغباتِ تميلُ إليها وتعشقُها، فالنّفسُ بطبعِها تميلُ إلى اللهو وتنجذبُ لكلِّ ما يُحرّكُ هواها ويُطرب دواخلها، الأمرُ الذي يُعقّد دراسةَ هذه الظاهرةِ لكونِها تدورُ بينَ حُكمين، فبحكمِ الرّغبةِ النفسيّة لا تكادُ تجد إنساناً لا يرغبُ فيها وبحُكمِ العقلِ وما يخدمُ تطلّعاتِ الإنسانِ المعنويّة والرّوحيّة لا يمكنُ قبولها كظاهرةٍ مُتحكّمةٍ في المُجتمعاتِ الإنسانيّة، ومِن هُنا فإنّ تدخّلَ الأديانِ السّماويّة في حسمِ مثلِ هذه الظواهرِ أو التحكّمِ فيها يُمثّلُ ضرورةً لتكاملِ الحياةِ الإنسانيّة، ولكَي نفهمَ هذه الضّرورةَ لابُدَّ منَ التّذكيرِ بكونِ الإنسانِ مُركّباً مِن عقلٍ وهوى، والإنسانُ بطبيعتِه لا يحتاجُ إلى مَن يُذكّرُه بما يهوى وما تميلُ إليه نفسُه مِن غرائزَ وشهوات، فكانَ منَ الضّروريّ من وجودِ مُذكّرٍ يُنبّهُ الإنسانَ إلى العقلِ وما يحتويهِ مِن قيمِ الكمالِ وفضائلِ الجمال الرّوحي، وهذا ما تقومُ به الرّسالاتُ السّماويّة التي تُرشدُ الإنسانيّة إلى أهدافِها السّامية، وممّا لا شكَّ فيه أنَّ الإستماعَ للغناءِ والمُوسيقى ممّا يُلهي النفسَ ويُطربُها، وعليه فهيَ منَ المُحفّزاتِ النفسيّة التي تُدقدقُ المشاعرَ وتثيرُ الغرائزَ والرّغبات، فهي بالتّالي تسيرُ في الإتّجاهِ المُعاكس الذي جاءت مِن أجله الرّسالات، والصّراعُ الحقيقيّ الذي يعيشُه الإنسانُ كفردٍ أو كمجتمعٍ هو صراعُ الحقّ والباطل، وكلُّ ما يخدمُ هذا الصّراعَ سلباً أو إيجاباً يكونُ محلّاً لاهتمامِ أهلِ الحقّ والباطل، ولا أظنُّ أنَّ هُناكَ عاقلاً يُمكنُه الإدّعاءُ بأنَّ الغناءَ والموسيقى تُشكّلُ دعامةً مِن دعاماتِ الحقّ أو حتّى مُجرّدَ حافزٍ يدفعُ مسيرةَ الحقِّ في قِبالِ مسيرةِ الباطل، فكلُّ ما يحجبُ عقلَ الإنسانِ أو يجعلُ قلبَه لاهياً عن ذكرِ اللهِ يجبُ تركُه والحذرُ منه، قالَ تعالى: (أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدرَهُ لِلإِسلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيلٌ لِّلقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكرِ اللهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) معَ أنَّ هذهِ الآيةَ لا تتحدّثُ عنِ الغناءِ بشكلٍ خاصّ إلّا أنّها تتحدّثُ عن قانونٍ كُلّيٍّ يُبيّنُ الفرقَ بينَ القلوبِ المُستنيرةِ بنورِ ربّها وبينَ القلوبِ القاسيةِ واللاهية عن ذكرِ ربّها، فإذا كانَ الإسلامُ يعملُ على شرحِ القلوبِ فإنّ الغناءَ حتماً يعملُ في الإتّجاهِ المُعاكسِ لذلك، ومِن هذا المنظارِ سوفَ ننظرُ للرّواياتِ التي حرّمَت الغناءَ، وسوفَ نكتشفُ أنّها حرّمت الغناءَ لكونِه لا ينسجمُ بطبيعتِه معَ تحقيقِ العبوديّة الحقّةِ للهِ تعالى، فقد خصّصَ الحُرُّ العامليّ في وسائلِه باباً باسمِ (تحريمِ الغناءِ حتّى في القرآن وتعليمِه وأجرتِه) جاءَ فيه بسندِه إلى زيدٍ الشّحّام قال: قالَ أبو عبدِ الله (عليه السّلام): بيتُ الغناءِ لا تؤمنُ فيه الفجيعةُ، ولا تجابُ فيه الدّعوة، ولا يدخلُه المَلَك) والواضحُ أنَّ هذه الرّوايةَ تحدّثت عَن ثلاثة أشياءٍ تحدثُ في بيتِ الغناءِ وكلّها تؤكّدُ على حقيقةٍ واحدةٍ وهيَ أنَّ بيتَ الغناءِ مُختلفٌ عَن بيتِ العبادة، ففي بيتِ العبادةِ يأملُ الإنسانُ في اللهِ تعالى فيدفعُ عنهُ الفجيعةَ ويستجيبُ فيه الدّعاء وتدخلُه الملائكة.

وفي روايةٍ أخرى قالَ: سألتُ أبا عبدِ الله (عليه السّلام) عَن قولِه عزَّ وجل: "واجتنبوا قولَ الزّورِ" قالَ: قولُ الزّورِ: الغِناء) ويؤكّد هذا المعنى روايةٌ أخرى، عَن مُحمّدٍ بنِ مُسلم وأبي الصباحِ الكنانيّ، عَن أبي عبدِ الله (عليه السّلام) في قولِ اللهِ عزَّ وجلّ: "والذين لا يشهدونَ الزّور" قالَ الغِناء) فجعلت الرّواية الغناءَ أحد مصاديقِ قولِ الزّور، وبالتالي إرتكزَت في الحُرمةِ على المُعادلةِ العامّة التي أشرنا لها، وهي أنَّ الأشياءَ إمّا أن تكونَ ممّا يُقوّي العقلَ ويخدمُ الحقَّ، وإمّا ممّا يُقوّي الهوى ويخدمُ الباطل، وقولُ الزّور هوَ السّلاحُ الذي يتسلّحُ به الباطلُ في قبالِ الحقّ ممّا يعني أنَّ الغناءَ صفةٌ مُلازمةٌ لأهلِ الباطلِ ولا علاقةَ لهُ بأهلِ الحقّ.

وفي روايةٍ عن الإمام الباقر (عليه السّلام) عن محمّدٍ بن مسلم قالَ: سمعتُه يقول: الغناءُ ممّا وعدَ اللهُ عليه النّار، وتلا هذهِ الآية: (ومنَ النّاسِ مَن يشتري لهوَ الحديثِ ليُضلّ عن سبيلِ اللهِ بغيرِ علمٍ ويتّخذُها هزواً أولئكَ لهم عذابٌ مُهين) وعن الإمامِ الصّادق (عليه السّلام) قال: الغناءُ ممّا قالَ اللهُ عزّ وجلّ: (ومنَ النّاسِ مَن يشتري لهوَ الحديث ليُضلّ عَن سبيلِ الله) وعنه أيضاً: (الغناءُ عشُّ النّفاق). الأمرُ الذي يُؤكّد أنّ الحُرمةَ مُنطلقةٌ مِن كونِ الغناءِ مفسدةً للرّوحِ وتضعيفاً للعقلِ وقسوةً للقلبِ فهو لا يعدو أن يكونَ نفاقاً، أو زوراً منَ القولِ، أو لهواً من الحديث، وكلُّ ذلكَ يُؤدّي إلى إضلالِ النّفسِ عَن سبيلِ الله. فعَن يونسَ بنِ يعقوب، عن عبدِ الأعلى قال: سألتُ أبا عبدِ الله (عليه السّلام) عنِ الغناء وقلتُ: إنّهم يزعمونَ أنّ رسولَ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله) رخّص َفي أن يُقال: جئناكُم جئناكم حيّونا حيّونا نحيّيكم، فقالَ: كذبوا إنّ الله عزَّ وجلّ يقولُ: "وما خلقنا السّماواتِ والأرضَ وما بينَهما لاعبين * لو أردنا أن نتّخذَ لهواً لاتّخذناهُ مِن لدُنّا إن كُنّا فاعلين * بل نقذفُ بالحقِّ على الباطلِ فيدمغُه فإذا هو زاهقٌ ولكُم الويلُ ممّا تصفون".  

 

ولو تتبّعنا كلَّ رواياتِ التّحريمِ نجدُها ترتكزُ في تحريمِها على كونِ الغناءِ يُمثّلُ جبهةً مِن جبهاتِ الباطلِ في قبالِ الحقّ، حيثُ يعملُ على طغيانِ النّفسِ وهيمنتِها على عقلِ الإنسانِ وقلبِه، وهناكَ روايةٌ لطيفةٌ كشفَت عَن هذهِ المُعادلةِ بشكلٍ واضحٍ ومباشر فعن يونس قال: سألتُ الخراسانيّ (عليه السّلام) عنِ الغِناء؟ وقلتُ: إنَّ العبّاسيّ ذكرَ عنك أنّكَ تُرخّص في الغناء فقالَ: كذبَ الزّنديقُ ما هكذا قلتُ له: سألني عن الغناءِ، فقلتُ: إنّ رجلاً أتى أبا جعفرٍ صلواتُ اللهِ عليه فسأله عن الغناءِ، فقال: يا فلان إذا ميّزَ اللهُ بينَ الحقِّ والباطل فأينَ يكونُ الغناء؟ قالَ: معَ الباطل، فقالَ: قَد حكَمت)، وتُشكّلُ هذهِ الرّوايةُ أيضاً إجابةً مُباشرةً لسؤالِ السّائلِ عَن علّةِ تحريمِ الغناء، حيثُ يكفي في حُرمتِه أنّه مِن أقسامِ الباطل، فكيفَ بعدَ ذلكَ يُقال لأهل الحقّ لِماذا تُحرّمونَ الغِناء؟  

في المُحصّلةِ يجبُ على الإنسانِ المؤمن أن يتّقي اللهَ ويحذرَ الشّبهاتِ، ولا يبحَث عنِ المخارجِ هُنا وهناك ليُرضي نفسَه أو ليُشبعَ رغباتِه، فإنّ الفُقهاءَ عندَما يبحثونَ في المسائلِ الشرعيّةِ إنّما يتّبعونَ منهجاً علميّاً يتناول الموضوعاتِ الشّرعيّة بقالبٍ صناعيٍّ ومهنيّ، ولا يبحثونَ في نيّاتِ المُكلّفين ودوافعِهم الشّخصيّةِ، ولا يُرتّبونَ المسائلَ على مُستوى الإيمانِ الشّخصي لهم، فمثلاً في موضوعِ الغناء قد أجمعوا على حُرمتِه لوجودِ النّصوصِ الدّالّةِ على ذلك، إلّا أنّهم إختلفوا في حُرمةِ المُوسيقى لعدمِ وجودِ النّصوصِ الصّريحةِ، فالبعضُ حرّمها بحُرمةِ أدواتِ اللهو، والبعضُ أجازَ أنواعاً منها وهي التي لا تكونُ معروفةً عندَ مجالسِ اللهوِ والطّرب، ثمَّ أوكلوا تحديدَ ذلك لعُرفِ المُتديّنين، ممّا يجعلُ الإنسانَ المُؤمنَ أمامَ المسؤوليّةِ الشرعيّةِ فينظرُ في كلِّ موردٍ بعينِ الحقِّ والموضوعيّةِ فيتجنّبُ كلَّ ما يُصنّفُ كنُصرةٍ للباطل.